أسوأ ما في ذكرى مرور عام على هجوم 7 أكتوبر المذهل الذي قامت به حركة حماس هو أن نهاية ما تلته من حرب إبادة جماعية يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة طوال سنةٍ كاملةٍ، وعلى مشهد ومرأى من العالم بأكمله، لا تبدو قريبةً في الأفق.
وبينما يستمر القصف والتهجير والتنكيل تعددت الوعود الكاذبة باقتراب التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب، وفي كل مرة نتجاوز موعدًا مفترضًا أو تتعقد صفقة كانت وشيكة، يزداد الموقف تعاسة ويتواصل الدمار وهدر دماء الأبرياء
يبدو أن هذه الحرب، التي حلَّت ذكرى شرارتها أمس، ستتواصل لسنوات وتتوسع لتشمل إيران والولايات المتحدة، في سيناريو يتمناه رئيس الوزراء الإسرائيلي وأنظمة عربية نفطية، يأملون القضاء على إيران ومعها "محور المقاومة" برمته، في لبنان وسوريا واليمن والعراق.
فشعور الهزيمة الذي خلَّفه هجوم حماس، مع مقتل هذا العدد غير المسبوق من الإسرائيليين في هجوم واحد منذ إقامة الدولة الصهيونية عام 1948، أحدَثَ ما يشبه الزلزال في الداخل الإسرائيلي الذي توافق على ضرورة أن يكون الرد شديد القسوة، لاستعادة ورقة الردع الإسرائيلية التي طالما سمحت لها بشن الهجمات على الدول العربية القريبة والبعيد متى شاءت، وترسيخ سياساتها التوسعية في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، خاصة في الضفة الغربية والقدس.
قبل السابع من أكتوبر، ورغم أزماته الداخلية، ظن نتنياهو أنه أغلق وإلى الأبد ملف الدولة الفلسطينية مع ترسيخ الاستيطان وتعزيزه على الأرض، وفي الوقت نفسه المضي قُدُمًا في اتفاقات التطبيع مع كل الدول العربية تقريبًا، سواء كان تطبيعًا باردًا أو ساخنًا.
لكن بعد أن بيّن هجوم المقاومة أن الملف الفلسطيني لم يُغلق، زاد تصميم نتنياهو على الانتقام بقسوة في محاولة لترسيخ معادلة "السلام مقابل السلام" التي قدّمها دومًا بديلًا عن صيغة "الأرض مقابل السلام"، بل ونجح في دفع الدول العربية صاغرة إلى القبول بها، والكف عن المطالبة الجديّة بالدولة الفلسطينية على ثلث أراضي فلسطين التاريخية.
سيكون من السهل القول إن استمرار هذه الحرب والاستهتار بالخسائر البشرية الفلسطينية المفزعة واعتياد العالم عليها وكأنها عدَّاد لإحصاء المواليد، وليس القتلى، دليل على فشل النظام الدولي وغياب أي مصداقية للمؤسسات الدولية وقوانين الحرب وحقوق الإنسان.
لكن لأن إسرائيل كانت دائمًا استثناءً يجعل "على راسها ريشة" في مواجهة المجتمع الدولي بأكمله، في ظل الحماية التي تتمتع بها من حليفتها وشريكتها الولايات المتحدة، وبغض النظر عن أي أحكام وقرارات تصدر عن المحاكم الدولية.
وفي ظل انغماس روسيا في مشاكلها الداخلية وحروبها على الجبهة الأقرب لها في أوروبا، واعتماد الصين استراتيجية الصبر الطويل حتى تتبوأ صدارة العالم عبر قوتها الاقتصادية، فلا يوجد الآن من بإمكانه ردع إسرائيل وإجبارها على وقف الحرب والمخاطرة بالتصعيد مع رعاتها الرسميين في واشنطن.
