تصوير خالد منصور، بإذن خاص لـ المنصة
تزاحم السوريين في سوق الحميدية في دمشق تحت لافتة تحتفي بالنصر، ديسمبر 2024

رسالة من سوريا الجديدة

الخروج من كهف الأسد

منشور الأربعاء 15 يناير 2025

توقفتُ عن السفر إلى دمشق للقاء الأهل والأصدقاء منذ اندلاع الاحتجاجات السلمية في 2011، بعدما أخبرني "صديق" أن جهازًا أمنيًا ينظر بتشكك لزياراتي إلى سوريا، بسبب أن مهنتي في جواز السفر صحفي. لذا، شعرت بأني على أعتاب عالم سحري، عندما كان المسلح على الجانب السوري من الحدود يرحِّب بي قائلًا "الصحافة على راسي من فوق".

كانت هذه بداية زيارتي الأولى لسوريا منذ 14 عامًا، بعد أسبوعين فقط من سقوط بشار الأسد، ونظامه القائم على هيمنة أجهزة الأمن. رافق خطواتي الأولى داخل البلاد، وطوال الرحلة، شعور بالخفة والنشوة، على نقيض مشاعر الثقل والركود والخوف التي سادت زياراتي السابقة، حين كانت حواراتي مع الناس تتسم دائمًا بالتورية والكناية وخفض الأصوات، وتحاشي ما لا يمكن الحديث عنه.

لعل الفارق الرئيسي بين من يعيشون تلك الأيام الاستثنائية من داخل سوريا، والناظرين إليها من الخارج، يعود ببساطة للفارق الحسي المادي بين من يعيشون في قلب إعصار جارف يعصف بقديم مكروه، ومن يراقبونه من على شاشات التليفزيون والموبايلات، ويخشون من مآلات عاشوها في بلادهم. في سلسلة المقالات التالية، سأشارككم أفكار ومشاهدات ومشاعر عايشتها في قلب ذلك الإعصار.

النظام الذي اختفى

علم سوريا الجديد فوق مغارة ميلاد المسيح، ساحة باب توما، دمشق، ديسمبر 2024

ما إنْ عبرتُ نقطة المصنع الحدودية بين لبنان وسوريا حتى شعرت بوضوح الغياب. اختفت كل صور الرئيس وتماثيل أبيه المهيمنة على الفضاء العام. لا لافتات هناك ولا لوحات تأييد. طُمِست عديدٌ من الشعارات الفارغة حول الفداء والوحدة والحرية والوطن، وتبخّرت لافتاتها. كأنما انفتح أفق السماء دون تعكير من نظام جعل النفاق والخوف جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية السياسية. نظام مرعب الأنانية طائفي قمعي لا يعبأ بوطن ولا مواطنين.

توجهنا في الليلة نفسها إلى باب شرقي، وهو أحد أحياء دمشق القديمة سُمِّي على اسم أحد أشهر أبوابها السبعة. وقرب نهاية الطريق المستقيم المفضي للحي ذي الأغلبية السكانية المسيحية، وقفت سيارة تابعة لجهاز الأمن العام وحولها مسلحون ملثمون يرتدون زي وشارات إدارة العمليات العسكرية التي يهيمن عليها فصيل هيئة تحرير الشام وقائده أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا).

قال جندي مسلح إن المشاة مُرحب بهم من أجل "الفعاليات" في الداخل. لم يقل إنها احتفالات أعياد الميلاد/الكريسماس، لكنه كان ورفاقه منتشرين في دمشق يسيرون بين الناس ويتدخلون أحيانًا لمنع بعض التجاوزات، ومنها مثلًا غلاظة بعض المسلحين عندما دخلوا أحد البارات.

كانت الموسيقى وصياح المحتفلين وضجيج حواراتهم في المحال والمطاعم وعلى النواصي، حيث يتحلّق البعض، تتسرب من كل مكان عندما فاجأني صوت غريب؛ "زنانة" كما يصف أهل غزة تلك المُسّيرات الصغيرة/الدرونز التي تحمل الكاميرات وأحيانًا القذائف القاتلة، انزعجت وأنا أرفع رأسي وأرى فعلًا مُسيّرة صغيرة تحلق فوقنا. طمأنني شخص مار وهو يضحك ويشير إلى صحفي يقف بقربنا ويوجه كاميرا المسيرة من جهاز في يده لتصوير الاحتفالات.

في الأيام التالية، سأسمع وأرى هذه المُسيرات الصغيرة كثيرًا فوق ساحات دمشق وميادينها، حيث تنتظم التظاهرات والاحتفالات. كما سأزاحم آلاف المتبضعين في سوق الحميدية، وسأذهب إلى الجامع الأموي المكتظ بالزوار، وسأسير مع جحافل البشر في البزورية وسوق البالة، وأجلس وسط مئات الشباب في منتديات نقاش، أو عدد منهم في جلسات صغيرة في النُّوفَرة والروضة، وغيرهما من مقاهي دمشق.

