اندلعت الثورة السورية عام 2011 لأسباب عديدة وعميقة لم يكن أقلها اشتعال الغضب الشعبي من إمعان السلطات في الإذلال وردود فعلها العنيفة على احتجاجات سلمية خوفًا من انتقال عدوى الربيع العربي إليها. هنا انطلق شعار "الشعب السوري ما بينْذَل" في مظاهرة نادرة شهدها سوق الحريقة المجاور لسوق الحميدية، مطلع ذلك العام، احتجاجًا على اعتقال وإساءة معاملة أحد الشبان.
والآن سقط النظام المسؤول عن إذلال الشعب وامتهان كرامته على مدى عقود، ولكنَّ تِركَتَه المعقدة تمتدُ إلى مستويات عديدة من المعاناة الاقتصادية. لم ينتهِ ذلُّ الفقر بعد، بل يُخشى من أن يشكِّل وقودًا للاضطرابات.
هذا الذل والحاجة كانا واضحَين لا شك في تزاحم آلاف المحتاجين أمام الجامع الأموي قبل أسبوعين، من أجل الحصول على وجبة من طباخ مشهور أقام وليمة ضخمة أمام المسجد وأعلن عنها بشكل واسع على السوشيال ميديا. في هذا اليوم مات أربعةُ أشخاص وأصيب 16 آخرون بينهم أطفال، دهسًا واختناقًا بسبب التدافع للحصول على بعض الطعام، وفي هذا ذلٌّ وأي ذل!
أَجْمَع كلُّ من تحدثت إليهم في دمشق ومعهم الخبراء في الشأن السوري على أن العقوبات الدولية، خاصة الأمريكية، تشكِّل العقبة الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة، أمام تعافي الاقتصاد السوري بما يسمح إلى جانب سياسات جيدة تراعي جوانب العدالة الاجتماعية، بالتعامل مع الفقر الذي يخيم شبحه على البلاد، والبطالة المستشرية، وتدني الخدمات الاجتماعية.
العقوبات الدولية الخانقة
تمنع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا تدفق أي استثمارات لإعادة تأهيل بنية البلاد التحتية والقطاعات الزراعية والصناعية والنفطية. ووفق بعض التقديرات، تحتاج سوريا لما يزيد عن مائتي مليار دولار للتعافي، وهي أموال يستحيل تدفقها دون ترتيبات سياسية مستقرة وتوافقات دولية تؤدي لرفع هذه العقوبات.
ورغم الأثر الإيجابي لقرار الولايات المتحدة في مطلع الشهر تخفيف العقوبات لستة أشهر، تظل هذه الخطوة غير كافية. يسمح هذا التخفيف المؤقت بالعمل والتعاقد مع المؤسسات الحكومية السورية، عدا الأمن والجيش، ويقصر مجالات التعامل في الطاقة على بيع وتوريد وتخزين والتبرع بالطاقة ومشتقات النفط، ويسمح بالتحويلات لدفع رواتب الموظفين وأيضًا بالتحويلات المالية الشخصية غير التجارية من خارج البلاد، مع حظر أي تعاملات تتضمن حكومتي روسيا وإيران وأي أشخاص مدرجين على قائمة العقوبات.
وفي بلد ينقطع فيها التيار الكهربائي معظم اليوم ويتعدى سعر لتر البنزين 1.2 دولار، سيكون لتخفيف العقوبات أثر إيجابي مؤقت فيما يتعلق باحتمال زيادة القدرة على توليد الكهرباء المطلوبة بشدة، غير أن الاستثمار الحقيقي من خارج البلاد في مشاريع الطاقة والقطاع النفطي عمومًا يستلزم ألا تكون هناك أي عقوبات أو تهديدات بفرضها لعدة سنوات مقبلة، وليس رفعًا جزئيًا مؤقتًا لجانب منها.
ليس متوقعًا أن تُرفع العقوبات قبل التوصل لترتيبات سياسية مستقرة في دمشق تتوافق مع أولويات واشنطن فيما يتعلق بسياسات النظام الجديد في دمشق، خاصة الخارجية. وسيكون لعواصم أخرى تأثير في مستقبل العقوبات، خاصة أنقرة والرياض وأبوظبي، بينما سيكون لتل أبيب تأثير خاص بسبب نفوذها الهائل في الولايات المتحدة.
