أسوأ ما قد يلحق بحزب الله، أن يخسر بالسياسة ومؤامراتها ما حصل عليه في الميدان من مكاسب تحققت إثر استبسال رجاله وصمود حاضنته الاجتماعية، ليتحول ما وصفه أمينه العام نعيم قاسم بـ"الانتصار الكبير" إلى "هزيمة استراتيجية" لن تؤثر في مستقبل الصراع بين الحزب ودولة الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل في معادلة محور المقاومة بالكامل.
ففي أول كلمة له بعد سريان وقف إطلاق النار بين حزب الله وجيش الاحتلال، اعتبر قاسم أن حزبه حقق "انتصارًا كبيرًا" على إسرائيل فاق ما حدث في حرب تموز التي خسرها جيش الاحتلال قبل 18 عامًا، وفق ما انتهى إليه تقرير لجنة فينوجراد التي تشكلت لكشف وقائع ما جرى في تلك الحرب.
ربما يكون الأمين العام الجديد للحزب، الذي تولى صلاحياته عقب استشهاد الأمين العام التاريخي ذي الكاريزما الاستثنائية حسن نصر الله، محقًّا في بعض ما وصل إليه؛ فإسرائيل لم تتمكن من تحقيق أهدافها التي أعلنتها في بداية حملتها البرية على جنوب لبنان قبل شهرين، بتدمير حزب الله أو حتى "إضعافه" وفق ما قال، وفرض عودة سكان مستوطنات الشمال إلى مدنهم وقراهم بالقوة العسكرية.
أكد قاسم أيضًا في كلمته التي ألقاها مساء الجمعة الماضية من مكان مجهول، أن حزبه لن يتوقف عن دعم فلسطين بكل الطرق والوسائل. لكن على أرض الواقع، فصل الاتفاق الذي قَبِلَه الحزب، ومن خلفه الحكومة اللبنانية، جبهة جنوب لبنان عن جبهة غزة، ما أطاح بمبدأ "وحدة الساحات"، وهو أحد الأهداف التي دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى القبول بوقف إطلاق النار على تلك الجبهة.
ففي تبرير قبوله بالاتفاق، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إنه قبل بالمقترح ليحقق ثلاثة أهداف رئيسية؛ "التركيز على التهديد الإيراني، وفصل جبهة غزة عن جبهة لبنان وعزل حركة حماس، وأخيرًا إعادة تنشيط القوات الإسرائيلية وتوحيد صفوفها"، مؤكدًا أن جيشه سينفذ هجمات حال تسجيل أي انتهاك للاتفاق.
نتنياهو ويمينه
وعقب تعرضه لهجوم عنيف من كتل المعارضة السياسية وبعض أعضاء الائتلاف الحاكم ورؤساء بلديات المستوطنات الشمالية، خرج نتنياهو على شاشة القناة 14 العبرية القريبة من تيار الصهيونية الدينية، بعد يومين من بدء سريان قرار وقف إطلاق النار، ليشدد على أن تل أبيب، وفقًا لبند في الاتفاق يمنحها حرية الحركة في جنوب لبنان بدعوى "الدفاع عن النفس"، ستكون قادرة على منع الأسلحة من دخول لبنان وذلك من خلال قصف سوريا ومعابرها الحدودية مع لبنان، "قلت للرئيس بشار الأسد أنت تلعب النار".
وادعى نتنياهو أنه حقق ما أراده بالضبط، محذرًا بأنه "إذا لزم الأمر، فقد أصدرت تعليماتي للجيش الإسرائيلي بالاستعداد في حالة حدوث انتهاك لهذه الخطوط العريضة لوقف إطلاق النار في حرب مكثفة"، متوعدًا بالعودة إلى "حرب شرسة في لبنان".
خسرت إسرائيل الحرب في الميدان لكنها قد تحقق أهدافها عبر الاتفاقيات والصفقات
على الأرض، لم يتوقف جيش الاحتلال الإسرائيلي عن انتهاك قرار وقف إطلاق النار، عبر خروقات جوية وعمليات استهداف للأراضي اللبنانية بأسلحة مختلفة بدعوى وجود مسلحين أو آليات تابعة لحزب الله، كما لا تزال قواته تنتشر في نحو 60 قرية تمتد بعمق من ثلاثة إلى خمسة كيلومترات على الشريط الحدودي، تبدأ من رأس الناقورة غربًا إلى كْفَر كَلَّا شرقًا، وتمنع تلك القوات الأهالي من العودة إلى منازلهم وأراضيهم.
سياسيًا؛ هدد وزراء بحكومة نتنياهو بالتصويت ضد أي تنازلٍ عن الأراضي التي تحتلها إسرائيل على الحدود مع لبنان، وفق ما أوردته جريدة هآرتس الجمعة الماضي، نقلًا عن مصادر حكومية ذكرت أن عددًا من أعضاء الائتلاف الحاكم يتمسكون برفض "أي اتفاق يتضمن التنازل عن أراضٍ خاضعة للسيادة الإسرائيلية إلا عبر استفتاء شعبي أو الحصول على أغلبية خاصة في الكنيست".
