بلحية مهذبة، وقميص زيلينسكي، واسم مدني، تصدر أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، المشهد السوري منذ بدء عملية رد العدوان التي أطلقتها فصائل المعارضة المسلحة ضمن تحالف غرفة العمليات المشتركة، التي أنهت حكم عائلة الأسد وسيطرت على العاصمة دمشق.
الهيئة والاسم الجديدان اللذان ظهر بهما أحمد الشرع منحيًا كنيته الجهادية، والخطاب الجديد الذي جاء خاليًا تمامًا من المصطلحات الدينية لحساب مفردات السياسة، بدت وكأنها محاولة من محركي المشهد في سوريا لإعادة تسويق الجولاني ذي الانتماءات الجهادية.
من هو الجولاني؟
ينتمي الجولاني الذي ولد عام 1982 لأسرة متوسطة ربُّها والده حسين الشرع، الخبير الاقتصادي المتخصص في النفط، ذو الميول اليسارية. لا نعرف الكثير عن حياة أحمد الذي قضى طفولته في محافظة دير الزور الحدودية مع العراق حيث عمل أبوه موظفًا، قبل أن يعود مع أسرته إلى إدلب في مراهقته ويلتحق بكلية الطب.
وعلى وقع الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، سافر الشاب العشريني أحمد إلى الموصل للقتال ضد المحتل، لينضم إلى تنظيم القاعدة تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي. وهناك اختار لنفسه كنية "الجولاني" حيث تعود أصول عائلته إلى الجولان المحتل، قبل أن تنزح إلى دمشق عقب نكسة عام 1967.
بدأ الجولاني عمله المسلح بانضمامه إلى تنظيم القاعدة في العراق عام 2003، وتنقل بين التنظيمات الجهادية في العراق وسوريا، ومر بمراحل وتحولات عدة بين التماهي مع بعضها والانقلاب على البعض الآخر، وصل حد الصدام المسلح في بعض الأوقات كما حدث بين جبهة النصرة وتنظيم داعش.
لم يكن للجولاني نشاط واضح قبل انخراطه في العمل المسلح، ولم يصرح بأسباب انضمامه للجماعات الجهادية، لتبقى التحليلات قائمة بين تأثره باحتلال العراق، وتأثره بخطاب أحد الدعاة السوريين يدعى أبو القعقاع.
بايع الجولاني القاعدة في 2013 وخصصت أمريكا مكافأة 10 ملايين دولار مقابل تحديد مكانه
ألقت القوات الأمريكية القبض على الجولاني، وأودعته سجن أبو غريب وتنقل بعدها بين عدد من السجون من بينها سجن بوكا، قبل أن يودع سجنًا تُشرف عليه السلطات العراقية، ثم أطلق سراحه عام 2008، ليعاود نشاطه لكن هذه المرة ضمن صفوف الدولة الإسلامية في العراق بقيادة أبو بكر البغدادي، ليكسب ثقته ويعينه مسؤولًا عن أنشطة التنظيم في الموصل شمال العراق.
بعد اندلاع الثورة السورية، أجرى الجولاني تفاهمات مع البغدادي، واتفقا على أن يتولى فرع التنظيم في سوريا، وفي يناير/كانون الثاني 2012 أعلن الجولاني تشكيل جبهة النصرة لأهل الشام، داعيًا السوريين إلى "الجهاد لإسقاط النظام".
ظلّت الجبهة تتبع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، حتى قرر البغدادي في عام 2013 دمج التنظيمين في كيان جديد أطلق عليه "الدولة الإسلامية في العراق والشام" الذي سيعرف لاحقًا باسم "داعش"، إلا أن الجولاني رفض، وأعلن بعد أيام مبايعة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري آنذاك.
وفي يوليو/تموز 2016، أعلن الجولاني فك ارتباط تنظيمه بالقاعدة، وتغيير اسمه إلى جبهة فتح الشام، قبل تغيير الاسم مجددًا في عام 2017 إلى هيئة تحرير الشام، في محاولة للاندماج مع بعض الفصائل المسلحة الأخرى.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فخصصت في عام 2017، 10 ملايين دولار لمن يدل بمعلومات تكشف عن مكانه، بعدما صنفته في 2013 إرهابيًا عالميًا.
من يعيد تسويق الجولاني؟
تخدم تحركات الفصائل التي يتصدرها الجولاني أهداف كل طرف من الأطراف الدولية والإقليمية التي تتدخل في توجيه الوضع بسوريا سواء التي تدعم بالمال والسلاح، أو تلك التي تدعم بغض الطرف عن العملية العسكرية، أو الفصائل المعارضة المسلحة التي تلاقت مآربها للتخلص من الديكتاتور الأسد، مع أغراض الأطراف الأخرى.
الفرصة مواتية لإسرائيل وأمريكا لاستكمال مخطط حصار محور المقاومة
في حين سعت تركيا لإنهاء حقبة الأسد الابن لتأمين مصالحها بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بعدما بات ملفهم يؤرق أنقرة سياسيًا واقتصاديًا، وإيجاد ظهير سوري يدفع عنها عناء مواجهة الأكراد، تلتقي رغبات أنقرة في الإطاحة بالأسد في هذه اللحظة مع أطراف أخرى.
تجد واشنطن وإسرائيل الفرصة مواتية لقطع خط الإمداد بين إيران وحزب الله من جهة، وكشف ظهر الجماعات العراقية الموالية لطهران، ليكتمل مسلسل حصار محور المقاومة وتضييق الخناق على كافة أوجه الدعم الموجهة لحماس في غزة.
