حساب إدارة العمليات العسكرية السورية على إكس
أحمد الشرع في دمشق عقب سقوط نظام الأسد، 9 ديسمبر 2024

تقسيم الكعكة السورية| عصا إسرائيلية وجزرة أمريكية ونفوذ سعودي

كشف حساب مصالح دول العالم في سوريا

منشور الأربعاء 26 فبراير 2025

بعد أن استعرضت في المقال السابق مصالح إيران وروسيا وتركيا في سوريا ما بعد الأسد، ورغباتها ومخاوفها السياسية والأمنية في ترتيبات تأسيس الدولة الجديدة، كونها الأطراف الأكثر تأثيرًا عسكريًا سابقًا وحاليًا، نواصل في هذا المقال كشف حساب بقية الدول المؤثرة على الوضع في سوريا.

تزداد المخاوف الأمريكية من أن تفتح التطورات الراهنة بابًا تعود منه المنظمات الجهادية مجددًا، لذلك فإن أهم عامل يحدد سياسات واشنطن تجاه دمشق هو استئصال تلك التي تتعدى أهدافها الحدود السورية، خصوصًا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

يوجد في سوريا نحو ألفي جندي أمريكي منخرطين في تعاون عسكري ومعلوماتي مع قوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي البلاد، من أجل تأمين سجون ومخيمات في الحسكة والقامشلي والهول يقبع بها قرابة تسعة آلاف مقاتل داعشي، وما قد يصل إلى 45 ألفًا من عائلاتهم. كما أنها تراقب عن كثب تأمين السجون، خوفًا من فرار المقاتلين منها كما جرى في سجن الحسكة عام 2022.

لا تمانع إسرائيل أن يستعمل الأسد الأسلحة الكيماوية ضد مواطنيه لكنها لن تقبل وجودها مع ميليشيات مسلحة

وشنت الولايات المتحدة مؤخرًا العديد من الغارات ضد أهداف تقول إنها لداعش والقاعدة، كان آخرها هذا الشهر. ويؤكد القادة العسكريون الأمريكيون مرارًا أنهم مستمرون في مطاردة داعش وأنهم سيحاسبون أي طرف يتعاون معه في سوريا.

وفي الوقت نفسه، ترغب الحكومة الأمريكية الجديدة بزعامة دونالد ترامب في سحب قواتها وتقليل نفقاتها، تاركةً لدول المنطقة مهام التعامل مع هذا الخطر المحتمل، وهو أمر قد يهمّ تركيا والأردن المنزعجَيْن من الجهاد الإسلامي المعولم. كما أن لتركيا مصلحة في توقف الدعم الأمريكي لقسد، كونها أحد وجوه حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة إرهابيًا. وطلبت الولايات المتحدة من حكومة الأمر الواقع في دمشق الاهتمام بهذا الملف فيما بدا أنه أحد شروط رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة على سوريا.

ولا تحتاج هيئة تحرير الشام لأسباب لقتال داعش التي خاضت معها مواجهات دموية بعد تحول الهيئة عن السلفية الجهادية منذ عدة سنوات، لكنها تحتاج لتفاهمات مع قسد، وإلى جزرة تحفيز أمريكية فيما يتعلق برفع العقوبات، خاصة وأن قرار واشنطن تخفيفها مؤقتًا مطلع الشهر الماضي يظل إجراءً محدودًا غير كافٍ، كونه لن يسمح بفتح الباب أمام الاستثمارات المطلوبة لإعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية.

ومن المرجح أيضًا أن تقدم واشنطن جزرة رفع العقوبات لقاء بدء سوريا الجديدة محادثات مع إسرائيل تمهيدًا لإنهاء العداء بين الدولتين، والوصول لاتفاق بشأن هضبة الجولان السورية المحتلة. وغالبًا، ستحتفظ إسرائيل بالمساحة الإضافية التي احتلتها بعد سقوط الأسد ورقةً مفاوضةً إضافيةً في أي مباحثات قادمة.