ابن بايدن العاق
طوال العام الماضي، تبارى المحللون والمراقبون والدبلوماسيون في تقدير ما إذا كانت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن راغبة أو قادرة على دفع نتنياهو إلى وقف الحرب، بعد تحقيقه نسبيًا معظم أهدافه المعلنة بعد هجوم 7 أكتوبر.
في اليوم التالي للهجوم، قدم بايدن البالغ من العمر 82 عامًا، والمنتمي لجيل الأمريكيين المنبهرين بنجاح التجربة الصهيونية لدرجة تكراره المتواصل أنه "صهيوني فخور"، كل الدعم لإسرائيل ولم يخفِ انحيازه لها دون لَبس.
صحيح أن السياسة الرسمية الأمريكية تعتبر حماس وحزب الله وبقية أذرع المقاومة المدعومة من إيران منظمات إرهابية، ولكن بايدن قدم دعمًا مطلقًا وسخيًا لنتنياهو، بتشكيل غرفة عمليات مشتركة لمراقبة تحركات قادة حماس في القطاع وتصفيتهم، بجانب تحديد مواقع احتجاز المختطفين الإسرائيليين لدى الحركة.
ولكن بعد أشهر من استمرار حرب الإبادة ومشاهد القتل العشوائي البشع الذي يتعرض له الفلسطينيون أمام أعين الجميع، ازداد حرج إدارة الرئيس بايدن وتعقدت أزماته، ولم يُخِف ضيقه من وصف "إبادة جماعية" الذي يردده الأمريكيون المؤيدون لفلسطين أمامه في معظم المناسبات الجماهيرية التي حضرها خلال هذه السنة.
ولأن سنةَ الحرب هذه سنةٌ انتخابيةٌ أمريكيةٌ ساخنةٌ؛ أصبحت قضية فلسطين لأول مرة تقريبًا قضية انتخابية أمريكية داخلية في ظل اهتمام كلا المرشحين، الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية كامالا هاريس، بضمان الفوز بولاية ميشيجان المتأرجحة، حيث كتلة الناخبين العرب والمسلمين التي بإمكانها ترجيح مرشح على الآخر.
ومع أن المؤسسات الأمريكية الحاكمة لا تزال خاضعةً بالكامل لنفوذ اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل، الذي بإمكانه حتى الآن التأثير في القرار والإطاحة بمرشحي الكونجرس، فإن هناك تزايدًا ملحوظًا في وعي قطاع واسع من الأمريكيين، خاصة بين الشباب والمثقفين، بمأساة الشعب الفلسطيني، وإدراكهم أن دعم بلادهم المطلق "المصبوب في الحديد" لإسرائيل هو في حقيقته دعم لنظام عنصري يقوم على احتلال أرض شعب آخر وطرده منها.
ورغم أن نتنياهو ظل يرفض المبادرات الأمريكية ويوجه الإهانة تلو الأخرى لبايدن، سرًا وعلانيةً، منحت واشنطن إسرائيل شهورًا طويلةً لتشفي غليلها قدر ما ترغب في الانتقام من الفلسطينيين، وكأن علاقة بايدن الممتدة برئيس الوزراء الإسرائيلي تشبه علاقته بنجله هانتر، الذي أدين في قضايا تهرب ضريبي ويشتبه في أنه استغل منصب والده للتربح، لكنه رغم ذلك ابنه الذي يحبه وسيبقى يدافع عنه حتى النهاية مهما ارتكب من جرائم.
ملاحقة صور النصر في لبنان
منذ مطلع العام الحالي تقريبًا، يرفض نتنياهو بإصرار الموقف الأمريكي الداعي إلى وقف إطلاق النار، بعد أن حقق تقريبًا معظم أهداف حربه الممتدة منذ 8 أكتوبر، فحماس لم تعد قادرة على شن هجوم مماثل للسابع من أكتوبر بعد تدمير قطاع غزة ومعظم قدراتها العسكرية. لكن ذلك وحده لا يجلب له "صورة النصر" التي يريدها، والتي ستمكنه من الاستمرار في منصبه الذي تمسك به لسنوات طويلة.
