انتمى المراهق البيروتي نبيه عواضة للحزب الشيوعي مبكرًا، والتحق عبر الحزب بجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. أخذ من لقب شاعر تشيلي بابلو نيرودا اسمًا حركيًا. شارك في نقل متفجرات وعمليات استطلاع في الجنوب المحتل. في مهمته التاسعة، خريف 1988، لأَسْر جنود إسرائيليين، أُسِر هو ومجموعته، ليصبح أصغر أسير لبناني في السجون الإسرائيلية بعمر 16 عامًا. ليخرج في عملية تبادل بعد عشر سنوات قضى أغلبها في سجن عسقلان.
عام 2004، في فناءٍ ما كان يُطلق عليه معتقل الخيام، حكى لي نبيه أنهم دخلوا جنوب لبنان المحرر فورًا بعد انسحاب إسرائيل عام 2000. خبأوا أسلحةً في أماكن يعرفونها جيدًا لتكون متاحةً إن عادت إسرائيل لاحتلال الجنوب. تذكرت نبيل وأسلحته وإسرائيل تجتاح الجنوب وتدمر بلدة الخيام.
عودة البطولة
مثل كل الأساطير، لا تخلو أسطورة بيروت من معلومات غير دقيقة وأحيانًا مغلوطة تمامًا. حيث تسمح الضبابية للمحبين، المتعلقين بالأسطورة، بأن يضعوا لمساتهم المكملة لها، لتتحول لأيقونة. لمسات مما يتصورونه حقيقةً، أو يريدونه أن يكون الحقيقة.
تحولت لحظة خروج مقاتلي وكوادر وقيادات الثورة الفلسطينية من بيروت بالبواخر في 1982، لكليشيه، أو للحظة أيقونية، بسبب تناولها في الكثير من الأعمال الفنية بطريقة تُضفي عليها سمات من الرومانسية الثورية. وساهمَت في تكريسها ككليشيه رمزيةُ أن يُرى الفلسطينيون كشعب مُطارَد، يخرج من بلاده بالقوارب في 1948 باتجاه لبنان، ثم يخرج مجددًا من ملجئه هناك بالقوارب. فنتخيل رحلته كشعب لا يتوقف عن إنجاب المقاتلين والفدائيين، في رحلة لا تنتهي، من البطولة وليس المأساة.
بعد هذا الخروج، تعرف الكثيرون من المصريين والعرب على أولى الأغنيات التي تسربت إليهم لمارسيل خليفة. وصلت شرائط الكاسيت الأولى مع المثقفين العائدين لبلدانهم الأصلية، أو الذاهبين لمنافٍ جديدة. كان من بين هذه الأغنيات أجمل الأمهات. دون تدقيق، تصور البعض أن القصيدة لمحمود درويش. فالتأكد من المعلومات لم يكن سهلًا للكثيرين قبل الإنترنت، ولم يكن هناك من يصحح هذه المعلومة للمثقفين المصريين اليساريين وقتها.
اقترنت القصيدة بمحمود درويش، ولا تزال، بينما هي للشاعر اللبناني حسن عبد الله. لكن ما اقترن بالقصيدة/الأغنية المتحولة لأيقونة بدورها ليس فقط هذا اللَّبس في اسم كاتبها، بل حالة البطولة المطلقة، اللانهائية، القدرية، والمستمرة أيًا كان مصير البطل/البطلة/الأبطال.
تبدو القصيدة وكأنها مقسمة لجزءين بسبب مضمونها ونوع اللحن. ينتقل الشاعر للحديث عن الـ"نحن"، بعد أن كان يحكي عن "هي"؛ الأم الأجمل، التي تمتاز عن بقية الأمهات بأنها انتظرت ابنها، البطل، حتى عاد مستشهدًا. فلم تبكِ سوى دمعتين، ووردة، ولم تنزوِ في ثياب الحداد. في قسمها الثاني، الذي يتجاوز الحزن ليصل للتحدي، يقول الشاعر والمغني بضمير الجمع "صامدون هنا.. صامدون هنا.. قرب هذا الدمار العظيم.. باتجاه الجدار الأخير".