هذا الاتفاق بات أكثر إلحاحًا بالنسبة لإسرائيل بعد هروب الأسد الذي لم ترغب الدولة الصهيونية بشكلٍ خاص في إسقاطه، إذ يبقى التعامل معه أسهل من بدائله المجهولة التي قد تثير مشاكل أكبر. فرغم أن النظام السابق جعل البلاد معبرًا للسلاح بين إيران وحزب الله، فإنه في الوقت نفسه لم يقدم الحماية لقادة التنظيمات المسلحة الفلسطينية واللبنانية، والمسؤولين العسكريين الإيرانيين، الذين دأبت إسرائيل على استهدافهم مرارًا. 

لذلك مثَّل سقوط الأسد تطورًا مزعجًا لتل أبيب التي دمَّرت على الفور بقايا الجيش السوري المتهالكة، وما قالت إنه مخزون الأسلحة الكيماوية لدى سوريا. لا تمانع إسرائيل أن يستعمل الأسد تلك الأسلحة ضد مواطنيه، ولكنها لن تقبل وصولها إلى أيادي ميليشيات مسلحة لا يمكن توقعها، ولا أمريكا والغرب الذي لم يُدِن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي أو يعلق عليها.

استقرار مهم للبنان والأردن

أحمد الشرع خلال استقباله وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي والوفد المرافق له، 23 ديسمبر 2024

بعكس ما سبق، فإن ما ترغب فيه الدول العربية المجاورة لسوريا، خاصة لبنان والأردن، هو استقرار سوريا وعدم تحولها مصدر إزعاج أمني أو نزوح.

لطالما خضعت علاقة لبنان بسوريا لخطط واستراتيجيات حزب الله الذي لطَّخ تدخله في سوريا صورته ليتحول من فصيلٍ يقاوم إسرائيل إلى ميليشيا ترتكب فظائع مخجلة في سوريا، لعل أكثرها ترويعًا مجزرة القصير.

لكن مع اضمحلال دور الحزب نتيجة الخسائر الهائلة التي تعرضت لها قيادته وجنوده جراء الهجمات الإسرائيلية الوحشية ردًا على القصف غير المؤثر استراتيجيًا الذي نفذه الحزب ضد أهداف متعددة في شمال إسرائيل، كجزء من محور المساندة لحماس في معركتها غير المتكافئة ضد قصف إسرائيل الإبادي، لا يتوقع أن يلعب الحزب دورًا مؤثرًا داخل سوريا في المستقبل القريب، وإن كانت قدرة بعض عناصره على إثارة القلاقل قائمة، وفي هذا يعتمد الأمر على الرغبة الإيرانية.

وسيرغب لبنان وحكومته الجديدة برئاسة نواف سلام في عودة ما قد يصل لمليون لاجئ سوري من أراضيه، وبالتالي فله مصلحة أكيدة هو الآخر في استقرار سوريا.

وقد تسعى سوريا في المستقبل القريب لتسليم بعض رموز ورجال النظام الأسدي الذين فروا إلى لبنان وأيضًا تبيّن مصير ودائع مالية ضخمة قد تكون ما زالت معلقة في مصارف لبنانية، بالغ بشار الأسد عام 2021 في تقدير قيمتها قائلًا إنها قد تصل لستين مليار دولار.

ويرغب الأردن بدوره في استقرار سوريا.

ويلخص المعلق الأردني منذر الحوارات هذا الموقف قائلًا إن ما تخشاه عمّان "هو نشوب الصراع بين فلول النظام القديم والنظام الجديد، وكذلك هيمنة قوى إقليمية جديدة على الحكم في سوريا تشغل مكان إيران وروسيا، وهو ما قد يشعل فتيل حرب أهلية جديدة تؤدي إلى حالة من الفوضى في سوريا".

يرغب الأردن إذن في ضبط الحدود لإيقاف تدفق أقراص الكبتاجون المخدرة والأسلحة، التي دفعته في الماضي لشن غارات على مراكز التهريب وميليشياته التي أشرف عليها النظام الأسدي. صار الكبتاجون في السنوات الماضية تجارة ضخمة تعدى حجمها الخمسة مليارات دولار وخلق مشكلة عويصة للأردن نفسه، مع ارتفاع معدلات الإدمان. ولكن السوق الرئيسية عبر الأردن كانت السعودية التي اضطرت لفرض إجراءات مشددة على الحدود بين البلدين، مما أثر أحيانًا على التبادل التجاري المهم بينهما.

