كنت مسؤولًا عن قسم الشؤون العربية والدولية في الأهرام ويكلي حين زرتُ بيروت بعد انسحاب قوات الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان المحتل في مايو/أيار 2000. لم يكن لدي أمل كبير أن أُمنح فرصة إجراء لقاء مع نجم تلك المرحلة بامتياز، الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي تمكن ومقاتلوه من إلحاق الهزيمة بالعدو وإجباره على الفرار المهين من الشريط الحدودي المحتل في جنوب لبنان. ولكني قمت بشرف المحاولة وتوجهت للضاحية الجنوبية للقاء المتحدث الإعلامي للحزب، بناء على توصية صديق صحفي لبناني كان زميل دراسة.
قلت للرجل ببساطة إن منحي لقاءً مع السيد نصر الله سيكون أهم إنجاز صحفي أحققه منذ أن بدأت العمل قبل نحو عشر سنوات، وستكون فرصة له أيضًا لمخاطبة العالم بالإنجليزية، في وقت لم يكن الإعلام الغربي يُقدِم على الحديث مع الرجل باعتباره قائد منظمة إرهابية تواجه إسرائيل وأمريكا. وأضفت أني، مثل أغلب الشباب المصري والعربي، من أشد المعجبين بذلك النجم الصاعد الواثق في نفسه، وبما حققه من نقلة نوعية في أداء حزب الله وبناء قوة مقاتلة استطاعت إجبار الاحتلال على الرحيل.
كما زاد انبهاري بالرجل بعد استشهاد نجله الشاب هادي عام 1997، وكان عمره 17 عامًا، في إحدى عمليات المقاومة، وكيف وقف صامدًا محتسبًا أمام جثمان فلذة كبده، دون أن يذرف دمعة واحدة، وقال لاحقًا إنه لم يكن يرغب في منح العدو فرصةً للتشفي ولو لحظة.
لقاء مع المطلوب الأول
كانت تجربة حزب الله فريدةً من نوعها في السياق الطائفي للبنان. فرغم بروزه ممثلًا للشيعة في لبنان، بما يتلقاه من دعم إيراني قوي، كانت لدى أمينه العام الثالث حسن نصر الله، الذي صعد إلى قيادة الحزب عام 1992 بعد اغتيال سلفه عباس الموسوي، تلك الرؤية الثاقبة التي جعلته يُقدِّم الحزب كممثل لكل من يدعم خيار المقاومة في مواجهة العدو المحتل في لبنان وفلسطين، بعيدًا عن أي انتماءات طائفية. وأصبح قادة الحزب أكثر انفتاحًا على التعاون مع مختلف الأحزاب والطوائف اللبنانية، من مسيحيين وسنة ودروز، وبات خطابهم أقل طائفية.
انتظرت حتى صباح اليوم التالي ولم يكن يراودني أمل كبير. لذلك لم أصدِّق نفسي عندما بشَّرني المسؤول الإعلامي هاتفيًا بأنني سألتقي "السيد" وأجري مقابلة. كان الاتفاق أن أتوجه بصحبة صديقي الصحفي اللبناني إلى حارة حريك في الضاحية الجنوبية، حيث المكتب الإعلامي للحزب، ومن هناك نتوجه إلى "السيد". ولأن نصر الله وقتها كان المطلوب رقم 1 لجيش الاحتلال، عرفت أني بصدد عبور إجراءات أمنية مشددة.
من المكتب الإعلامي ركبنا بصحبة ثلاثة من مسلحي الحزب أوتوبيسًا صغيرًا ستائره السوداء مسدلة، فلم نعلم وجهتنا. بعد فترة وجيزة، توقف الأوتوبيس أمام مبنىً مرتفع الطوابق، يشبه بقية مباني الضاحية المكتظة بالسكان. توجهنا إلى ما بدا أنه جراچ المبنى، حيث جرى تفتيشنا أنا وصديقي بدقة، بما في ذلك أقلامي وجهاز التسجيل الذي أحمله. وبعد ذلك توجهنا إلى مصعد هبط بنا طابقًا أو اثنين.
عندما فتح المصعد بابه، وجدت نفسي في صالون صغير مجهز بكرسيين يتوسطهما علم حزب الله، وخلفهما صورة للسيد نصر الله وأخرى للإمام الخميني مرشد الثورة الإيرانية. أثار غياب العلم اللبناني استغرابي بعض الشيء، فأضفت تلك الملحوظة إلى الأسئلة التي وجهتها للسيد خلال المقابلة. وفسر هو الأمر بأنه ليس مسؤولًا في الدولة اللبنانية، أما صورة الخميني، فمردُّها ارتباطه الروحي بالمرشد كمرجعية دينية.
أسرني السيد حسن نصر الله ببساطته ووضوح رؤيته وثقته في قضيته وفي النصر وهو يرد على كل الأسئلة التي وجهتها له. وكلما كان السؤال مُحرِجًا، كلما واجهه بابتسامة التحدي التي اشتهر بها لاحقًا، وهو يخوض معركته ضد عدو يملك أضعاف ما يمتلكه. كما ظل يمازحني كل فترة، متسائلًا عمَّا إذا كان جهاز تسجيلي البسيط يعمل بالفعل، أم أن سكتة مفاجئة أصابته.
