سنحتاج إلى بعض الوقت بالتأكيد، يقصر أو يطول، حتى نستطيع أن نفهم ونستوعب ما حدث في سوريا خلال الأيام العشرة التي انتهت بالإطاحة بأسرة الأسد من الحكم الذي امتد منذ انقلاب الرئيس الأسبق حافظ الأسد ثم استيلائه على السلطة قبل 53 عامًا.
تداع سريع ومذهل لجيش النظام السوري، بعد أن قرر داعموه الرئيسيون في إيران وروسيا فجأة التخلي عنه، أدى إلى استيلاء مجموعات مسلحة تنتمي أغلبيتها لجماعات إرهابية مدعومة من تركيا وبعضها نسخ جديدة للقاعدة وداعش، على كل المدن الرئيسية في أيام قليلة، في وقت تشتعل فيه المنطقة بالفعل بحروب إبادة إسرائيلية شرسة في فلسطين ولبنان، كل هذه التطورات من المؤكد أنها لم تكن مصادفة أو نتيجة لتفوق عسكري مفاجئ للفصائل المسلحة.
ولذلك سنحتاج إلى الوقت لنفهم ما حدث، والأهم تبعاته، وإن بدت المؤشرات حتى الآن مخيفة من ناحية الانهيار العملي للدولة السورية وتحولها إلى دولة مستباحة من قبل جيرانها دون سلطة أو جيش يستطيع الدفاع عن حدودها. بالإضافة إلى المخاوف الحقيقية على مستقبل الطوائف والأعراق والأقليات المتعددة في سوريا بعد الإطاحة بنظام عائلة الأسد، التي تنتمي بدورها إلى إحداها، حتى وإن اكتسى حكمه بخطاب القومية العربية.
لم يسقط اليوم
كانت إسرائيل بالطبع أول دولة تستفيد من هذا الانهيار، واستولت سريعًا على أراضٍ سورية ملاصقة لحدود الجولان المحتل، بزعم أن انسحاب الجيش السوري من مواقعه معناه انهيار اتفاق فض الاشتباك لعام 1974. كما شنَّ الطيران الإسرائيلي مئات الغارات منذ هروب الأسد إلى موسكو مستهدفًا منشآت عسكرية وصناعية بزعم استخدامها في إنتاج أسلحة كيماوية تخشى سقوطها في يد المجموعات الإسلامية المسلحة المتشددة التي وصلت بسرعة البرق إلى قلب العاصمة دمشق وسيطرت على القصر الرئاسي وكافة مؤسسات الحكم ومقرات أجهزة الأمن والمخابرات، وأفرجت عن آلاف السجناء.
بالنسبة لي، لم يسقط نظام حكم عائلة الأسد في وقت مبكر من صباح الأحد 8 ديسمبر 2024، ولكنه سقط عمليًا وفقد شرعيته منذ أن قرر، كما كان يفعل دائمًا، أن بقاءه في الحكم أهم من حماية أرواح شعبه، وبرر قتلهم وقصفهم بالطائرات والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والدبابات لقمع ثورتهم الشعبية منذ 2011، بزعم أنه يواجه مؤامرة خارجية تستهدف الدولة السورية.
كما انتهت وحدة وسيادة سوريا التي نعرفها منذ إعلانها دولة مستقلة بعد استقلالها عن فرنسا عام 1946، وفق الحدود التي رسمها ممثلو الاستعمار الفرنسي والبريطاني بعد أن تقسمت عمليًا أراضي هذه الدولة إلى مناطق نفوذ، وتواجدت بها قوات تابعة للنظام وأخرى إيرانية وروسية تقدم له الدعم والمساندة بجانب ميليشيات ومجموعات مسلحة شيعية مثل حزب الله وجماعات مسلحة أخرى عراقية وأفغانية.
وفي الوقت نفسه، اقتطعت تركيا جزءًا من أراضي سوريا، واستولت قوات كردية سورية على جزء آخر وسمحت فيه بوجود قوات أمريكية وفرنسية وبريطانية. ولا أعرف ما هي الدولة المستقلة التي تتساهل مع وجود هذا الكم من القوات الأجنبية على أراضيها. كما لا يستبعد الكثير من المراقبين أن يكون الثعلب الداهية رجب طيب إردوغان هو المحرك الرئيسي وراء كل التطورات المتسارعة في سوريا، مستغلًا انشغال العالم بحروب غزة ولبنان.
وكما هو الحال في دولنا العربية، فإن الخطاب الرسمي البعثي العربي الاشتراكي للنظام السوري السابق شيء، وما يحدث على أرض الواقع كان شيئًا آخر مغايرًا تمامًا. كما أن سيطرة عائلة الأسد وأبناء الطائفة العلوية على مفاصل الجيش والأجهزة الأمنية لضمان إخلاص هذه المؤسسات للنظام زادت من حجم كراهية الأغلبية من السوريين السنة لهم، ودعمهم لجماعة الإخوان المسلمين التي تعامل معها النظام بكل قسوة ودموية في مذبحة حماة مطلع الثمانينيات.
وبينما كان الكثير من القوميين العرب يخادعون أنفسهم بالحديث عن أهمية الحفاظ على "وحدة" الدولة السورية، التي غابت بفعل الاعتماد الكلي على الدعم العسكري الروسي والإيراني والسماح لموسكو بإقامة قواعد عسكرية دائمة على أراضيها، وأهمية استمرار نظام الأسد ترديدًا لخطاب التمسك بالمقاومة ومواجهة العدو الصهيوني حتى لو لم يقم بأي فعل حقيقي في هذا الصدد.