قطاع النفط
بعد أن عبرت سيارتنا اللبنانية الحدود نحو سوريا، شاهدت عددًا من السيارات متوقفة على جانبي الطريق تفرغ ما فيها من بنزين في جراكن وعبوات بلاستيكية تحملها سيارات سورية لبيعها في البلدات والمدن القريبة. وفي دمشق، رأيت عشرات الصبية والرجال يقفون في ميادين العاصمة وبعض شوارعها وأمامهم صفوف من هذه العبوات الكبيرة يبيعون لتراتها للسيارات التي يقدر أصحابها على دفع الثمن الباهظ.
تستورد سوريا معظم احتياجاتها من المحروقات مع انهيار صناعة النفط المحلية التي كانت تمثل من 15% إلى 20% من إجمالي الناتج المحلي، وربع عائدات الحكومة قبل 2011. لذا تبدو الحاجة ماسةً لإصلاحات واستثمارات هائلة في هذا القطاع، حيث لا يتعدى الإنتاج الحالي الآن 40 ألف برميل يوميًا وفق الخبير النفطي وليد خدوري، ولا تزيد عن 120 ألف برميل وفق تقديرات الخبير الاقتصادي كرم شعار، أي ما نسبته 10% إلى 30% من إنتاج سوريا قبل 2011.
كانت الولايات المتحدة وقوى أخرى قصفتْ بقسوة آبار نفط كانت تحت سيطرة داعش قبل عشر سنوات، ما يتطلب استثمارات كبيرة لإعادتها للإنتاج. والتحدي الآخر في مجال النفط هو سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية على أغلبية حقول النفط حيث يجرى الإنتاج بأساليب بدائية أضرت "باحتياطيات الحقول والآبار وتسبب بتقليص الطاقة الإنتاجية"، وفق الشعار الذي يشير إلى أن قسد تريد نصف عائدات النفط رغم أن أقصى تقديرات لمن هم تحت سيطرتهم لا تزيد ربما عن 20% من سكان سوريا.
ويحتاج القطاع النفطي عمومًا، وفق رجل أعمال سوري تحدث إلى المنصة، طالبًا عدم نشر اسمه، نحو "ملياري دولار من أجل إعادة تأهيل شامل للآبار والمنشآت السطحية في محطات الإنتاج وخطوط النقل وتسهيلات التخزين والشحن". ورغم أن حقول الغاز الموجودة في منطقة تدمر قد "تحقق لسوريا اكتفاءً ذاتيًا من الطاقة، فإن هذه المسألة تحتاج إعادة دراسة وتقييم" ما يتطلب ضخَّ أموالٍ واهتمامًا من شركات أجنبية.
سيحتاج رفع الإنتاج واجتذاب رؤوس أموال عالمية في هذا المجال استقرارًا سياسيًا واتفاقات خاصة بين قسد ودمشق، وأيضًا سياسات مستقبلية ذات رؤية محددة بشأن الطاقة البديلة وإمكانات التحول إليها عوضًا عن ضخ استثمارات ضخمة في إعادة تأهيل قطاع نفطي غير معروف الاحتياطيات بدقة، وبالتالي إمكانات الإنتاج في العقد المقبل.
أموال منهوبة وتوافق هش
يمتلك رفعت الأسد، عم الرئيس المخلوع والمُلاحق جنائيًا من محاكم أوروبية، أصولًا وعقارات تصل قيمتها لقرابة المليار دولار في فرنسا وإسبانيا. بالإضافة إلى ذلك، هناك أموال طائلة هُرِّبت إلى دبي حيث يقيم عدد من كبار رجال الأعمال المتعاونين مع النظام البائد مثل رامي مخلوف وفوز سامر ومحمد حمشو.
