بينما انشغل السوريون بالاحتفال بطي صفحة نظام آل الأسد، الذي جثم على صدورهم لأكثر من نصف قرن أذاقهم خلاله شتى صنوف العذاب، وفيما كان أبو محمد الجولاني الذي عاد لاسمه الأصلي "أحمد الشرع" متجهًا إلى المسجد الأموي في دمشق لإلقاء خطبة النصر وسط تكبيرات رجاله من الأنصار والمهاجرين، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متهلل الأسارير مبتهجًا بهذا "الحدث التاريخي"، الذي سيتيح لبلاده "فرصًا جديدةً" في الشرق الأوسط.
نتنياهو، الذي كان يقف على مرتفعات الجولان المحتل يراقب مع وزير دفاعه ورئيس أركان جيشه الأوضاع في الجانب السوري، أعلن أنه أمر قواته باحتلال المنطقة الحدودية العازلة ومواقع السيطرة القريبة منها، وهو ما حدث إذ سيطر جيش الاحتلال على نحو 235 كيلومترًا مربعًا في العمق السوري، أي ما يعادل حوالي 60% من مساحة قطاع غزة.
رئيس وزراء الاحتلال الذي تفاخر بأن جيشه سيطر على المنطقة العازلة "دون أي مقاومة تُذكر، ودون إطلاق رصاصة واحدة"، أمر قواته في اليوم نفسه بقصف عدد من المواقع الاستراتيجية بالعمق السوري شملت مطارات عسكرية ومصانع ومختبرات تطوير أسلحة وذخائر، ومستودعات صواريخ باليستية ومقرات أجهزة أمنية وعسكرية.
المفارقة أن نتنياهو الذي برر ضربه للعمق السوري بالخشية من "وقوع الأسلحة المتطورة في أيدي ميليشيات مسلحة وإرهابيين"، تحدثت وسائل إعلام بلاده عن "هيئة تحرير الشام" بشكل مخالف، فالتنظيم الذي يتزعمه "رجل منفتح تغيرت مواقفه وبات يؤيد الإسلام المعتدل"، وعد بإقامة علاقات سلام عميقة مع إسرائيل.
وتحدث خبراء عبر شاشات عبرية عن العلاقات الوثيقة بين إسرائيل والمجموعات المسلحة التي سيطرت على الأمور في سوريا منذ 2013، وأفادوا بأن تركيا تعهدت بألَّا توجه هيئة تحرير الشام سلاحها لدولة الاحتلال، وهو ما جرى. فعندما اقترب مقاتلو المعارضة السورية من السياج الحدودي اكتفى جنود الاحتلال بإطلاق رصاصات تحذيرية نحوهم وطلبوا منهم العودة للخلف، فعادوا ليكملوا "جهادهم" ضد فلول الجيش السوري، وتركوا الجيش الإسرائيلي لمهمته في احتلال مدنٍ وأراضٍ سوريةٍ قرب موقع جبل الشيخ الاستراتيجي.
حلقة جديدة في صراع إقليمي
في مساء هذا اليوم الساخن، الذي خلت فيه الشوراع السورية من المارة اللهم بعض العناصر التركمانية والداغستانية والتترية والأذرية من مقاتلي المعارضة الذين باشروا تنفيذ قرار حظر التجول الصادر عن "هيئة تحرير الشام"، ذهبت سَكرة الانتصار وحلت فكرة اليوم التالي، ودارت علامات الاستفهام حول مستقبل سوريا وشعبها ومحيطها الإقليمي في ظل سيطرة مجموعات تم دعمها وتدريبها وتسليحها وتمويلها من أطراف إقليمية ودولية، لكل واحد منها أهداف ستسعى تلك الفصائل المسلحة لتحقيقه إيفاء لما عليها من ديون.
لم تضع القوى الإقليمية والدولية التي رسمت المشهد الأخير الشعب السوري ولا مستقبله على أجندة حساباتها ولو مرة، بل كان كل همها حسم صراعاتها وعقد صفقاتها وتقسيم خرائط نفوذها، مستخدمة الملعب السوري.
في الحلقة الأخيرة من هذا الصراع الدولي الإقليمي الذي تجري وقائعه على الأراضي السورية، تلقى المحور الإيراني "الذي كان النظام السوري إحدى أهم حلقاته المركزية" على حد تعبير نتنياهو، ضربة كبيرة، ولفت الرجل إلى أن "ضربات إسرائيل لإيران وحزب الله تسببت في تبعات بأنحاء الشرق الأوسط من جانب الذين يريدون التحرر من نظام القمع والاستبداد هذا".
ما ذهب إليه نتنياهو في معرض كلامه، أكده السيناتور الأمريكي الجمهوري ليندسي جراهام، فسقوط نظام الأسد "القاتل" في سوريا يخدم مصلحة دولة إسرائيل على الرغم من المخاطر الكامنة، وبتعبير آخر فغياب سوريا يدفع إلى تفكيك محور المقاومة بأكمله، حسبما نقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن مسؤول غربي.
التداعي السريع لنظام الأسد الذي حكم سوريا بالحديد والنار لنحو نصف قرن، لم يكن من فعل الشعب السوري الذي خرج قبل 13 عامًا إلى الشوراع والميادين للمطالبة بإقامة دولة مدنية ديمقراطية، ولا بفعل تكتيكات مجموعات المعارضة التي قرر بعضها حمل السلاح حماية لنفسها من قمع النظام، ولا حتى بفعل التنظيمات الجهادية السلفية التي استغلت حالة الفراغ والفوضى وتمددت في الشمال السوري، بل تجاوز كل ذلك، ففشل إسرائيل في تحقيق أهدافها في ميادين القتال، سواء في غزة أو جنوب لبنان بعد أكثر من عام، دفع رعاتها إلى وضع خطة تمنحها ما أرادت دون تعريضها مجددًا لاختبار الحرب.