الرصاص في خدمة الانقسام
تذكرت كل تفاصيل ذلك اليوم، مع توارد الأخبار يوم الجمعة الماضية عن نجاح الطائرات الإسرائيلية في استهداف الموقع الذي كان فيه السيد نصر الله مع عدد من كبار قادة الحزب، لحضور اجتماع مع مسؤول في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
ولأن الاجتماع كان في باطن الأرض تحت "المربع الأمني"، قامت طائرات الاحتلال بتسوية نحو ستة مبانٍ كاملة بالأرض، باستخدام عشرات القنابل، لضمان النفاذ إلى مكان وجود نصر الله وقتله ومن معه. جُربِّت هذه الطريقة في اغتيال عدد من كبار قادة الحزب خلال الأيام الماضية، على رأسهم إبراهيم عقيل، وأثبتت فاعلية.
بين مقابلتي مع السيد نصر الله واستشهاده سنوات طويلة، جرت في أنهارها مياه كثيرة تغير فيها موقفي الشخصي من السيد نصر الله وتجربة حزب الله برمتها. دعمت بالتأكيد موقفه وصموده أمام العدو لأكثر من شهر في حرب 2006، التي شكلت لحظة انقسام عربي محورية، عندما وجهت السعودية لومًا ضمنيًا لـ"مغامرات" حزب الله، ليرد الرئيس السوري بشار الأسد بالحديث عن سقوط "أصحاب أنصاف المواقف وأنصاف الرجال".
في وجه الإبادة لم يبرز صوت لدعم المقاومة بشكل عملي سوى حزب الله
ولكن يبدو أن ذلك الانتصار شكّل نقطة تحول أخرى، دفعت الحزب للتخلي عن رؤيته المتجاوزة للطائفية على الصعيد الداخلي وإقراره بتعددية وتميز التجربة اللبنانية. فبعد عامين، سيطر مقاتلو حزب الله على كافة المباني الحكومية في لبنان وأكدوا موقعهم كدولة داخل الدولة لا يستطيع أي طرف التدخل في شؤونه أو تسليحه أو شبكة اتصالاته.
ومع ثورات الربيع العربي، سقطت آخر أقنعة الحزب مع مشاركته النظام السوري في القمع الوحشي للسوريين المطالبين بالديمقراطية، بناءً على معطيات طائفية صرفة، بغطاء من الشعارات عن دعم النظام المتمسك بخيار المقاومة في مواجهة إسرائيل. قتل الحزب في سوريا آلاف السوريين للحفاظ على حكم أسرة الأسد وطائفته، ولا علاقة لذلك بتحرير القدس.
وقفة أخيرة في وجه إسرائيل
ولكن مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة بعد السابع من أكتوبر، لم يبرز صوتٌ لدعم المقاومة بشكل عملي سوى نصر الله وبقية أطراف محور المقاومة التي تدعمها إيران.
وفي ظل الصمت والتخاذل الرسمي العربي، بسبب الأبعاد الطائفية وعدم رغبة الدول العربية في دعم أطراف تدعمها إيران، عادت صورة حزب الله المقاوم للبروز مرة أخرى، ولو عبر "حرب إسناد" لا يورط الحزب فيها لبنان، الذي لا يحتمل داخله المأزوم حربًا واسعة. وهو أيضًا ما لا ترغب فيه إيران، كيلا تضطر إلى الاشتباك مع الولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل.
في خطابه الأخير بعد هجوم البيجر واللاسلكي، بدا السيد نصر الله متجهمًا وعلى ملامحه معالم الحزن والغضب. غابت ابتسامة الثقة المعهودة للحظات، فالعملية سافرة في إجرامها، وسببت خسارة فادحة، وكشفت اختراقًا أمنيًا كبيرًا وصادمًا.
من المؤكد أن السيد كان يعلم جيدًا، خاصةً بعد عمليتي اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية واستهداف العاصمتين بيروت وطهران في يومين متتاليين نهاية يوليو/تموز الماضي، أنه قد يكون المستهدف التالي. ولكنَّ ذلك لم يدفعه للتخلي عن دعم الفلسطينيين، وظل يؤكد حتى خطابه الأخير، أنه لن يتوقف عن إسناد غزة بإطلاق الصواريخ على شمال فلسطين المحتلة ومنع المستوطنين من العودة إلى منازلهم، حتى توقف إسرائيل عدوانها على غزة.
قد تكشف الأيام عن كيفية حدوث ذلك الاختراق الأمني المذهل للدوائر الأكثر قربًا من السيد نصر الله وكبار قادة الحزب، الذين نجح العدو في اغتيالهم بطريقة مفرطة في الدقة طوال الأسبوعين الماضيين، وإذا ما كان الاختراق مقتصرًا على صفوف حزب الله، أم أنه امتد ليشمل دوائر صنع القرار في إيران، التي لقي مبعوثها مصرعه في الهجوم نفسه الذي أدى لاستشهاد نصر الله.
رحيل السيد حسن نصر الله هو نهاية لحقبة كاملة رسم هو ملامحها بعد أن قضى 32 عامًا كاملة في منصبه، ودفع ثمن مواقفه، التي اتفقنا معه فيها والتي اختلفنا. وربما يكون أحد معايير النجاح التي ستحسب له بعد رحيله، قدرة التنظيم على الصمود في مواجهة العدو الصهيوني، هذا إذا كان الراعي الرسمي الإيراني سيقرر الاستمرار في تصعيد المواجهة، بدلًا من الاكتفاء بتهديدات الرد القاسي المنتظر.