إلا أن الغالبية من السنة في سوريا ولبنان لم يروا في نظام بشار الأسد وداعميه من طهران وحزب الله سوى البعد الطائفي. ولذلك لم يتحمسوا كثيرًا لدعم حزب الله في حرب مساندة حركة حماس في قطاع غزة، وكلاهما محسوب على محور المقاومة المدعوم من إيران.
دروس القمع ومخاوف الطائفية
هذا التراث الطويل من الكراهية يزيد المخاوف ويثير الأسئلة حول مستقبل سوريا، وإذا ما كان قائد الجماعات المسلحة التي قادت القوات المعادية للأسد نحو دمشق، أبو محمد الجولاني، المعروف الآن بأحمد الشرع بعد التعديل، والمصنف إرهابيًا لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة لعضويته في تنظيمي القاعدة وداعش، صادق بالفعل في حديثه عن مراجعة أفكاره وتخليه عن تطبيق نموذج داعش في سوريا، الذي يسبي أبناء الأقليات غير السنية ويستحل دماء غير المسلمين.
احتكار العمل السياسي وخنق الحريات وإنهاء تداول السلطة تسبب انهيار الدول بعد رحيل الديكتاتور
قرار الجولاني بالتوجه إلى المسجد الأموي في دمشق، الرمز السني البارز في مواجهة الكراهية العميقة التي يحظى بها لدى الشيعة، من أجل إلقاء خطاب النصر يوم إعلان هروب الأسد وسقوطه وسط تكبيرات وتهليلات مؤيديه، كان مؤشرًا مثيرًا لقلق الأقلية الشيعية السورية، والعلويين على وجه الخصوص، والذين كانوا يحجون بصحبة رفاقهم الإيرانيين إلى مسجد السيدة زينب، جنوب العاصمة نفسها.
وحتى وقت كتابة المقال، لم يتبين إذا ما كانت ستبدأ تصفية الحسابات مع أبناء الأقلية العلوية في الساحل السوري، خصوصًا محافظة اللاذقية التي تنتمي لها أسرة الأسد، وكذلك لم يكشف أحد عن مصير المسيحيين السوريين، وهم أقلية مؤثرة لا يستهان بها.
وإذا كان لنا أن نتعلم من دروس ثورات الربيع العربي وما جرى بعدها منذ 2011، فإن الإطاحة بالديكتاتور الرمز فقط لم تكن أبدًا كافية لبناء نظام ديمقراطي بديل، بل إن الممارسات الديكتاتورية على مدى عقود من الزمن، كما كان الحال في عراق صدام حسين أو ليبيا معمر القذافي ويمن علي عبد الله صالح، وعلى رأسها احتكار العمل السياسي وخنق الحريات وإنهاء تداول السلطة، كانت الأسباب الرئيسية وراء انهيار تلك الدول فور رحيل الديكتاتور.
ففي العراق كان خطاب البعث العروبي خدعةً للتغطية على احتكار الأقلية السنية في العراق، وتحديدًا أسرة الرئيس القادمة من تكريت، الحكم والثروة وقمع قادة الأغلبية الشيعية ومنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية. فما إن سقط صدام، حتى انهار العراق، وانطلقت موجات دموية من القتل الطائفي امتدت لسنوات، وتقسم العراق عمليًا إلى جنوب شيعي ووسط سني وشمال كردي يخضع للحكم الذاتي.
ولم يكن الحال أفضل في ليبيا، والتي فور انهيار حكم القذافي انقسمت ثلاثة أجزاء، وتبين أن الخطاب الوحدوي الرسمي للنظام الليبي مجرد غطاء على احتكاره وأسرته وقبيلته وأبناء مدينته للحكم والثروة الضخمة في ليبيا الثرية بالنفط. برر النظام القمع والديكتاتورية، المخلوطين بنكهة الجنون التي ميزت القذافي، بأنه الطريقة الوحيدة لحكم الدولة متعددة القبائل والتي لم تنضج فيها بعد ثقافة الديمقراطية وتداول السلطة.
عمليًا سوريا كانت مقسمة ومستباحة منذ أن تحول بشار الأسد إلى مجرم حرب يستعين بقوات أجنبية ليستمر في الحكم. لا يمكن إنكار وجود قدر من الاستقرار في نحو ثلثي أراضي سوريا التي كانت خاضعة للنظام السابق، ولكنه كان مخادعًا مبنيًا على القمع من قبل أجهزة أمنية شرسة ودموية منذ نشأتها، وأصبح الجيش السوري أقرب إلى ميليشيا طائفية كسولة تعتمد على الدعم الروسي والإيراني أكثر من كونه جيشًا وطنيًا.
والسؤال الآن، هل الإطاحة بنظام عائلة الأسد مقدمة لانضمام سوريا إلى قائمة الدول المفككة المنهارة كما هو حال العديد من دول المنطقة الآن، أم أن القوى الرئيسية الفاعلة هناك ستتمكن من التوافق على مستقبل مشترك؟ للأسف، مع ما خلقه النظام السابق من انقسامات وكراهية دفينة نتيجة الحكم القمعي، وقياسًا على التجارب الشبيهة في الدول المجاورة، ليست هناك مؤشرات كثيرة للتفاؤل، وإن كنت أتمنى أن أكون مخطئًا.