تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
تستدعي عملية اغتيال نصر الله طيف عبد الناصر، فكلاهما متبوع بهزيمة عسكرية في مواجهة إسرائيل

شرق ما بعد الحزب

منشور الاثنين 30 سبتمبر 2024

صدمةٌ وحزنٌ أصابا الملايين من العرب، وراحةٌ شعرت بها ملايين عربية أخرى، مع تأكيد حزب الله خبر اغتيال أمينه العام حسن نصر الله يوم 28 سبتمبر/أيلول الفائت. هذا التناقض في مشاعر القطاعين العربيين موضوعيٌّ لا مبالغة فيه، مثلما لم تكن هناك مبالغة في أن يلتقط البعض مصادفة تزامن هذا الموت مع ذكرى وفاة عبد الناصر المفاجئة في اليوم نفسه، لكن قبل 54 عامًا.

قبل اغتيال نصر الله بأيام، استشعر كثيرٌ من المهتمين بالصراع العربي الإسرائيلي هزيمةً جديدةً تقترب بسرعة غير متوقعة، بعد سنةٍ من تبادل الضربات بين الحزب والجيش الإسرائيلي، حرص خلالها الحزب على ألَّا تتطور هذه "المناوشات" إلى حرب شاملة. تعمَّق هذا الإحساس باقتراب الهزيمة مع سلسلة اغتيالات قادة الحزب، ثم تفجيرات البيجر واللاسلكي، وصولًا لاغتيال نصر الله في المكان الأكثر تحصينًا؛ مقره.

الحزن والصدمة اللذان أقصدهما هنا، أكثر شمولًا من المشاعر الشخصية الناتجة عن التعلق بالرجل الذي قاد الجهة الوحيدة التي تمكنت، قبل عقدين ونصف العقد، من إلحاق الهزيمة بإسرائيل؛ بإجبارها على الانسحاب من جنوب لبنان. وهي مشاعر تبرر بدورها استدعاء طيف عبد الناصر، بكل المشاعر المختلطة تجاهه؛ التقدير، الحب، الرفض، الخصومة، العداء، والإحساس العام بأنه كان أقرب إلى "الأب"؛ قاسٍ لكنه حامٍ.

يتعلق الحزن والصدمة المقصودَان هنا بما هو أكثر اتساعًا من "الفردين"، ومشروعيهما، ومساريهما، المختلفَيْن تمامًا، بل يرتبطان بحجم هزيمة كلٍّ منهما، جوهرها، وتوقيت موتهما أثناء المواجهة، وأيضًا ما صاحب كلا الهزيمتين من اكتشافات موجعة. في حالة الحزب، ليس فقط حجم اختراقه استخباراتيًا من إسرائيل، بل أيضًا في اكتشاف أن قوته لم تكن مثلما كنا نتصورها، أو نتمناها.

بين ناصر ونصر الله

مع وفاة عبد الناصر بما مثله حضوره الإقليمي من معانٍ، غُيِّب الثقل المصري عربيًا ودوليًا

نتائج وأبعاد هزيمة مصر ومشروع عبد الناصر في يونيو 1967، ثم موته اللاحق، تجلت خلال سنوات طويلة تالية، لم تُكتشف كلها منذ اللحظة الأولى. وإن كانت أولى نتائجها الحاسمة الملموسة تحوُّل مصر من حالة المجتمع الذي يبني مشروعًا وعنده طموحات إلى حالة المجتمع المهزوم، المحطم. أما على المستوى الأبعد، فتمثلت أكثر صور نتائجها بؤسًا وكارثية في تغييب الثقل المصري عربيًا ودوليًا، مع نهاية تأثير أكبر شخصية سياسية في المنطقة، عبد الناصر. بكل ما مثله حضورُه على المستويين الإقليمي والعربي من معانٍ وسياسات.

بما أننا نتحدث عن لبنان ونصر الله، لا يمكن تجاهل أن الحرب الأهلية اللبنانية نفسها، وبدايتها في أبريل/نيسان 1975، لم تكن سوى إحدى نتائج انكسار مصر والزعيم، وغيابه اللاحق، حيث اكتسبت إسرائيل مساحة للتعاطي مع بعض القوى والطوائف العربية، ووجدت مدخلًا لمجتمعاتنا، لتلعب أدوارًا سياسية وعسكرية. دون نفي عوامل أخرى كثيرة أشعلت هذه الحرب، من بينها طموح القوى التقدمية اللبنانية لإنهاء النظام الطائفي، وتأسيس دولة أكثر عدلًا، وهو ما أثار نقيضه، قوى اليمين التقليدي الطائفي، للدفاع عما هو قائم.

