أنهت الحرب الإسرائيلية على غزة بجبهات إسنادها الثلاث في لبنان واليمن والعراق حرب الظل الممتدة منذ عقود طويلة بين إسرائيل وإيران، التي تحولت إلى صراع أكثر مباشرة، تتبادل خلاله الدولتان الضربات الصاروخية لأول مرة، وهو تطور لم تخطط له طهران على الأرجح، بل وتجنبت الذهاب إليه غير مرة.
رغم مباركة إيران لطوفان الأقصى منذ اليوم الأول فإنها حسمت خياراتها مبكرًا، فسعت لتفادي الذهاب مع إسرائيل وشريكتها الولايات المتحدة إلى حرب شاملة. وأبلغ المرشد الإيراني، علي خامنئي، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بأن طهران لن تدخل الحربَ نيابةً عن حماس، بل وحث هنية على إسكات الأصوات التي تدعو إيران للانضمام إلى المعركة بكامل قوتها.
واكتفت إيران بتقديم الدعم لجبهات الإسناد في حرب الإشغال، وتأكدت سياساتها لاحقًا بالامتناع عن الرد على استهداف إسرائيل المتكرر لمستشاريها العسكريين بسوريا ولبنان، ضمن سياسة "الصبر الاستراتيجي".
"فوجئت إيران بعملية طوفان الأقصى، فوجدت نفسها تركض لمواكبة التغيرات التي حدثت" يوضح الباحث المتخصص في الحركات الجهادية ومكافحة الإرهاب أحمد سلطان لـ المنصة الكيفية التي تعاطت بها طهران مع عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول وتداعياتها.
يشير إلى أن هذه العملية بمثابة زلزال أدت توابعه للضربات التي تلقتها الجماعات الموالية لطهران "لذا سارعت إيران للانخراط في هذا الصراع بشكل أكبر بدعم جبهات الإسناد لتطبيق مفهوم وحدة الساحات".
الصبر ثم الصبر
ببراجماتية معهودة واكبت إيران التصعيد على مختلف الجبهات، سواء في الجنوب أو الشمال، دون التخلي عن "الصبر الاستراتيجي"، الذي اعتادت استخدامه في الأزمات التي واجهتها، لكن مخزون هذا الصبر نفد مرتين.
المرة الأولى في أبريل/نيسان الماضي، بعد ستة أشهر من طوفان الأقصى، بإطلاق عشرات المسيرات والصواريخ الباليستية صوب تل أبيب والأراضي الفلسطينية المحتلة، ردًا على عملية استهداف قنصليتها في دمشق، والأخرى قبل أيام بهجمة صاروخية استهدفت مواقع ومنشآت عسكرية إسرائيلية، ثأرًا لاغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس بأراضيها، وحسن نصر الله الأمين العام لحزب الله.
يتجاوز هذا التصعيد القواعد السابقة للصراع، فعلى مدار العقود الماضية انخرطت تل أبيب وطهران في حروب ظل تبادلتا فيها الهجمات السيبرانية وعمليات الاغتيال التي طالت عملاء نووين وعسكريين إيرانيين، فيما أوكلت طهران إلى أذرعها مهاجمة إسرائيل أو مصالحها بالمنطقة، ودأبت الحكومات الإسرائيلية على تهديد إيران بتعطيل مشروعها النووي.
حاولت إيران ضبط النفس والحفاظ على تكتيك الصبر الاستراتيجي
"إيران حاولت ممارسة ضبط النفس والصبر الاستراتيجي المعتاد خلال تحولات هذه الحرب خشية إفساد علاقتها بالولايات المتحدة والتأثير على مفاوضات الاتفاق النووي" يقول مدير مركز الدراسات الاستراتيجية الإيرانية العربية، مصدق بور.
يوضح لـ المنصة الاستراتيجية الإيرانية "الهجوم على تل أبيب لا يعني تخلي إيران عن الصبر الاستراتيجي، لأن نتنياهو وضعها في موقف لا تحسد عليه باستهداف مصالحها وقنصليتها مرة، واغتيال رموز سياسية بأراضيها مرة أخرى، وهو تعدٍّ على السيادة ويمس كرامة إيران".