على مدى شهور طويلة، كان الجميع يتحدث عن أن صورة النصر هذه هي اغتيال يحيى السنوار وإعلان حماس استسلامها. ولكن بمرور الوقت تبينت صعوبة الهدف الذي طال انتظاره. وفي ظل ازدياد الضغوط على نتنياهو لوقف الحرب وجلب المختطفين، خاصة بعد مقتل ستة منهم أثناء محاولة "تحريرهم"، وذلك في وقتٍ كان نتنياهو يزعم فيه أن القوة العسكرية هي ما سيعيد كل المحتجزين، جاء قراره الواضح بالهرب من مطالب وقف الحرب في الجنوب بفتح جبهة الشمال.
بدأت إرهاصات هذه الخطة في يوليو/تموز، باستهداف القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، وفي اليوم التالي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في عملية جريئة ومتطورة في قلب طهران، واختبار رد الحزب على استهداف العاصمة اللبنانية، ورد إيران على نقل المواجهة إلى أراضيها.
أعلنت إيران أنها سترد بقوة. لكن الرئيس الإيراني أقرَّ لاحقًا أن طهران استجابت لمطالب أمريكية بتأجيل هذا الرد وتجنب التصعيد لإفساح المجال أمام محاولات الوسطاء للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ومع ذلك، كان قرار نتنياهو الحاسم الاستمرار في دفع المواجهة نحو إيران، التي يعتبرها بعض جيرانها في الخليج الثري "رأس الأفعى" أكثر من إسرائيل نفسها. لن ينسى السعوديون أبدًا أن حزب الله هو من تولى تطوير القدرات القتالية للحوثيين في اليمن، تحديدًا في استخدام المسيرات التي استهدفت منشآتهم النفطية.
كانت نقطة التحول الأبرز بالطبع هجوم البيجر الإرهابي ضد الآلاف من مقاتلي حزب الله دون إسقاط قنبلة واحدة منتصف الشهر الماضي، ثم الضربة شديدة الإيلام باغتيال واجهة الحزب ورمزه السيد حسن نصر الله، وأخيرًا إطلاق هجومها البري وحملة القصف الشعواء الحالية في لبنان. ولأسباب لم تعد مفهومة، تواصل الاختراق الإسرائيلي المفزع لصفوف قيادات حزب الله من الصف الأول، مع استهداف خليفة نصر الله المحتمل، هاشم صفي الدين، والعديد من القادة العسكريين البارزين.
غزة على الشاشة الجانبية
هذا التصعيد المتعمد في مواجهة إيران والسعي لتصفية حزب الله، ذراعها الأكثر قوةً وتطورًا، لم يترك أمام طهران خيارًا سوى الرد، فجاء هجومها الصاروخي الأخير مستهدفًا مقر الموساد في تل أبيب وعدة مطارات حربية أخرى، الذي ينتظر العالم الرد الإسرائيلي الذي توعد نتنياهو أن يغير به مسار الشهور إن لم يكن السنوات المقبلة.
بدأت هذه الحرب من غزة قبل عام، واصلت خلاله قوات الاحتلال مجازرها اليومية هناك بلا توقف. وبينما تمتد وتتصاعد على جبهات أخرى؛ لم تعد خسائر الفلسطينيين البشرية اليومية في غزة من شهداء ومصابين لم تعد الآن هي القصة الرئيسية، بل شاشة جانبية وسط شاشات أخرى عدة تنقل ما يجري في لبنان وإيران وفي الداخل الإسرائيلي، مع تصاعد عمليات الفلسطينيين الفدائية التي يؤكدون بها تمسكهم بخيار المقاومة، وأن أشكالها متعددة ولن تنتهي.
واليوم، بعد عام من حرب الإبادة في غزة، نعرف أن مزيدًا من الحروب تنتظرنا.