ما تسرب في الإعلام الأمريكي والعبري خلال يوم سقوط الأسد، كشف عن توافق أمريكي تركي مبكر على دعم مجموعات المعارضة المسلحة التي تمكنت في أقل من أسبوعين من اجتياح مناطق شمال سوريا، إثر انهيار الجيش السوري الذي تُرك وحيدًا في تلك المعركة بعدما فقد الدعم الروسي الإيراني، فانسحب من أمامها وترك سلاحه وعتاده خلفه، ما "مهد الطريق لوصول تلك المجموعات إلى دمشق دون مشاكل تذكر"، كما تمنى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الكلمة التي ألقاها عقب صلاة الجمعة الماضية.
فائزون وخاسرون ومتفرجون
حقق المحور الأمريكي الإسرائيلي التركي انتصارًا استراتيجيًا على مجموع خصومه في الشرق الأوسط؛ عزل حزب الله وقطع عليه طريق الإمداد بإسقاطه النظام السوري الذي كان يسمح بتحويل بلاده إلى ممرات آمنة بين طهران وجنوب لبنان، في المقابل تلقت إيران ضربة قاصمة بخسارتها وكيل وإضعاف الآخر، أما روسيا ففقدت الكثير من نفوذها في الشرق الأوسط بعد سقوط حليفها الأقرب الذي سمح لها بإقامة قواعد عسكرية على أراضيه ومنحها ميناءً على سواحل مياهه الدافئة.
أهدر بشار كل فرصة لاحت أمامه لإنقاذ هذا البلد فأُسقط جزاءً لذلك
يشمل كشف الخاسرين أيضًا فصائل المقاومة الفلسطينية، فكل ما يجري من أحداث خصم من رصيدها وهز موقفها التفاوضي، ما يضع تضحيات وصمود الشعب الفلسطيني في مهب الريح.
أما النظام العربي بكل مكوناته، فهو خارج حسابات المكسب والخسارة، بعدما اختار حكامه أن يجلسوا في صفوف المشاهدين ويتابعوا المباراة التي يخوضها متنافسون دوليون وإقليميون على الملاعب العربية الممتدة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، يتابعونها في صمت دون أن تصدر عنهم أي إشارة قد يُفهم منها أنهم قد يتجهزون لنزول الملعب في مبارة مؤجلة ليستردوا فيها أرضهم المحتلة وثرواتهم المنهوبة وكرامتهم المسلوبة.
كان نظام بشار الأسد كوباء الكوليرا الذي أصاب الجسد السوري، قتل عشرات الآلاف من أبناء شعبه وشرد الملايين في المنافي، وقسم البلاد إلى مناطق نفوذ ومحميات لقوى إقليمية ودولية متصارعة، وعندما استنفدت تلك القوى أغراضها منه قررت الإطاحة به، ليعظِّم طرفٌ من مكاسبه تاركًا الطرفَ الآخر يحاول وقف نزيف الخسائر. وهنا، استُبدل به "طاعون" الجماعات الأصولية المسلحة المدعومة من أعداء السوريين والعرب، والمهيئة لتنفيذ توجيهات داعميها على حساب سوريا التي قضمت إسرائيل بعضًا من أراضيها "دون إطلاق رصاصة واحدة".
هكذا وببساطة انتقلت سوريا من تبعية الروس والإيرانيين، ومن مقعد في محور الممانعة في الشرق الأوسط، إلى دولة تسيطر عليها جماعات دينية أصولية متشددة مستعدة لمهادنة إسرائيل وأمريكا، بل والقتال معهم ضد العدو المشترك "النظام الإيراني المجرم وجميع التابعين له"، بتعبير أبو عبدة القيادي في "الجيش السوري الحر" أحد مكونات المعارضة السورية المسلحة.
أبو عبدة أكد في تصريحات لإحدى المنصات العبرية أن المجموعات التي يمثلها مدفوعة إلى السلام لا القتل والخراب، وأنهم يحترمون إسرائيل والولايات المتحدة لأنشطتها ضد طهران "المظلة التي تقود الإرهاب"، متمنيًا أن تكون هناك جهود مشتركة للقضاء على هذا العدو.
تداعى نظام الأسد وسقط ليس فقط لأنه تعرض لمؤامرة كبرى، بل لأنه فقد مشروعية بقائه، بعدما كسر حلم شعبه في الحرية والكرامة فكفر الناس به وأصبحوا على استعداد للخلاص منه حتى لو كان البديل داعش والقاعدة وأشباههما.
انهار الجيش السوري وانسحب من معظم مواقعه دون قتال، لأنه فقد عقيدته العسكرية، إذ صار واجبه فقط الدفاع عن رأس النظام حتى لو كان ذلك في مواجهة الشعب وبدعم قوات إقليمية وميليشيات طائفية.
المجتمعات تكتسب مناعتها ضد الانهيار والتفكك بإشاعة العدل ونشر مبادئ الحرية والديمقراطية، وتخوض الجيوش معاركها بعقيدة قتالية تدفعها إما للنصر أو الموت في سبيل قيم ومبادئ وقضايا كبرى.
أهدر بشار كل فرصة لاحت أمامه لإنقاذ هذا البلد مما يحاك ضده وضد الأمة العربية، فأُسقط جزاءً لذلك، وحل محله هؤلاء الذين نتمنى جميعًا أن يخيبوا ظننا فيهم.