مع ذلك، لا يشي الرد الإيراني الأخير واستهداف منشآت عسكرية إسرائيلية بتغير كبير في نهج طهران حتى وإن أظهرت أنها أكثر استعدادًا لجولات من التصعيد، إذ يعتقد الباحث المختص في الشأن الإيراني وقضايا الشرق الأوسط وجدان عبد الرحمن أن إيران ما زالت تتمسك بالصبر الاستراتيجي.
يشير إلى تمسُّك إيران بالصبر رغم ضرب إسرائيل في أبريل الماضي منصات الدفاعات الجوية بالقرب من محطة نطنز النووية، مرورًا باغتيال الرؤوس الكبيرة في محور المقاومة، واستهداف كبار قادتها العسكريين في لبنان وسوريا على مدار هذا العام.
براجماتية إيرانية
"إيران معروفة بالبراجماتية، وهذا نهج قديم تواظب عليه ومعروفة بقدرتها على امتصاص الغضب والضربات"، موضحًا أن أولويتها مشروعها ومكاسبها في المنطقة. أما إسرائيل فـ"تتخذ منحىً جديدًا وتريد جر إيران إلى حرب مفتوحة بقطع أذرعها في المنطقة قبل امتلاكها قنبلة نووية كسلاح ردع" يوضح عبد الرحمن لـ المنصة.
في المقابل، يرى أحمد سلطان أن استراتيجية الصبر أضرتْ طهران، وسمحت لإسرائيل بترميم جزء من صورتها التي اهتزت في 7 أكتوبر ، باغتيال شخصيات بارزة في محور المقاومة مثل إسماعيل هنية وحسن نصر الله "لو كانت ردت بشكل سريع على اغتيال هنية لما اغتيل نصر الله".
"اختارت إيران الحفاظ على الخطوط والتفاهمات القديمة وقواعد الاشتباك التي لا تجرها إلى حرب شاملة في وقت كانت الحرب مستعرة في غزة ولبنان، وهو ما أثار الشكوك حول الدور الإيراني"، يقول سلطان.
الموقف من حزب الله
منذ إعلان حزب الله "جبهة إسناد غزة"، التي بدأت في اليوم الثاني من طوفان الأقصى، كانت إيران حذرةً خوفًا من وضع الحزب وتنظيماته العسكرية وقدراته في مرمى النيران الإسرائيلية، فعملت على كبح جماحه لعدم استخدام الصواريخ المتطورة، تحسبًا لجر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الولايات المتحدة، إلى المعركة.
مع ذلك كان حزب الله رأس الحربة في محور المقاومة وسر طمأنينة إيران في قدرتها على الصمود أمام إسرائيل إذا اتسعت رقعة الحرب، لكن تساقط القيادات العسكرية واحدًا تلو الآخر وصولًا إلى رأس الحزب نصر الله وفقدان الحزب هيكله التنظيمي وضرب شبكة اتصالاته ساهم بشكل كبير في تعديل حسابات إيران التي وجدت نفسها مُجبرةً على توجيه ضربة جديدة لإسرائيل أكثر قسوةً من ضربتها السابقة في أبريل الماضي.
الرد الأخير أخرج إيران من مأزق التخلي عن أذرعها
"بردِّها الأخير على إسرائيل أخرجت إيران نفسها من مأزق التخلي عن دعم أذرعها النشطة بعد تململ بين أوساط الفصائل الولائية، المرتبطة بطهران ارتباطًا عضويًا" يقول سلطان، معتبرًا أن ما تردد عن التخلي الإيراني ما هو إلا محاولة لتأليب الفصائل والجماعات عليها "العلاقة لن تتغير إلا إذا تغير الواقع الاستراتيجي".
ثمة سبب آخر دفع طهران إلى الرد الأخير على إسرائيل، تقول مديرة وحدة الرصد بالمنتدى العربي للدراسات الإيرانية شيماء المرسي إن إيران شعرت بتهديد أكثر من أي وقت مضى بعد الضربات المتلاحقة على أذرعها في لبنان واليمن وسوريا، وهو ما يقوّض محيطها الحيوي وصولًا إلى استهدافها بشكل مباشر.
