
سوريا بعد 100 يوم.. هل خلع الجولاني قناع الشرع ليرتدي قناع الأسد؟
في منتصف مارس/آذار الجاري، مرّ مائة يوم على دخول قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني قصر الشعب في دمشق بعد هروب الديكتاتور السفاح بشار الأسد، فاحتل مقعده الشاغر، لينتهي فصل مأساوي دامٍ طالَ لأكثر من نصف قرن من حكم أسرة الأسد، المتستر بشبح حزب البعث.
ارتدي الجولاني زيا عصريًا وأخرج من الأرشيف اسمه المدني الأصلي: أحمد الشرع، وطوَّر خطابًا سياسيًا بارعًا، مُخاطبًا أعمقَ هواجس ومخاوف المجتمع الدولي من خلفيته الجهادية والأصولية المحافظة. هذه الخلفية التي تبلورت مكوِّناتها الأولى أثناء انخراطه في تنظيمي القاعدة وداعش قبل أن يؤسس جبهة النصرة، التي صارت هيئة تحرير الشام، بعد فصم ولائها لتنظيم القاعدة.
قد يصعب العثور علي خطاب للشرع منذ سيطرته على دمشق في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، مضامينه الأساسية مُوجَّهة فعلًا وليس شكليًا للسوريين، تخاطب هواجسهم السياسية الخاصة. حتى خطاب الوعيد الموجه لهم حصرًا في السابع من مارس الجاري، خلال المذابح التي ارتكبتها قوات الأمن والجيش الجديد ومجموعات حليفة لهيئة تحرير الشام في منطقة الساحل ضد المدنيين الأبرياء من الطائفة العلوية، في أعقاب تمرد مسلح من بعض فلول النظام السابق.
تحولات أيديولوجية أم براجماتية؟
منذ 8 ديسمبر، عكف كثير من المراقبين المحليين والدوليين على تحليل إيماءات وكلمات ومواقف الجولاني، الذي صار الشرع، والتفتيش فيها عمَّا يكشف أو ينفي أو يساعد في فهم وقياس مستوى عمق التزامه بالفكر الجهادي، والتوجهات المعتادة لأتباعه.
لم يلتفت كثيرون إلى الاستنتاجات التي توصلت إليها دراسات رصينة أكاديمية وميدانية في سوريا، قبل انطلاق كتائب هيئة تحرير الشام من إدلب صوب دمشق، من أن منظمات جهادية مثل الهيئة نفسها، مرَّت بعملية إصلاح ذات طابع تفاعلي تدريجي، ناشئة عن عاملين: الأول هو اضطلاعها الاضطراري بمسؤوليات إدارية ومعيشية في المناطق المحررة التي تديرها، والثاني هو تأثير الاحتكاك المباشر بالنموذج التركي في الحكم، الذي يديره حزب ذو جذور إسلامية.
أحد أبرز انعكاسات هذا التحول هو تخلي الجولاني علنًا عن المواجهة مع الغرب، وعن "عالمية" الدولة الإسلامية، وانخراطه في محاربة تنظيمي داعش والقاعدة في سوريا، وحصره الهدف الجغرافي لكفاح منظمته بسوريا.
ليس مؤكدًا ما إذا كان ذلك يعكس تحولًا أيديولوجيًا عميقًا، أم مجرد موقف براجماتي مؤقت فرضه بؤس حال علاقات القوى. مثلما لا يتضح حتى الآن لماذا اختار الجولاني في عام 2017 لفظة "الشام" لاسم منظمته بدلًا من "سوريا"، فالشام تاريخيًا لا تنحصر بسوريا، بل تشمل لبنان والأردن وفلسطين والموصل في العراق، وجزءًا من شبه جزيرة سيناء المصرية، وجزءًا آخر في شمال السعودية. كما أن الجولاني سبق وانخرط مبكرًا في منظمات جهادية غير سورية: لبنانية وعراقية، أي "شامية" بمعنىً ما.
في كل الأحوال، ربما أكثر المؤشرات سطوعًا على المدى الذي يمكن أن تصل إليه مرونة عقل وسيكولوجية الجولاني، هي قبوله منذ نحو عشر سنوات علاج زملائه المقاتلين المصابين في جبهة النصرة، في المستشفيات الإسرائيلية عبر الحدود مع سوريا.