انكشاف الوهم، أو الانكشاف المذهل في لحظة أن كيانًا كبيرًا مثل الجيش المصري، بكل ما أحيط به من هيبة قبل 5 يونيو، انهار في بضع ساعات، يُستدعى إلى الذهن مع اكتشافاتنا خلال الأيام الأخيرة بشأن حزب الله. فبعد فيديوهات التعبئة الحماسية ورفع المعنويات، مثل عماد 4 وغيرها، مع دعوة نصر الله إسرائيل للحرب المفتوحة إن أرادت، حدثت الانهيارات في أيام قليلة.

لا يجوز الدخول في تفاصيل هذه المفارقة لسبب شديد البساطة؛ افتقادنا للمعلومات الكافية لفهم ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين. ففهم الهزيمة العسكرية المصرية في 1967 تطلب سنوات من الدراسات والأبحاث والشهادات الشخصية وغيرها. وهو ما سيحدث غالبًا في المستقبل مع هذه اللحظة التاريخية الفاصلة في تاريخ حزب الله، وتفاصيل اختراقه أمنيًا، وتدمير قيادته، وإدخاله لحالة أقرب للشلل والعجز.

أما ما ينبغي أن نتوقف عنده الآن، الدلالات الأولية للهزيمة على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، بعد أن راهنَّا طيلة السنة الماضية على صمود المقاومة في البلدين. إنها المسألة الأهم، والأكثر خطرًا في تقديري من هزيمة ناصر ومصر في 1967. ففي زمن هزيمة ناصر كانت هناك قوى اجتماعية وبلدان ومنظمات قادرة على الدفع باتجاه استمرارية الصراع العربي الإسرائيلي، وأهمها المنظمات الفلسطينية، وحلفاؤها في العالم العربي كله، وخصوصًا لبنان.

توافرت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات العوامل التي عرقلت مسار الاستسلام والانكسار الكامل. وهي العوامل نفسها التي دفعت لإعادة تسليح وبناء الجيش المصري. وكان أهمها أن هناك أراضي عربية محتلة خارج فلسطين. لكننا اليوم في وضع مختلف تمامًا عن ذلك الوقت. والعالم العربي في اليوم التالي لموت عبد الناصر، ليس هو العالم العربي في اليوم التالي لموت نصر الله وهزيمة الحزب في هذه المواجهة المفتوحة التي تحققت بالشكل الذي تريده إسرائيل، مثلما فُرض على مصر شكل المواجهة في 1967.

مستنقع الشرق*

الحسبة الرياضية كافية؛ واحد زائد واحد يساوي اثنين. والقوى الوحيدة التي امتلكت القوة والمقدرات، واتخذت أرضية العداء المبدئي والصريح مع إسرائيل، هي المقاومة في البلدين؛ لبنان وفلسطين، في هذا الشرق العربي الذي تملك القوة الحاسمة فيه حكومات حليفة أو تابعة لإسرائيل والغرب، تدفع باتجاه الاستسلام والانكسار الكاملين. وبهزيمة المقاومة اللبنانية تحديدًا، الطرف الأكثر قوة الذي شكل على الأقل إزعاجًا جديًا لإسرائيل طوال ثلاثة عقود، تنكشف الجبهة الفلسطينية، وبالذات جبهة غزة.

غياب نصر الله في هذه اللحظة له تأثيرات حاسمة أوسع من جبهة غزة

غياب نصر الله في هذه اللحظة، وهزيمة حزب الله، لهما تأثيرات حاسمة أوسع من جبهة غزة. تتعلق بسؤال من هي القوى القادرة الآن على مناطحة الحكم الإسرائيلي/الأمريكي/الخليجي لمنطقتنا، وعرقلة مشروعه بأن نكون شعوبًا في طور الانقراض الثقافي والهوياتي والقيمي. مجرد شعوب تستهلك ما يقررونه هم، بداية من نوعية القمح المخبوز في رغيف، وصولًا للمسلسل أو الفيلم المسائي، مرورًا بكل شيء.

أما على جبهة غزة، الآنية، فهناك السؤال الذي تجنب الكثيرون طرحه على أنفسهم خلال العام الأخير، منذ السابع من أكتوبر. وهو السؤال عن تأثير الإبادة، الاستثنائية في درجة دمويتها وتدميرها، على معنويات ومواقف وانحيازات الشعب الفلسطيني نفسه. ناهيك عن الشعب اللبناني، الذي لا ترى قطاعات منه مبررات للعداء مع إسرائيل بعد تحرير الجنوب عام 2000.

لم يكن السؤال مريحًا للكثيرين خلال السنة الأخيرة، لأنه يكشف عن درجة الظلام المحتملة بعد الانكسار العسكري لحزب الله وحماس، وعمَّا يمكن أن يحدث على الأرض حقيقة، وما لا يعرفه أحد. ويكشف أن استراتيجية إسرائيل هذه المرة، والمختلفة تمامًا عن كل استراتيجياتها وتكتيكاتها السابقة، بإمكانها تحقيق نتائج، في عالم لا يعنيه ما يحدث للعرب، إن كان المعتدي إسرائيل. عالم يكتفي ببيانات النصح، وليس حتى التنديد، السخيفة وعديمة المعنى.