انتقلنا من الفرد؛ المرأة أو الابن الأسطوريين، لحالة جماعية من الصمود والمقاومة رغم الدمار العظيم، ورغم هذا الرعب الذي يلمع في يدينا. لكن بانتهاء منطقة الشعر الممجدة للبطولات الحقيقية، التي صنعها الفلسطينيون واللبنانيون ولا يزالون يصنعونها، والدخول إلى منطقة الواقع اليومي المُعاش، تُطرح أسئلة مقلقة وحقيقية بدورها. من بينها إلى أي مدى من الممكن أن يصل هذا الدمار العظيم، والرعب الذي يسببه؟! إلى أي مدى يستطيع الأفراد والمجموعات الصمود برغم الدمار العظيم، وفي مواجهته؟!
الدمار الذي تخيله مستمعو الأغنية والقصيدة وقتها، مطلع الثمانينيات، ارتبط ذهنيًا بدمار بيروت صيف 1982، أثناء حصار الجيش الإسرائيلي لها بالتحالف مع ميليشيات القوات اللبنانية وحزب الكتائب. ارتبط بالمذابح اليومية، والقصف الذي كان يستمر أحيانًا لساعات طويلة دون أن يتوقف. متصورين، ليس فقط الشاعر والمغني بل معهم آلاف المثقفين والسياسيين والثوريين العرب، أنه ذروة الدمار، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه.
عودة الدمار
اللبنانيون ممن عاشوا حرب 1982 والحروب التالية لها حتى الحرب الأخيرة، يدركون أن "الدمار العظيم"، النسبي، هو نفسه ما شكل رعبهم الكبير هذه المرة. فبعد نحو عام شاهدوا فيه مثلنا، مثل الجميع، دمارًا عظيمًا لا شبيه له في غزة، وبينما تقترب من عاصمتهم المسيّرات، كانت إسرائيل تقول لهم ولنا، انتظروا دمارًا عظيمًا لم تعرفوه مسبقًا. أعظم من أي دمار آخر، مثل هذا الذي يحدث في غزة وينهي وجودها، ويحولها أنقاضًا تحتها أشلاء الآلاف.
كانت هذه المسألة تحديدًا؛ القدرة المطلقة على التدمير، هي اللقطة الثابتة التي شكَّلت الصدمة التي أشرتُ إليها في المقال السابق. صدمة اللبنانيين مما يحدث ومما سيأتي، مضافة لدمار حقيقي وواقعي وعظيم أحدثته إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي الجنوب اللبناني. وتمكُّنها، بعد أن أكد قادة حزب الله ثقتهم المفرطة في قدراته، وتحدَّى السيد نصر الله إسرائيل أن تخوض حربًا مفتوحة، من إصابة الحزب بضربات لن يتعافى منها، إن استطاع، قبل سنوات طويلة.
بيروت لم تعد ذلك المكان الجاذب للفضول والتقارير الصحفية وصناعة الأساطير
بينما يتم تدمير مناطق واسعة من الجنوب اللبناني والعاصمة بيروت، كانت شوارع مناطق أخرى مضيئة، يغيب عنها شبح الموت والدمار. يختفي نصر الله، أحد وجوه الأيقونة/الأسطورة البيروتية، في عملية اغتيال مروعة، حدثت أمام العالم، في تحدٍّ صريح لكل معاييره وأعرافه، بأن تقوم دولة بتدمير، أسطوري بدوره، لمنطقة شديدة الاتساع، لمربع سكني كامل، لتقتل شخصًا واحدًا، بينما ينقسم لبنان من جديد، شعوريًا هذه المرة، لا مذهبيًا أو سياسيًا؛ تتكرس الصدمة والرعب العظيمان عند مناصريه وطائفته وقطاع لا يستهان به من معارضيه وخصومه، وشعور بالارتياح عند قطاع آخر.
عودة الغائب
حكت لي صديقة شيعية تعيش بين بيت أهلها في الجنوب، وبيتها في بيروت، أن بعض أفراد عائلتها وأهل قريتها لم يصدقوا بعد، وبعد أسابيع من اغتياله، أن السيد مات. يرون خبر اغتياله كذبة، أو لعبة تكتيكية، ويصدقون أنه سيعود. بل ويستشهدون بجملة وردت في آخر خطاباته، حين قال لجمهوره "الخبر ما ترون.. لا ما تسمعون". وكأنها إشارة لهذا الاختفاء نفسه.