وتشيرُ تقديراتٌ مطّلعةٌ إلى أنّ الأموال السوريّة التي استقطبتها السوق الإماراتية منذ 2011، تصل إلى 40 مليار دولار، نصفها في مجال العقارات، ويرجح أن القسم الأعظم من هذه الأموال يخص رجال أعمال وأثرياء سوريين غير مرتبطين بالنظام، ولكنَّ قسمًا منها بلا شك لرجال أعمال مرتبطين بالنظام الأسدي.
يمكن أن يساهم استعادة جزء من مليارات الدولارات التي جرى تهريبها لخارج سوريا بأشكال "شرعية" وغير شرعية في العقود القليلة الماضية في إعادة إعمار البلاد. ولكن إعادة الإعمار لا تحدث بالمال وحده.
هناك مخاوف من أن يهيمن القطاع الخاص على إعادة التعمير
والحقيقة أن مشكلة إعادة الإعمار ليست في تهريب الأموال فحسب، ولكن في مخاوف غياب توافقات سياسية تخلق استقرارًا وسلامًا يسمح للسوريين النازحين بالعودة والعمل، وللدول المؤثرة برفع العقوبات، ولكل الأطراف بالاستثمار.
علاوة على هذا، سيتطلب الأمر سياسات ناجعة في مجالات التشغيل، والخدمات العامة، والاستثمار والصناعة والزراعة والضرائب والاستيراد والتصدير.
وسيعتمد تحديد السياسات المقبلة على إجابات أسئلة مهمة منها:
- هل يجب حماية الصناعة المحلية بفرض رسوم جمركية عالية على الواردات، خاصة التركية التي باتت تغرق الأسواق، والتي تضاعفت أكثر من سبع مرات في آخر 15 عامًا لتقترب من 2.2 مليار دولار، مرجَّحة للارتفاع في ظل الواقع الجديد؟
- هل يجب الاستمرار في زراعة القمح والتوسع فيه، في بلد يعاني من فقر مائي نسبي وموجات جفاف حيث تستورد سوريا 1.5 مليون طن من القمح سنويًا أي ثلثي احتياجاتها السنوية، بعدما كانت تكتفي محليًا في العقد الأول من هذا القرن؟
- ما هو دور الدولة في الصحة والتعليم؟
- هل ينبغي اتباع سياسات لا مركزية في توزيع الموارد، مثل النفط الذي تسيطر المنطقة الخاضعة لإدارة كردية في الشمال الشرقي على معظمه؟
- ما هو مستقبل بيروقراطية الدولة المُمثلة فيها نسبة غير متكافئة من الطائفة العلوية والمتخمة بما يُسمّى "الموظفين الأشباح" الذين يتقاضون رواتب دون عمل؟ وكيف يمكن تقليص هذه العمالة تدريجيًا، للتخلص من فاتورة رواتبها، مع تجنب الآثار الاجتماعية المدمرة لمثل هذه الخطوة؟
يشدد الاقتصادي جهاد يازجي على أن إعادة إعمار بلد مدمر مثل سوريا غير ممكنة "بلا دور مركزي للدولة لتدير الأموال وتوزعها بشكل عادل وتدير المشاريع". ورغم أنه يقر بوجود "رفض كبير وواسع عند جزء كبير من النخب (السورية) لتدخل الدولة" بسبب الأدوار التي لعبتها مؤسساتها "في القمع"، فإنه يؤكد على أن الدولة في نهاية المطاف "تمثل المصلحة العامة ولا مهرب من هذا لإعادة تعمير البلد اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا".
ومن الناحية الأخرى، هناك مخاوف من أن يهيمن القطاع الخاص على عمليات إعادة التعمير فتسير في اتجاه لا يخدم الصالح العام، بل قد يضر به خاصة في مجالات العدالة الاجتماعية والبيئة وتوزيع الموارد بين المناطق وإهمال المشاريع العامة التي لا يوليها القطاع الخاص أهمية بسبب انخفاض عائداتها.
دون العمل على بناء سياسات اقتصادية واجتماعية ممكنة التحقيق وبشكل مستدام قدر الإمكان بعد التخلص من عبء العقوبات، قد تتلاشى بقايا بهجة الخلاص من نظام الأسد وتنزلق سوريا في منحدر يقود لهاوية من العنف، والقمع.