ويريد الأردن ضبط الحدود والتعاون الأمني من أجل السيطرة على تسرب أي عناصر جهادية مسلحة ولا سيما المقاتلون الأردنيون في صفوف داعش وغيرها.

وفي المستقبل القريب سيكون من المهم عودة 730 ألف لاجئ سوري مسجلين لدى الأمم المتحدة في الأردن، وبعدها النظر في تعظيم فرص التبادل التجاري بين البلدين، وسيستلزم كل هذا نظامًا سياسيًا مستقرًا ومتعاونًا في دمشق.

السعودية.. زعامة الإقليم تمر من دمشق

كانت السعودية أول بلد عربي يزوره الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع. تحتاج سوريا إلى السعودية التي تبرز تدريجيًا في المنطقة بفضل ثروتها الهائلة وأسواقها الضخمة كزعيمة سياسية واقتصادية. وبينما تحتاج دمشق إلى المال والدعم السياسي السعودي، ترغب الرياض تدريجيًا في إحلال هلال سني تقوده هي في بلاد الشام، محل الهلال الشيعي الذي طالما هيمن عليه خصمها الإيراني.

وفي هذا، يمكن لنظامٍ سوريٍّ مستقرٍ أن يلعب دورًا محوريًا تستكمل معه السعودية مد نفوذها العائد في لبنان، والحصول على شروط أفضل في التوصل لتعايش سلمي مع إيران، ثم في عملية التطبيع المتوقع استئنافها قريبًا مع إسرائيل. 

أما قطر فتقدمت كل دول العالم في مباركة النظام السوري الجديد عندما وصل أميرها تميم بن حمد إلى دمشق بعد تولي الشرع رئاسته بساعات، وقبل ثلاثة أيام من زيارة الزعيم السوري للرياض. ورافق وزيرا الخارجية والدفاع القطريان الأمير الذي دعا لتشكيل حكومة تمثل كل السوريين، بينما تركزت محادثات البلدين حول الدعم القطري لإعادة الإعمار، خاصة في مجال الطاقة ودعم موازنة الدولة.

ومن بين الدول الخليجية المعنية لم يتبقَّ سوى الإمارات، القلقة نسبيًا من التحول في سوريا كونها تعادي غالبًا أي مشروع إسلامي خاصة لو تعدَّت طموحاته حدوده الوطنية.

يفسر ذلك سياسات أبوظبي في عدة بلدان عربية عقب التحولات الواسعة في المنطقة، نتيجة انتفاضات الربيع العربي. لم تكن أبوظبي معنية بجهود بناء الدولة أو الاستقرار الذي قد يؤدي لبقاء إسلاميين في السلطة وفضلت دعم ميليشيات مسلحة كما فعلت صراحة في ليبيا والسودان واليمن.

ولكن الرئيس الشرع كان واضحًا في وقت مبكر، أن طموحاته لا تتعدى حدود سوريا، وأن أمن واستقرار الدول المجاورة مهمان لبلده، الأمر الذي تأكد في مواجهات تنظيمه الدموية مع تنظيمات السلفية الجهادية مثل القاعدة وداعش في السنوات الماضية.

سيكون نجاح أو فشل كل هذه الدول والجماعات الخارجية المعنية بسوريا مرتبطًا بسلوك ومصالح ورغبات بعضها البعض، ثم، وبشكلٍ أقوى، توافقها أو تعارضها مع أطراف محلية سورية، في مقدمتها هيئة تحرير الشام التي تسيطر بحكم الأمر الواقع على الحكم في دمشق، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بمكوّنها الكردي الحاكم، وفصائل أخرى أقل أهمية متحالفة مع تركيا أو الولايات المتحدة، وأخيرًا القوى المجتمعية الممثلة للطوائف والعرقيات والمناطق المتعددة، التي تتقاطع مصالحها في أنحاء البلاد.

ستؤثر هذه الدول بلا شك سياسيًا واقتصاديًا على الوضع الهش الحالي في سوريا. ومثلما يمكن لها بحد أدنى من التوافق تأمين المرحلة الانتقالية وضمان الاستقرار في البلاد، فإنها قادرة أيضًا على دفع سوريا نحو الانزلاق أكثر في حرب أهلية سيخسر فيها الجميع، في مقدمتهم الشعب السوري الذي عانى كثيرًا طوال أكثر من خمسين عامًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.