هكذا عبَّر ساسة إسرائيليون عن تحفظهم على الاتفاق الذي اعتبره البعض في تل أبيب "وثيقة استسلام" قبل بها رئيس الوزراء، بعدما أيقن أن جيشه غير قادر على بلوغ "النصر المطلق" في جنوب لبنان؛ فإمكانياته البشرية وعتاده العسكري لن يُمكِّناه من تحقيق الأهداف "عالية السقف" التي أُعلنت قبل اندلاع تلك الجولة.
لكن ذلك لا يعني أن نتنياهو لم يحقق من خلال هذا الاتفاق وبدعم أمريكي غربي وتواطؤ إقليمي بعضًا مما أراد، وقد يصل إلى ما هو أكثر من خلال بعض البنود غير المعلنة التي سرَّبت وسائل إعلام عربية وعبرية بعض بنودها، ومن بينها أن الحكومة اللبنانية تعهدت بعدم السماح بدخول أي سلاح إلا للجيش اللبناني الذي سيعمل بدوره على تفكيك البنية التحتية لحزب الله جنوب نهر الليطاني، وذلك بمعاونة قوات اليونيفيل واللجنة الخماسية الدولية التي يرأسها جنرال أمريكي.
لكن تفاصيل طبيعة عمل اللجنة ومن خلفها قوات اليونيفل ما تزال غامضة؛ فهل سيتوقف دورهما عند تلقى بلاغات حول الخروقات وانتهاكات الاتفاق فحسب، أم سيتسع ذلك الدور بترتيبات مع الجيش اللبناني ليشمل ما هو أبعد؟
هذا الغموض المحيط ببنود الاتفاق الذي يفترض تنفيذه على ثلاث مراحل خلال 60 يومًا، ثم تليه ترتيبات خاصة بتفعيل دور السلطة اللبنانية كونها الضامن لتنفيذه؛ على رأسها انتخاب رئيس ثم تشكيل حكومة جديدة، أثار مخاوف بعض المراقبين من أن تتحول الأوضاع في جنوب لبنان إلى ما يشبه الأوضاع في الضفة الغربية التي يخضع معظمها للسلطة الفلسطينية نظريًا، لكنها في الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية أمنيًا وعسكريًا، فتستبيحها كلما أرادت بدعوى "الدفاع عن النفس" إزاء تهديدات لأمن الدولة العبرية.
الحزب في الكماشة
وبموازة ما يجري ميدانيًا في جنوب لبنان، وما يُتوقع أن يحدث في فترة الستين يومًا وما يليها من ترتيبات سياسية وأمنية، حدثت مفاجأة مدوية، إذ تمكنت مجموعات مسلحة في شمال غرب سوريا من الاستيلاء على مدن وقرى بـ"حلب وأدلب وحماة"، وإجبار قوات الجيش السوري على الانسحاب، في مشهد أثار دهشة المتابعين.
تُعرَّف هذه القوات باسم "قوات المعارضة" وتضم ما يسمى بـ"هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري"، ولكنها في الأصل بقايا لتنظيمات إرهابية من بينها "داعش" و"القاعدة" إضافة لمجموعات من الفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين.
لم يكن من باب المصادفة بالطبع أن تبدأ تلك المجموعات العمليات التي أُطلق عليها "ردع العدوان" في يوم بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، وبالطبع لم يكن ذلك الهجوم المباغت ببعيد عن تدابير الولايات المتحدة الأمريكية وإن نفت تورطها، فهي وإسرائيل ترتبطان بعلاقات مع مجموعات المعارضة في الشمال السوري، والهدف خلخلة الأوضاع في سوريا بما يضمن أمن الدولة العبرية عبر خنق حزب الله وقطع طرق إمداده بالسلاح من إيران.
بصرف النظر عن الموقف من نظام بشار الأسد، فسقوط سوريا في أيدي ميلشيات معادية لحزب الله ممولة من أجهزة استخبارات غربية، سيحشر الحزب في زاوية ويضعه بين خيار مواجهة الاحتلال بإمكانياته الذاتية المحاصرة ببنود الاتفاق العلنية والسرية، أو خيار الاستسلام وبالقبول بالمعادلة الجديدة.
خسرت إسرائيل المعركة في ميدان جبهة جنوب لبنان باعتراف ساسة دولة الاحتلال ورؤساء بلديات ومستوطنات شمال إسرائيل، لكنها وللأسف وكالعادة قد تحقق أهدافها وتنجح في تغيير المعادلة عبر الاتفاقيات والصفقات، والترتيبات التي ترسمها أجهزة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الغرب.