ربيع دمشق الثاني
بينما انشغل المراقبون بالتفتيش في العقل الجهادي للجولاني، لم يُفوِّت الشرع فرصة واحدة منذ منذ 8 ديسمبر الماضي ليعزز كل مرتكزات الحكم الفردي الذي يقول إنه رحل في حقائب الأسد الهارب بلا رجعة.
المحطة الأولى على طريق استنساخ النظام البائد في نسخة جديدة، كانت اختزال 14 عامًا من الكفاح الدامي السياسي والفكري والإعلامي والدبلوماسي والمسلح متعدد الجبهات والأطراف في كل بقاع ومدن سوريا، في طرف واحد منتصر؛ هو هيئة تحرير الشام، رغم أن الهيئة لم تكن أول طرف مسلح يدخل دمشق، بل كانت إحدى كتائب جنوب سوريا.
وفق معدلات النمو الاقتصادي الحالية فلن تستعيد سوريا مستوى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011 قبل عام 2080
لم يُهزم نظام بشار في معركة عسكرية فاصلة، بل انهار تدريجيًا تحت وطأة كفاح بطولي جماعي، بالتضافر مع منظومة عقوبات اقتصادية دولية خانقة قوَّضت مرتكزات تماسكه، بما فيها قدرته على دفع رواتب معقولة لضباط جيشه. تزامن ذلك مع الضربات الإسرائيلية القاصمة لأهم داعمي الأسد الميدانيين: إيران وحزب الله. بينما كانت روسيا مستنزفة عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا في الجبهة الأوكرانية.
مَن خاض غمار هذا الكفاح الشعبي الضاري غير المسبوق في العالم العربي هم ملايين السوريين، بانتماءات سياسية ومدنية وعسكرية لأيديولوجيات وقوميات وطوائف دينية مختلفة. مع ذلك، قد لا يتذكر أحد 8 ديسمبر باعتباره يوم الانتصار الجماعي، بل على الأرجح سيكون فقط يوم سقوط حكم الأسد، أو يوم انتصار هيئة تحرير الشام، أو قد يؤرخ، بالتبعية، لهزيمة باقي فصائل الثورة الأخرى، في حال استمرار المسار الانفرادي الحالي، وتهميش بعض شركاء الثورة أو كلهم، أو الصدام معهم.
المؤتمر الهزلي الذي سُمِّي بـ"مؤتمر النصر" في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، واجتمعت فيه بعض فصائل الجماعات المسلحة تحت مظلة هيئة تحرير الشام، واتخذت عدة قرارات تتعلق بمستقبل سوريا، من بينها "حل كل الأشكال السياسية والمدنية ودمجها في الدولة"، هو أفضل تجسيد لهذه المعاني السلبية التي حطَّت من قدر الثورة والتضحيات العظيمة للشعب السوري.
هل يعي من أصدروا مثل هذا القرار معناه أو حتى قابليته للتنفيذ؟ عن أي دولة يتحدثون؟ الدولة التي انهارت في 8 ديسمبر، أم الدولة التي لم تنشأ بعد إلا على الورق، وتتقاسم أرضها جيوش تركيا وإسرائيل وأمريكا وروسيا وميليشيات مسلحة متعددة الولاءات المحلية والإقليمية والدولية؟
دول العالم التي يتطلع إليها الشرع، وسبق لها حلّ الكيانات المدنية والسياسية ودمجها هي دول ذات طابع شمولي، مثل روسيا الستالينية وألمانيا النازية وداعش الإسلامية. فأي نمط منهم يتطلع إليه رئيس الدولة السورية "الجديدة"؟
كرَّست كل المبادرات والقرارات التأسيسية ذات الطابع السياسي والمؤسساتي منذ 8 ديسمبر دولة اللون الواحد، فاحتكرت هيئة تحرير الشام التشكيل الحكومي المركزي وفي المحافظات والجيش والمؤسسة الأمنية، بل وجرى استبعاد وتهميش أبرز رموز الكفاح السياسي والمدني المتواصل في سوريا منذ ربيع دمشق في 2003 من كافة المداولات الرسمية حول مستقبل سوريا، بما فيها الحوار الوطني والإعلان الدستوري الذي يُتوِّج "ملكًا" على رأس نظام جمهوري، فيتمتع فيه بصلاحيات لا يجرؤ ملوك دول عربية مثل المغرب والأردن على تخيلها.