الاستراتيجية الإسرائيلية التي ستضطر شعوبنا لدراستها جيدًا خلال السنوات المقبلة، لمعرفة كيفية التعامل معها، وإنتاج طرق جديدة لإفشالها، تتلخص في أنه لا سقف للتوقعات والأضرار والدم. أيًا كانت نوعية الضحايا أو عددهم. وأن بالإمكان التضحية ببعض مواطني دولة إسرائيل وجنودها في أي مواجهة، طالما ظل هناك إسرائيليون آخرون قادرين على حمل السلاح.

يقول مُدَّعو الحكمة بأن المقاومة لم تَحسب جيدًا مدى الرد الإسرائيلي على طوفان الأقصى. لكنها ليست مسألة حسبة، فخبراء ومحللو إسرائيل نفسها، الذين طالعنا في الإعلام العربي تصوراتهم يوميًا طوال سنة كاملة، لم يضعوا في تقديراتهم هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، التي لا تعني فيها حياة أسرى السابع من أكتوبر لإسرائيل أي شيء، ولا فرق فيها بين استردادهم أحياء أو موتى، ما دامت المنظومة العسكرية/الدعائية الحاكمة لإسرائيل قادرة على تسويق الإبادة باعتبارها دفاعًا عن النفس، ورد الفعل الوحيد المتاح.

نحن بدورنا لم نتصور، طيلة الشهور الأولى، أن تستمر الإبادة، وبهذا الشكل، لسنة كاملة، وأن يكون من ضمن مساراتها كسر قيادة حماس، وانكسار كبير لحزب الله. وحتى هذه اللحظة لا نستطيع استيعاب حقيقة أن الإبادة مستمرة.

من مستنقع الشرق.. إلى الشرق الجديد

بموت عبد الناصر لم تتفجر صراعات داخلية كبرى تهدد المجتمع المصري. والصراع الوحيد المهم كان بين مجموعات سياسية داخل رأس السلطة، وحُسم سريعًا. لم تكن هناك خصومات داخلية كبرى تهدد بتفكيك الدولة وانقسام المجتمع، وبداية العنف بين قطاعاته. وهو ما يختلف عن الحالتين، اللبنانية والسورية، بعد انكسار حزب الله. فهناك خصومات، وعداءات، ولعبة طائفية، وحسابات دموية للتصفية. ولحزب الله وسياساته دور كبير في خلقها منذ 2005، في لبنان، وفي سوريا.

إعادة التفجُّر الداخلي الذي يهدد للبنان وسوريا الآن، وعلى المدى القريب، هو الخطر الأساسي الآن. وربما يكون من ضمن استراتيجيات إسرائيل وحلفائها. تفجير داخلي لا يختلف كثيرًا عما حدث في العراق بعد 2003، أو ما شهده لبنان في سنوات الحرب الأهلية. سيكون ضحاياه المباشرون من الفقراء والضعفاء من كل الأطراف، بعد غياب سطوة الحزب العسكرية، ونفوذ نصر الله كقيادة، وكلاهما لم يكن ليسمح بتصفية الكثير من الحسابات.

بعد هزيمة عبد الناصر تكرَّس انقسام شرقنا لقوتين واضحتين؛ بلدان وقوى سياسية معادية لإسرائيل، وبلدان وقوى سياسية بهوىً أمريكي/إسرائيلي. لكن بعد هزيمة المقاومة الآن، لن تكون التقسيمة بالشكل نفسه، بل سينقسم شرقنا لجبهتين دون خطوط أو حدود فاصلة بينهما؛ في الجبهة الأولى كل الحكومات، وأغلب القوى السياسية، وفئات اجتماعية لا تعنيها فلسطين أو الاحتلال، وترى هذه الجبهة مصلحتها في التبعية للخليج وإسرائيل. أما الجبهة الثانية، فتضم فقراء غير منظمين، لكنهم واعون بعدائهم لهذا الواقع الجديد، لهذا "الترتيب الجديد"، مثلما سمَّت إسرائيل عملية اغتيالها نصر الله.

حمل فقراء فلسطين السلاح حين انهزم ناصر، وشكلوا منظمات الفدائيين. وظهرت الحركة الطلابية اليسارية المصرية لتعرقل مؤقتًا المسار الإسرائيلي/الأمريكي داخليًا. الأمل الآن، ومن جديد، في فقراء شرقنا، ورفضهم للترتيب الجديد خلال السنوات المقبلة، بأشكال وطرق جديدة لا يعرف أحد ملامحها. إن تحققت، ستكون فلسطين هي العنوان الأساسي لهذا الجديد، بشرط ألَّا يكون طائفيًا، بل أكثر ديمقراطيةً وتفاهمًا مع الداخل من ناصر ونصر الله.


* مستوحى من قصيدة خليل حاوي الجسر

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.