"تحركات إيران الأخيرة تريد من خلالها التأكيد على أنها تمتلك ذراعًا طويلةً هي الأخرى، وبإمكانها استهداف مناطق استراتيجية وعسكرية ونفطية ونووية والهدف حماية المصالح الاستراتيجية وأمنها القومي في المقام الأول" تقول المرسي لـ المنصة.
يد تحمل السلاح وأخرى تنشد الحوار
لا يمكن فصل الدور الذي تضطلع به إيران الراعية لمحور الممانعة، عن تحركاتها الموازية لفتح حوار مع الولايات المتحدة والغرب للحد من عزلتها الدولية وإنعاش اقتصادها المتأثر بالعقوبات، فأصبحت أكثر تحفظًا في اللجوء للحلول العسكرية.
تبنى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان هذا المسار منذ انتخابه في يوليو/تموز الماضي، مؤكدًا رغبة بلاده في بدء صفحة جديدة مع الغرب لإزالة العقوبات، وتوج ذلك باختيار مستشارين ووزراء معروف انفتاحهم على الغرب، مثل مستشاره السياسي، جواد ظريف، ووزير خارجيته عباس عراقجي.
كانت رحلة بزشكيان الأخيرة إلى نيويورك خلال فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية سبتمبر/أيلول الماضي شاهدة على هذا المسعى، إذ وصف الأمريكيين بـ"الإخوة" وتنصل من سيطرة بلاده على قرار الحوثيين الذين يشنون هجمات مكثفة على السفن المارة بالبحر الأحمر المرتبطة بعلاقات مع إسرائيل ضمن جبهة إسناد غزة.
يعرج مصدق بور على مفاوضات الملف النووي، معتبرًا إياها الخيط الرفيع المتبقي لدى إيران مع الغرب ومن أجله تقود طهران جهودًا دبلوماسيةً لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة والدول الغربية، لكنه يشدد على أنه "إذا تعرضت طهران للاستهداف في أي مرحلة ستغلق جميع المنافذ الدبلوماسية مع الغرب وستتسع الحرب".
تربط الولايات المتحدة مفاوضات البرنامج النووي ورفع العقوبات بالدور الإقليمي لإيران، لكن مصدق لا يرى تعارضًا بين المسارين، مُستشهدًا بالصين والولايات المتحدة فرغم خلافاتهما الحادة، لم يتضرر الملف الاقتصادي، ويعتبر أن بلاده تمارس "براجماتية سياسية" لم تتخل فيها عمَّا وصفه بـ"الروح الثورية لدعم جبهات المقاومة".
في المقابل، يشير وجدان عبد الرحمن إلى استخدام طهران أذرعها في مشروعها التفاوضي للضغط على الغرب ونجاحها في الحصول على بعض المكاسب بالإفراج عن ودائعها المالية، لكن الدول الغربية عادت تُضيق الخناق على طهران وتحولت نقاط القوة في يد إيران إلى نقاط ضعف في ظل الضربات التي تتلقاها الجماعات الموالية لها لإجبارها على تقليص هذا الدور.
"الأمور تشير إلى مزيد من التصعيد بين إيران وإسرائيل في ظل التهديدات الإسرائيلية، وسعي حكومة نتنياهو إلى توسيع دائرة الحرب، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد، فالمستهدف هو النظام الإيراني نفسه لكنها بدأت في القضاء على أذرع إيران أولًا" يقول عبد الرحمن.
الانزلاق إلى حرب شاملة يراه البعض أقرب من أي وقت مضى مع تضاؤل فرص التوصل لوقف إطلاق النار في غزة بعد عام كامل فشلت فيه جهود التهدئة وانتقال الصراع إلى جبهات متعددة، إلا أن المحلل الإيراني مصدق بور يرى أن "التصعيد المتدرج" هو الاحتمال الأرجح بين إسرائيل وإيران على وجه الخصوص، إذا لم تقرر الولايات المتحدة تغيير هذه المعادلة في أي وقت.