قَبِل حزب الله اللبناني باتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل بعد أكثر من عام من الرفض والعمليات العسكرية التي أعقبت إسناد الحزب لجبهة غزة خلال حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على القطاع. إذا كان الحزب اشترط التعامل مع جبهة جنوب لبنان وغزة باعتبارهما كيانًا واحدًا، فما أسباب قبوله ما كان مرفوضًا؟
جاء الاتفاق بوساطة أمريكية، ونص على هدنة مدتها 60 يومًا لإنهاء القتال الذي استمر أكثر من عام، مع مراقبة أمريكية وامتداد مشروط لوقف دائم لإطلاق النار إذا التزم الطرفان.
وافق الحزب تحت تهديد السلاح بما كان يصر على رفضه سابقًا، وأول ما وافق عليه هو فكّ الارتباط بغزة، ووقف استهداف الشمال الإسرائيلي، وسحب قواته إلى شمال نهر الليطاني الذي يبعد نحو 30 كيلومترًا من الحدود اللبنانية الإسرائيلية. إذًا انهزم الحزب.
جراح استراتيجية غائرة
خسر الحزب وفقًا لاتفاق الهدنة انتشار قواته على الحدود المباشرة مع إسرائيل أو جنوب الليطاني. بموجب الاتفاق، تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان، بينما يسحب حزب الله مقاتليه وأسلحته إلى شمال نهر الليطاني، وهو المطلب الأساسي الذي بدأت الحرب من أجله، جنبًا إلى جنب مع هدف عودة سكان مستوطنات شمال إسرائيل إليها مرة أخرى.
ولا ينص الاتفاق على وجود منطقة عازلة تحتلها إسرائيل في جنوب لبنان، لكنه يسمح لها بالاحتفاظ بقوات عسكرية في المنطقة لمدة تصل إلى 60 يومًا من أجل تحديد درجة التزام حزب الله بالهدنة. كما يسمح لسكان الجنوب بالعودة إلى منازلهم. لكن المفاجئ أن الحزب كان متعجلًا للوصول لاتفاق حتى أنه لم يطالب إسرائيل صراحة بالإفراج عن عناصره الذين اعتقلتهم في العملية البرية.
جلبت الحرب بين الحزب وإسرائيل خصمًا آخر له هو الولايات المتحدة لكي تراقب أنشطته
بموجب الاتفاق تدخلت إسرائيل والولايات المتحدة في المعادلة الأمنية اللبنانية بقوة، فهو ينص على احتكار الدولة اللبنانية لمصادر التسليح والقوة المسلحة والإشراف على شراء وإنتاج الأسلحة في البلاد، ويحل جيشها محل القوات الإسرائيلية التي ستنسحب من الجنوب، إذ يجري نشر 10 آلاف جندي من الجيش اللبناني في الجنوب بشكل تدريجي، إضافة إلى قوات من اليونيفيل، قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.
جلبت الحرب بين الحزب وإسرائيل خصمًا آخر له هو الولايات المتحدة لكي تراقب أنشطته، إذ يمنحها الاتفاق سلطة الحَكَم حيث ستتولى رئاسة لجنة من خمس دول لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، وسيكون لها الحق في إصدار الأحكام التي تخوِّل لإسرائيل مهاجمة لبنان إذا اعتُبر حزب الله منتهكًا لبنوده.
يتضمن الاتفاق ثلاث مراحل: هدنة يتبعها سحب حزب الله لقواته شمال نهر الليطاني، وانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وأخيرًا مفاوضات إسرائيلية لبنانية بشأن ترسيم المناطق الحدودية المتنازع عليها.
الاختيارات المُرَّة
كان أمام الحزب خيارات محدودة كلها مريرة بعد فقدان قدرته على المفاجأة، كما في حرب عام 2006 حين فاجأ إسرائيل بقدرته على الوصول المؤلم لمدنها. ففي الحرب الأخيرة لم تتفاجأ إسرائيل، بل استعدت لحرب طويلة استنزفت فيها دماء وقدرات الحزب بشكل أكبر.
كما أن الحرب وضعت الحزب في مواجهة مع بقية الطيف السياسي اللبناني، بمن فيهم الحلفاء السياسيون، الذين لم يتحمسوا لحرب لم يختاروها ولم يضطروا إليها. كما قُطعت خطوط إمداده بعد ضرب المعابر مع سوريا وفشل إيران في المناورة أو تجديد طرق الإمداد بشكل كافٍ لتعويض الخسائر أو إلحاق المزيد منها بإسرائيل.
أدرك الحزب أنه لبناني أكثر مما هو إيراني لأن لبنان هو الذي يدفع الثمن
اختار الحزب الهزيمة على الانهيار الكامل. فقد كان في أشد لحظاته ضعفًا، أقرب إلى الانهيار بعد تآكل طبقته الحاكمة وفقدانه لشعبيته خارج دوائره الضيقة، وحتى داخلها، مع اعتقاد قطاعات من مؤيديه أنه لم يعد قادرًا على حمايتهم بعد أن فخخته إسرائيل.
ورغم تصعيده لحدة هجماته على إسرائيل، لم يتمكن من موازنة القدرة على إلحاق الأذى، بل لم يكن هناك حتى تناسب في الرعب. كان الفارق في التسليح كبيرًا، لكن الفارق الزمني كان أكبر. فالحزب لا يزال يعيش في 2006، بينما إسرائيل وأمريكا انتقلتا إلى زمن أكثر تقدمًا على مستوى التخطيط الاستراتيجي.
خاض الحزب المعركة وهو مُخترق أمنيًا، فتفجّرت أجهزته، ومخترق سياسيًا، فتفجّرت جبهته الداخلية. لم يقتنع أحد في لبنان بجدوى الحرب سوى الحزب نفسه، مما أدى إلى انقلاب الجبهة الداخلية عليه. ربما أدرك حزب الله اليوم أنه لبناني أكثر مما هو إيراني، لأن لبنان هو الذي يدفع الثمن، بينما إيران لا تملك التعويض.
كما بدا أن الفصيل اللبناني يدفع ثمن مغامرته في سوريا عدًا ونقدًا، فقد دخلها للحفاظ على خطوط إمداده، مضحيًا بكل العرب. ليخسر في النهاية العرب وصفوفه الأولى وخطوط إمداده، التي لم ينجح في الحفاظ عليها.
يقول البعض إن حزب الله "كَفَّى ووفّى". حسنًا، لا تُخاض الحروب لتسجيل المواقف البطولية بل لتحقيق الأهداف. والحزب فشل في تحقيق كل أهدافه، وخسر أفضل قادته، بل وخسر جزءًا كبيرًا من رصيده حتى داخل دوائره.
اختار الحزب الانسحاب لتضميد جروحه وقَبِل بشروط ما بعد الليطاني بتحكيم أمريكي. لكن هذا انسحاب مُرّ، فما بعده ليس كما قبله. أصبحت غزة وحدها في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.