فلا يمكن الفصل بين ما يجري في سوريا، وما سبقه من تحولات استراتيجية في تعامل إسرائيل مع خصومها، ومخططات القضاء على محور الممانعة بمسلسل الاغتيالات الذي طال قيادات حزب الله وحماس، بعدما تبنت إسرائيل استراتيجية القضاء على التهديد بدلًا من التعايش معه.
تُسوق أنقرة الجولاني وتُعيد تقديمه للأمريكان في شكل المعارضة الإسلامية المعتدلة، فتركيا الراعي الرئيسي لتحركات المعارضة المسلحة الأخيرة، وهو ما يتضح في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي أشاد بالمعارضة السورية وأكد أن الهدف الوصول لدمشق.
كيف تحول الجولاني؟
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة منذ الظهور الجديد للجولاني، هل هذا التحول حقيقي بالفعل في إطار نظريات التطور المرتبطة بالخبرات المكتسبة من التجارب العملية التي مر بها، أم مجرد مناورة ومجرد وسيلة تُبرر الغاية الأكبر للتنظيمات الجهادية، لإقامة الدولة الإسلامية التي رفع رايتها منذ انخراطه في العمل الجهادي المسلح؟
تخلى الجولاني عن الغترة ودافع في خطابه عن حقوق الأقليات
يتحدث الجولاني في حوار لشبكة سي إن إن عن التحولات التي مر بها منذ كان قياديًا في تنظيم القاعدة، مرورًا بعلاقته بتنظيم داعش، وتأسيس جبهة النصرة وتحويلها بعد ذلك لهيئة تحرير الشام.
"أي فرد يمر بمراحل تحول في حياته والتجربة كفيلة بأن تزيد من الوعي الذي يملكه، فأي إنسان يكون في سن العشرين غير أن ما يكون في الثلاثين أو في سن الأربعين وسن الخمسين"، يقول الجولاني للمحاورة التي ترتدي غطاءً يحجب نصف شعرها.
خلال الحوار الذي جاء بعد ساعات قليلة من سيطرة قوات المعارضة المسلحة على حلب، ظهر أحمد الشرع كقيادي لغرفة العمليات المشتركة، وليس مجرد قائد لهيئة تحرير الشام، وبدا الرجل أكثر ميلًا لاستخدام المصطلحات السياسية.
لم يقتصر الأمر على المصطلحات فقط، بل امتد إلى خطاب أظهره أكثر تسامحًا وقبولًا للآخر، إذ بدا واضحًا خضوعه لتدريب مكثف، فتطورت لغة الجسد لتناسب الخطاب الجديد. عند سؤاله عن مصير الأقليات، انطلق في الحديث دون إشارة واحدة لموقف الإسلام من الآخرين "لا يستطيع أحد أن يلغي الآخر"، متابعًا "هذه الطوائف عاشت لمئات السنين في هذا البلد وهناك قانون سيحتكم له الجميع".
استخدم الجولاني مصطلحات أبيه عند سؤاله عن شكل سوريا الجديدة التي يطمح لها، إذ لم يبتعد كثيرًا عن أفكاره التي صاغها في كتاب قراءة في القيامة السورية، واعتبر أن "الانتقال السياسي، يكون ببناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية على أساس المواطنة بلا تمييز في العرق أو الدين أو المذهب، عبر وضع دستور جديد للبلاد يضمن استقلالها، والسيادة المطلقة للشعب، واحترام الحريات والرأي الآخر".
شتان الفارق بين الشرع اليوم، والجولاني الذي ظهر على قناة الجزيرة عام 2015 في حوار مع الإعلامي أحمد منصور. ففي ظهوره الأول، كان الجولاني طوال الحوار بظهره، واضعًا فوق رأسه "غترة" سوداء اللون، بينما استقر علم الخلافة الأسود الذي يحمل الشهادتين، على منضدة صغيرة أمامه، وتم تعريفه بـ"أمير جبهة النصرة".
حوار أبو محمد الجولاني مع الإعلامي أحمد منصور، قناة الجزيرة، 2015خلال حديثه في الجزيرة وقتها دعم كل منطلقاته الحركية بنصوص من القرآن والسنة النبوية وسيرة الصحابة، في المقابل ظهر خلال حواره الأخير بـ"نيولوك"؛ خلع العمامة، وارتدى قميصًا مشابهًا تمامًا من حيث اللون والشكل لذلك الذي اعتاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، المدعوم أمريكيًا، الظهور به منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
تتعدد التشابهات بين الشرع وزيلينسكي من حيث المظهر والزي والذقن الخفيفة، كما وضعتهما السياسة والمتغيرات الدولية في مواجهة روسيا، فالأخير يواجه حربها على أوكرانيا، بينما واجه زعيم تحالف الفصائل السورية موسكو طوال فترات دعمها ومساندتها حكم الأسد منذ اندلاع الثورة السورية.
تعديل الخطاب وتغيير الشكل تقف وراءه الأجهزة التركية مع تفاهمات أمريكية، انعكست خلال ظهوره الأول عبر الشبكة الأمريكية الأشهر، ضمن مخطط الترويج لجولاني جديد في لحظة تشكل سوريا الجديدة.
تغيير الجولاني ربما يكون مناورة، وإعادة تسويق برعاية جهات وأطراف طالما تدخلت في المشهد السوري منذ 2011 حتى الآن، لكن ستكشف الأيام المقبلة مدى قبول المجتمع الدولي للجولاني الجديد، وما يسفر عنه "نيولوك" أحمد الشرع في إدارة سوريا خلال المرحلة المقبلة، وحدود دوره مع المصير المجهول الذي ينتظر سوريا.