لم أفهم سبب التخبط الذي عبّر عنه كثيرون بشأن التطورات المفاجئة الأخيرة في سوريا، وهم يتساءلون عن الطرف الذي يجب دعمه؛ النظام الذي يترأسه بشار الأسد مجرم الحرب قاتل شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية على مدار ما يزيد عن 13 عامًا، أم الجماعات المسلحة المتشددة والإرهابية المدعومة من تركيا التي نفذت هجومها المباغت وسيطرت على مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية.
فالأمر لا يتعلق بمباراة لكرة القدم ينبغي أن نشجع فيها فريقًا ضد آخر، بل هي مأساة ممتدة، الضحية فيها هو الشعب السوري القريب لقلوب المصريين، سواء على يد الأسد الذي يستحق بكل تأكيد المحاكمة كمجرم حرب، أو مقاتلي ما يعرف باسم جبهة تحرير الشام، تنظيم القاعدة سابقًا، الذين لا يقلون إجرامًا ودمويةً عن النظام، بل لديهم من المعتقدات المتطرفة ما من شأنه أن يهدد التنوع الطائفي والعرقي القائم في سوريا ويدفع بذلك البلد المنكوب إلى حرب أهلية طائفية أسوأ مما شهده لبنان والعراق.
بالتالي، فالسؤال لا يجب أن يكون ندعم من في مواجهة من، ولكن البحث عن بدائل تُمكِّن الشعب السوري من كسر هذه الدائرة المغلقة التي يواجهون فيها خيارات جميعها مُرَّة، بين مطرقة النظام الثقيلة، وسندان الجماعات المتطرفة المدعومة من تركيا صاحبة الأطماع التاريخية في سوريا، وتحتل بالفعل جزءًا منها منذ نشأة الدولة السورية، ووسعت من حجم وجودها في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية في 2011.
بالتأكيد لا يوجد خيار سهل في ضوء التركيبة المتنوعة للشعب السوري وتراث القمع والطائفية الطويل على يد النظام الممتد منذ حكم الأب حافظ الأسد في بداية السبعينيات. كما أنه مع طول مدة الحرب، تراكمت المزيد من مشاعر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وبات من المستحيل عمليًا تصور استعادة الهدوء والاستقرار في ظل استمرار حكم الأسد، أو بالطبع إذا تولت الجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش دفة الحكم.
لا حلول سهلة
بالطبع هناك الحل الذي يبدو جذابًا، بأن يذهب السوريون إلى صناديق الاقتراع حيث يتوافقون على دستورهم ويختارون حُكامهم. ولكن هذا الخيار يزداد صعوبة مع مرور الوقت وتراكم الكراهية والدماء والرغبة في الثأر أكثر من السعي للبحث عن حلول مستدامة. وما يؤكد هذه المصاعب تجربة الحرب الأهلية الدائرة في الجارة ليبيا، وذلك على الرغم من أنها أقل دموية من المأساة السورية، وأبعادها قبلية أكثر منها طائفية.
قد تكون هناك حاجة لفترة انتقالية قد تمتد سنوات قبل البحث عن خيار الانتخابات الحرة
فبعد امتداد الحرب الأهلية التي قسَّمت ليبيا إلى شرق وغرب وجنوب، فشلت كل محاولات إجراء الانتخابات هناك أو الوصول إلى اتفاق على دستور مشترك. ومع مرور الوقت، تحول كل قائد ليبي إلى ما يشبه الرئيس المستقل في المنطقة التي يسيطر عليها، ويرفض بكل تأكيد التخلي عنها بما ترتبه به من امتيازات، والأهم الدعم الخارجي الذي يتدفق من أطراف متعددة، عربية وغربية.
وواجه العراق المعضلة نفسها بعد الإطاحة بصدام حسين، ولم تؤدِّ الانتخابات إلى استعادة وحدته، بل إلى تقسيمه عمليًا إلى مناطق نفوذ شيعية هي الأكبر، وأخرى سُنيِّة في الوسط، بينما يتمتع الأكراد في الشمال بحكم ذاتي، بناءً على وصفة المحتل الأمريكي. ورغم أن الأوضاع الأمنية تحسنت نسبيًا خلال السنوات الأخيرة، فإن خطر انفجار الحرب الأهلية لم يختفِ في ظل تغلغل إيراني عميق في الشؤون الداخلية العراقية واستمرار بروز العامل الطائفي.
وبالتالي فإن الدعوة الآن لإجراء انتخابات حرة في سوريا لا تمثل حلًا عمليًا، خصوصًا في ضوء ترسيخ البعد الطائفي للنظام واستعانته بإيران وميليشيات شيعية قادمة من لبنان والعراق وأفغانستان لضمان استمرار بقائه، بجانب الدعم الروسي الذي دفع ثمنه النظام من خلال منح موسكو قواعد بحرية دائمة في بلاده لا يستطيع الرئيس السوري نفسه الدخول إليها من دون إذن مسبق من الروس.
قد تكون هناك حاجةٌ لفترة انتقالية قد تمتد سنوات قبل البحث عن خيار الانتخابات الحرة التي ستأتي بقيادة جديدة، مع تقديم ضمانات لمختلف الطوائف السورية أنها لن تتعرض للإبادة كما يخشى الكثير من أبناء الطائفة العلوية التي ينتمي لها الرئيس الأسد وأسرته وقادة الجيش والأجهزة الأمنية الشهيرة بدمويتها. وقد يتطلب ذلك الاستعانة بقوات عربية محايدة للإشراف على الفترة الانتقالية إذا كنا مهتمين بالفعل بالبحث عن حل للخروج من المأساة المتواصلة في ذلك البلد العربي العزيز.