التركة الثقيلة

لا تنتهي الفعاليات في دمشق: وقفة أمام محطة خط الحجاز العثماني للتذكير بالمائة ألف غائب ومختفٍ ومصيرهم المجهول، لقاء للشباب حول مستقبل العمل المدني والسياسي في مقهى الروضة يختلط فيه الغناء بالحديث عن الخوف من الإسلاميين وصولًا للفت الانظار لمآسي الفقراء. كورال موسيقى في قلب أرض المعارض وسط المدينة بمناسبة الكريسماس، حوارات عمّا جرى في أيام الثورة الأولى بعد فتح السجون واقتحام فروع أجهزة الأمن المرعبة وتبعثر قسم من ملفاتها، استقبال عارم شارك فيه آلافٌ من أهل حمص لوالدة مغني الثورة الشهيد عبد الباسط الساروت.

سيلفي للكاتب خالد منصور وفي الخلفية الجامع الأموي، دمشق. ديسمبر 2024

أحاديث طويلة عن مخاوف الأقليات، خصوصًا العلويين الذين تسربل بهم النظام الأسدي، والمسيحيين الخائفين من غياب "علمانية الأسد" ووقوع السلطة تحت سيطرة فصيل إسلامي متشدد، مع رغبة دفينة في الانتقام ممن دمروا الدولة ومن منتسبي الأجهزة الأمنية والبلطجية/الشبيحة المسؤولين عن مجازر عديدة في السنوات القليلة الماضية، بعضها من أثر غازات كيماوية أو قنابل متفجرات تُلقى عشوائيًا من طائرات هليكوبتر النظام.

ضخت فيّ تلك الزيارة قدرًا هائلًا من البهجة والتطلع للمستقبل، مختلطًا بمشاعر القلق حول القادم. يستحيل أن يختبر الواحد هذه الأحاسيس والانطباعات دون أن يكون موجودًا بداخلها عارفًا بما خرج منه السوريون ومدركًا لاختلاف تجربتهم واتساع الخيال لمصيرهم. وهذا الفقر في التجربة والخيال هو ما عاب قدرًا كبيرًا من التعليقات التسفيهية والمستخفة، خاصة من بلدان الثورات المُجهضة مثل مصر وتونس، وهي تعليقات ركزت، أحيانًا عن حق، على المخاوف والقلق من المستقبل، في بلد ما زال فيه وجود أجنبي لروسيا والولايات المتحدة وإسرائيل، ويجلس في قصرها الرئاسي رجل كان يحمل علم القاعدة وداعش حتى سنوات قليلة مضت.

وعلاوة على هذا، استثمر النظام الأسدي وبوقاحة شديدة في ادعاءات بشأن حماية الحريات العامة للنساء والأقليات المسيحية والدرزية (يغفل دومًا الأقلية الكردية التي سامها سوء العذاب)، وكون العلمانية هي الأيديولوجية الحاكمة للبلاد.

هناك مخاوف حقيقية ومبررة لدى النساء تحديدًا، والطوائف الدينية خصوصًا المسيحيين، من تآكل هذه الحريات، بالإضافة إلى الذعر من استهداف العلويين بأعمال انتقامية، بسبب قربهم من السلطة الأسدية الحاكمة التي تسربلت بهم.

شبح القلق الكبير

على الجانب الآخر؛ من الصعب على كل هؤلاء الناجين من المحرقة الأسدية المديدة أن يخلو مكان في قلوبهم وعقولهم لأي قلق عميق أو مخاوف من المستقبل، لقد هيمنت عليهم مشاعر تحرر لم يعتقدوا أبدًا أنها ممكنة. صار الناس يسمون "الإله" الأسد بالجحش في شوارع دمشق، وينادي بائع أمام الجامع الأموي على بضاعته "بشار راحت أيامو، بخمسة بس يامو"، أي "يامَّة" باللهجة السورية.

بالتالي، لا يجب أن يقتصر النظر للتغيّرات الاجتماعية والسياسية المزلزلة على الوقائع المادية والتحليلات الموضوعية فحسب، فالمشاعر الدافقة والأحاسيس الاستثنائية في خضم لحظات التحولات الدرامية يمكن أن يكون لها تأثير على مجريات الأحداث.

في المقالات القادمة، سأمزج ما شعرت به وما تحدثت عنه مع البشر في شوارع دمشق، مع هذا النوع من التحليلات، سعيًا لفهم متكامل قدر الإمكان لهذا الزلزال الذي سيؤثر على هذه المنطقة وما بعدها لسنوات طويلة قادمة.

وسأتطرق أيضًا لتحولات الفصائل الإسلامية، ومخاوف العلمانيين، وقلق المسيحيين والعلويين وطوائف أخرى، متناولًا الوضع الاقتصادي وتأثير العقوبات الدولية، وأدوار تركيا والإمارات والعراق وإيران وإسرائيل والسعودية، والعملية السياسية الوليدة، في محاولة لاستشراف مستقبل سوريا؛ سوريا التي تخلصت من الأسد وبدأت تخطو نحو مستقبل غائم مفتوح على احتمالات عديدة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.