لا شك أن كثيرًا من الفاعلين السياسيين والمثقفين السوريين يشعرون بأسىً عميقٍ عندما يقارنون مهزلة "اللاحوار اللاوطني" الذي جري الشهر الماضي بالحوارات العميقة الممتدة التي جرت في عموم سوريا خلال ما عرف بربيع دمشق قبل ربع قرن، برعاية بشار الأسد، في سياق مناورته الكبرى التي استهدفت خداع الشعب السوري والمجتمع الدولي، حينما كان يتهيأ ليحبو خطواته الأولى على درج مرحلة أكثر عسفًا ودموية من حكم عائلته لسوريا.
شراهة السلطة
لم تهبط المذابح التي شهدها الساحل السوري هذا الشهر من السماء، بل نبتت على أرضية من فقر في الحوار النِّدِّي ووفرة في التعليمات العليا وتشكيلات اللون الواحد.
انبثقت من هذا السياق الاحتكاري النهم للسلطة، المتلهف للتكويش على الدولة، وبطريقة فهلوية بائسة لُصِّمت فيها ميلشيات مسلحة وجرى إعلانها جيشًا للدولة وهيئة لحفظ الأمن العام، وإهمال الدروس المؤلمة لحل الجيش العراقي بعد الغزو الأمريكي.
كان الاستغناء المستهتر عن خيرة ضباط الجيش السوري الذين عارضوا حكم بشار الأسد وانشقوا عنه بأسلحتهم، ودفعوا ثمنًا باهظًا لموقفهم الوطني النبيل، صادمًا للمدنيين قبل العسكريين.
عجز خطاب أحمد الشرع في السابع من مارس الحالي عن الارتقاء إلى مدى خطورة التعبئة الطائفية داخل قواته العسكرية والأمنية وداخل المساجد للفتك بالمدنيين العلويين في الساحل، واختزل المأساة في ردِّ فعلٍ تأديبيٍّ على تمرد بعض فلول النظام السابق في المنطقة، رغم أنه يدرك مدى رسوخ التعبئة الطائفية المسلحة ضد العلويين في المنظمات الجهادية السورية، بل إنه تاريخيًا لعب دورًا موثقًا في هذا السياق.
أدت بشاعة ووحشية الجرائم التي ارتكبتها الميلشيات المجيشة في الساحل إلى عودة موجات النزوح الجماعي داخل سوريا، بما في ذلك لجوء الآلاف للاحتماء بالقاعدة العسكرية الروسية في سوريا، أو النزوح هربًا للبنان، كأن الكابوس الأسدي الدامي مازال يخيم في الأفق.
كانت هذه المذابح بمثابة رسالة بأن العلويين في الساحل قد يكونون محطة البداية لقطار قد يدهس آخرين لاحقًا. وإذا كان دقيقًا ما ورد في التقرير الذي نشرته مؤخرًا مجلة المجلة، نقلًا عن دبلوماسي غربي، بأن ثلاث جماعات مسلحة أخرى، غير جهادية تديرها تركيا، ساهمت في أعمال العنف الطائفي ضد العلويين، فإن هذا يضفي تعقيدات أكبر على المشهد السوري، نظرًا لخصوصية علاقة الارتباط التاريخية غير المتكافئة التي جمعت بين تركيا وهيئة تحرير الشام منذ نشأتها.
يُفاقم من هذه التعقيدات أن سوريا تواجه وضعًا اقتصاديًا كارثيًا، يلخصه تقرير أصدره الصندوق الإنمائي للأمم المتحدة الشهر الماضي بأن استمرار معدلات النمو الحالية لن يُمكِّن السوريين من استعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011 قبل عام 2080، في دولة يقبع 90% من مواطنيها تحت خط الفقر. وأنه لتقليص فترة التعافي هذه من 55 سنة إلى 10 فقط، يتعين أن يتضاعف النمو الاقتصادي السنوي ست مرات.