دفع الأثمان
ولكن تعقيد المشهد السوري وجرائم النظام والجماعات المتطرفة المعارضة المرتبطة منذ سنوات بتركيا ودول خليجية ثرية لا ينفي أن الهجوم الأخير الذي قام به مقاتلو القاعدة والجماعات المتحالفة معها لا يأتي بالضرورة في سياق الحرب الأهلية الدائرة هناك منذ سنوات طويلة، بل يرتبط أكثر بالمواجهة الإقليمية الأكثر اتساعًا بين إيران من ناحية، وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى.
العدو الإسرائيلي سيعتبر أنه حقق إنجازًا كبيرًا لو تمكن من إضعاف محور المقاومة
فتوقيت الهجوم لم يكن مصادفة أو رغبة في الانتقام من ضربات جوية شنَّها النظام خلال الأسابيع الماضية كما يدَّعون، خاصة وأنه وقع بعد ساعات فقط من إعلان التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، وبعد تهديدات مباشرة وصريحة وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لبشار الأسد ألا "يلعب بالنار" ويستمر في التعاون مع إيران من أجل إعادة تسليح حزب الله بعد الخسائر الفادحة التي لحقت به واغتيال كل قيادات الصف الأول بداية بالأمين العام الراحل حسن نصر الله.
في اليوم ذاته، صرح مسؤول عسكري إسرائيلي رفيع المستوى بأن جيش الاحتلال لن يكتفي بضرب الحدود السورية - اللبنانية لمنع شحنات الأسلحة من الوصول إلى حزب الله، ولكن النظام نفسه سيدفع الثمن. وقال المسؤول في تصريحات نقلتها عنه وسائل إعلام إسرائيلية "إذا ساعدت سوريا حزب الله على إعادة بناء قدراته، فإنهم سيدفعون أثمانًا مباشرةً. لن نقوم فقط بمهاجمة قوافل الأسلحة، ولكن ستكون هناك أثمان يتم دفعها في سوريا أيضًا".
من المعروف أن إسرائيل تنتهك منذ عقود سيادة سوريا التي يترأسها البطل القومي الهُمام بشار، وشنت عشرات الهجمات في عمق العاصمة دمشق استهدفت ليس فقط القدرات العسكرية السورية المحدودة، ولكن كذلك مواقع توجد بها الميليشيات الإيرانية التي تدعم الأسد، بل واستهدفت أيضًا مقر القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية.
بل وقبل إعلان وقف إطلاق النار بساعات، شنت إسرائيل هجومًا موسعًا على طول الحدود اللبنانية السورية، خاصة الطرق التي تستخدم لنقل الأسلحة من سوريا إلى لبنان. وسيستغرق الأمر وقتًا حتى يمكن إعادة بناء تلك الطرق، ما سيُمكِّن إسرائيل من فرض رقابة أكبر على أي أسلحة قد ترغب إيران في إيصالها إلى حزب الله عن طريق سوريا.
وفي ظل دعم روسي متوقع للنظام السوري، بدأ بالفعل بقصف جوي للمواقع التي سيطرت عليها قوات تنظيم القاعدة في حلب، قد لا تستمر تلك السيطرة لفترة طويلة في حرب ممتدة عرفت الكثير من الكر والفر وخسارة مواقع ثم استعادتها. ولكن الرسالة وصلت بكل تأكيد للنظام السوري وداعميه في طهران، وهو أن قواعد اللعبة تغيرت ولن تسمح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة لعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر.
فإسرائيل قد تكون غير قادرة خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، مع الوضع في الاعتبار صعوبة مثل هذه المواجهة بسبب بعد المسافة وتحذيرات واشنطن التي لا ترغب في إشعال منطقة الخليج النفطية. ولكن العدو الإسرائيلي سيعتبر أنه حقق إنجازًا كبيرًا لو تمكن من إضعاف ما يعرف بمجموعات "محور المقاومة"، وفي وصف آخر "أذرع إيران"، بدايةً بحماس مرورًا بحزب الله والحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق ونهاية بنظام الأسد في سوريا.
يخبرنا سجل أسرة الأسد أنه إذا وُضِع أمام خيار دعم المقاومة أو بقاء نظامه، فإنه سيختار بكل تأكيد الحفاظ على كرسيه ولو بقي نفوذه مقتصرًا على العاصمة دمشق، ولو استمرت الحرب الأهلية التي يدفع ثمنها الشعب السوري إلى ما لا نهاية.
المؤكد، أن أيًا من النظام السوري أو جماعات التطرف والإرهاب المدعومة من تركيا وإسرائيل لن يكون خيارًا يساهم في إنهاء الحرب الممتدة، أو استعادة وحدة الأراضي السورية وسيادتها كدولة. وبالتالي لا يوجد أي مجال للفرح أو الانتشاء من التطورات الأخيرة المتسارعة هناك، أو الإسراع في الدفاع عن نظام قاتل مجرم هو السبب في كل ما وصلت له بلاده من انهيار.