بينما تحكي لي صديقتي هذه التفصيلة، تذكرت فورًا صدمة قطاع شعبي واسع من جمهور حزب الكتائب المسيحية، مع حفظ الفروق طبعًا بينه وبين حزب الله، في لحظة اغتيال بشير الجْميِّل في نهاية صيف 1982 الدموي، وتصورهم أن بشير سيظهر يومًا ما، وأنه لم يُغتَل حقيقيةً، وأنهم سيرونه عائدًا، وكأنه المسيح المخلِّص الحاضر دومًا، حتى وإن لم نرَه. ربما بسبب ذلك، لم أتلقَّ أبدًا صور بشير الجْميِّل المعلقة على بعض جدران بيروت الشرقية، قبل هذه الزيارة الأخيرة بعشرين عامًا، كتحدٍّ سياسي، بل كإعلان عن حضوره وبقائه.
كنت أكتشف تدريجيًا، قبل حديثنا وأثناءه وبعده، أن بيروت لم تعد هذا المكان نفسه الجاذب للفضول، والتقارير الصحفية، وصناعة الأساطير. كنا نتحدث بعد أسبوع واحد من هرب الأسد وسقوط السلطة في دمشق. في هذه الأيام القليلة، نزح مئات الصحفيين الأجانب من بيروت إلى دمشق، حيث الأخبار والتقارير الطازجة.
ذهبوا للبحث عن أساطير جديدة بعد سقوط السلطة التي لم تقدم للسوريين واللبنانيين سوى الدم والخراب. أساطير مؤسسة على مآسٍ فردية وجماعية، تبتعد عن هذا الدمار الذي أحدثته إسرائيل بلبنان. فالأساطير الجديدة، أوروبيًا وأمريكيًا، لا علاقة لها بالصراع العربي الإسرائيلي، أو بنبيه عواضة، ذلك الأسير المراهق الذي ربط بين فقر عائلته الجنوبية ووجود دولة الاستيطان الإسرائيلية، وتحرير فلسطين.
فانتازيا عودة نصر الله يومًا ما، تكتمل بمفارقة الاسم. ليس بالمعنى الديني هذه المرة، سواء في حالته أو حالة بشير الجْميِّل، بل تتحول للكابوسية، لصدمة واقعية من نصر إسرائيل على "نصر الله"، وأن تكون قادرة، عبر الدمار والقتل العظيمين، من العبور لواقع جديد يكرسها في المنطقة، ويقضي على معارضيها ومقاوميها.
إنه أحد جوانب الصدمة الحالية في بيروت، وخارجها، عند القطاعات المتضامنة حقيقة مع الشعب الفلسطيني، والمعنية بالقضاء على الدولة الصهيونية، والمدركة أن عداءنا مع هذه الدولة مصيري، غير مُختلق، يتحدد بناء عليه وجودها أو وجودنا. وهو ما ينتج الكثير من الأسئلة عن مستقبل الصراع، مع وعي بأنه لم ينته.
أسئلة عن مستقبل المقاومة الأكثر اتساعًا من حزب الله وحماس، مقاومة إسرائيل في كل المنطقة، بل وأوسع من المنطقة، وكيفية إجهاض المشروع الإسرائيلي/الخليجي الجديد. لكنه، عند هؤلاء البيروتيين الذين قابلتهم، غير مرتبط بأسطورة المقاومة القديمة، والصمود المستمر أيًا كان حجم الدمار. بل بعكسه تمامًا، بنزع كل أنواع الأساطير، وإسقاط كل الهالات الأيقونية عنهم كلبنانيين، وعن الفلسطينيين، وعن فكرة الصمود المطلق التي يتصورها من لم يعيشوا هذه الإبادة، أو أي إبادة أخرى.
نحن، وليس اللبنانيين والفلسطينيين، من كنا نتصور أن الصمود مطلق وأبدي أيًا كان حجم الدمار. ونحن من صنعنا منه صورة وردية ومتأنقة، براقة وجذابة، لكنها بلا ذاكرة، مثلما غابت الذاكرة عن هذه المرأة التي تحدثت عنها في المقال السابق، فتاه اسم ومكان هذا المطعم الذي تجلس فيه كل يوم جمعة، وحيدة، ومتأنقة، لتأكل طبق السمك الذي تحبه.
سؤال ما نستطيع فعله في المستقبل، وأن يكون متحررًا من الأسطورية والأيقونية، أن يكون واقعيًا وحقيقيًا، متخلصًا من كل شوائب الرومانسية الثورية، وألَّا يكون من ضمن سماته وضع أثقال البطولة والصمود الدائم فوق أكتاف أي شعب، متصورين أنه سيحل مشكلتنا جميعًا، بمن فينا من لم يعانِ الإبادة، ولم يعِش أي دمار عظيم، هو السؤال الذي لا يعرف إجابته البيروتيون أو غيرهم.