الاضطلاع بمهمة تاريخية كهذه، يكاد يكون أمرًا مستحيلًا في دولة تمزقها كانتونات مسلحة بينها تاريخ دامٍ من الشكوك، وطوائف أكثرية وأقليات تتشبع أقسام كبيرة منها بكراهية مسمومة لم تتوقف حملاتها برحيل الأسد، فضلًا عن أطراف دولية وإقليمية مؤثرة لها قواعد عسكرية وأطماع يؤججها التباطؤ في النهوض وعجز الحاكم الجديد عن بلورة مشروع وطني مُلهم يجمع القوى السورية، ولو على حساب مشروعه الفصائلي المنفرد.
يحتاج أحمد الشرع إلى إعادة تأمل الأيام المائة الماضية، ربما يستخلص استنتاجات تساعده
ربما هذا ما قصده تقرير الأمم المتحدة بقوله أن "التعافي يتطلب رؤية وطنية واضحة" و"استراتيجية شاملة تعالج متطلبات اصلاح الحوكمة". ولكن للأسف، كثير من الإجراءات والسياسات والإعلانات التي سادت منذ 8 ديسمبر ليست إلا خطوات في الاتجاه المضاد للإصلاح. ولا تعكس إلا رؤية وهمية تتصور أن بإمكان الإدارة الجديدة، لمجرد أن من فيها يظنون أنهم يحظون بمساندة أغلبية سنية، النجاح فيما فشل فيه أسلافها، الذين تماهوا مع أقلية علوية.
إذا كان ذلك الوهم متأصلًا، فإنهم يقدِّمون عبره أفضل خدمة لمشروع اقتسام سوريا ورعاته الإقليميين.
تفاقمت أيضًا أزمة الثقة الدولية بالإدارة الجديدة في سوريا في أعقاب مذابح الساحل ضد مدنيين أبرياء لا يحملون سلاحًا، والعجز عن منعها أو الحد منها، أو تقديم دليل ينفي التقارير الحقوقية والإعلامية عن تورط ميليشيات "الجيش" الجديد والإدارة الأمنية الجديدة في ارتكابها، بمشاركة نشطة من المقاتلين الأجانب الذين تتمسك بهم هيئة تحرير الشام.
انعكس تراجع الثقة في أنَّ لدى الإدارة الجديدة إرادة سياسية لمواجهة كتلة المقاتلين الأجانب داخل هيئة تحرير الشام، في البيان الصادر عن مجلس الأمن في 14 مارس ومداولات الجلسة المغلقة التي سبقته. تضمن البيان عدة مطالبات أغلبها موجّه إلى "السلطة المؤقتة" في سوريا، ولكن المطلب المتعلق بأهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة خطر "المقاتلين الإرهابيين الأجانب" كان موجَّهًا إلى عموم سوريا. ووفقًا لتقرير عن مداولات المجلس؛ فقد رُفِض اقتراح بتوجيه هذا المطلب إلى الإدارة الجديدة.
أزمة تراجع الثقة شملت أيضًا مؤتمر المانحين الدوليين لسوريا الذي انعقد في بروكسل في 17 مارس، وأجَّل تقليص العقوبات الاقتصادية على سوريا، ولم تُوجَّه المنح السخية لمساعدة سوريا إلى الحكومة السورية، بل مُرِّرت عبر المؤسسات الدولية.
يحتاج أحمد الشرع إلى إعادة تأمل الأيام المائة الماضية، ربما يستخلص استنتاجات تساعده على الخروج من هذا المأزق الاقتصادي السياسي الطائفي الوطني الذي لا يوجد من يحسده عليه. ربما يتوصل إلى "رؤية وطنية" تشاركية تستنفر حماس كل أطياف السوريين، وتجند كل طاقاتهم، وتغلق الباب أمام المرارات القديمة والأطماع الإقليمية المتحفزة.
قد يكون مفيدًا في هذا السياق إعادة تأمل الطريق المسدودة التي سلكها أسلاف الشرع من الحكام العلمانيين وغير العلمانيين في أغلبية الدول العربية منذ استقلالها في منتصف القرن الماضي. لم تكن المشكلة أبدًا مدى علمانيتهم أو عمق إسلامهم، بل في أنهم مارسوا، باختلاف مشاربهم، نفس سياسات المستعمر الأجنبي القائمة على إنكار أن هذه الشعوب مؤهلة لحكم نفسها بنفسها.
يأمل السوريون أن يكون بشار الأسد هو آخر هذا النمط من المستعمرين "الوطنيين".
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.