حساب إدارة العمليات العسكرية السورية على إكس
اجتماع قادة الفصائل الثورية مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، 24 ديسمبر 2024

ماذا ينتفع الشرع لو ربح العالم كله وخسر بلده

منشور الثلاثاء 11 مارس 2025

كشفت الأحداث المرعبة التي شهدتها سوريا في الأيام الأخيرة عن زيفِ كل الادعاءات والبيانات الرسمية التي يردد فيها القائمون على سلطة الأمر الواقع في دمشق بقيادة الرئيس المُعدَّل أحمد الشرع، رغبتهم في بناء دولة تشمل جميع السوريين. إذ انتهت المواجهات بمقتل مئات المدنيين العلويين بيد ميليشيات وقوات موالية للنظام لا يمكن وصفها سوى بالهمجية والإرهابية.

فمنذ بداية الانهيار السريع والمريب لنظام بشار الأسد على يد هيئة تحرير الشام التي يتزعمها الشرع، كانت هناك تساؤلات وشكوك حقيقية حول قدرة تلك الميليشيات القادمة من محافظة إدلب والمدعومة بشكل كامل من الجارة تركيا على إدارة شؤون الدولة ووراثة حكم أسرة الأسد العتيد الذي امتد أكثر من 50 عامًا.

لا يمكن إنكار أن قطاعًا واسعًا من الشعب السوري رحب بالتخلص من حكم نظام الأسد مهما كانت العواقب بعد سنوات دموية من حرب أهلية حوَّلت السوريين إلى لاجئين ونازحين، ودمرت مدنهم وحياتهم، واستخدم خلالها النظام المنهار أبشع أساليب القتل بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية والبراميل العمياء المتفجرة.

لكن سجلّ الشرع المعروف بكنيته السابقة أبو محمد الجولاني، كقيادي سابق في تنظيمات القاعدة وداعش، وسجنه لسنوات على يد قوات الاحتلال الأمريكي للعراق، كلها أمور كانت ستجعل من المستحيل تصور قبوله واجهةً جديدةً للدولة السورية.

إرهاب ميليشياوي

لا يمكن إنكار أن قطاعًا واسعًا من الشعب السوري رحب بالتخلص من حكم نظام الأسد

لا يمكن وصف القوات الموالية للشرع بأي حال بأنها قوات نظامية بل هي ميليشيات اعتمدت لسنوات أسلوب حرب العصابات في مواجهة النظام السوري المنهار، وتضم مقاتلين يتبنون الأفكار المتشددة والإرهابية التي تبرر قتل كل من يعارضونهم على أسس دينية وتعتبرهم الأمم المتحدة والولايات المتحدة أعضاء في منظمات إرهابية وتفرض عليهم العقوبات.

ومن بين مئات الفيديوهات التي لا تبثها قناة الجزيرة لكنها متداولة على نطاق واسع، للمجازر التي ارتكبت في حق المدنيين السوريين لدرجة إبادة أسر بأكملها بمن فيها من نساء وأطفال، وصور لإذلال من يتم إلقاء القبض عليهم وإجبارهم على الزحف أرضًا بينما يقومون بالعواء كما الكلاب، لفت انتباهي فيديو لشخص يفترض أنه مقاتل متشدد جزائري يقاتل في سوريا ويعرب عن رأيه الصريح، الذي يمثل غالبًا فكر الغالبية من تياره بشأن ما ترفعه حكومة الشرع الحالية من شعارات رسمية تفيد بأن الجميع الآن "إخوة في الوطن".

قال الأخ المجاهد المجهول لا فض فوه "ما فيه إخوة في الوطن. المسألة مسألة عقيدة ولاء وبراء. ما في إخوة في الوطن. والله ما دمتم أيها النصارى ترفعون الصليب في دمشق ويا أيها النصيرية (العلويين) والأقليات تقومون بنشر الفوضى في سوريا، والله لن نترككم وسنجاهد فيكم بإذن الله عز وجل".

ومن المعروف أنه بجانب المقاتلين السوريين، فإن الميليشيات الداعمة للنظام الجديد في سوريا تضم المئات إن لم يكن الآلاف من المقاتلين الأجانب الذين أقبلوا من كل دول العالم تقريبًا، وضمنها مصر، للمعركة ضد نظام يصمونه بالكفر ومعاداة الإسلام. وبالتالي ليس من قبيل المبالغة اعتبار سوريا اليوم ملاذًا آمنًا للمجموعات الإسلامية المتشددة المسلحة الإرهابية برعاية رسمية من الدولة، التي منحت قادتهم الجنسية السورية ومناصب عسكرية في مشروع إنشاء جيش نظامي جديد، بعد 13 سنة استعان خلالها الأسد الذي تنتمي أسرته للطائفة العلوية بميليشيات مسلحة شيعية لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية.

البديل الوحيد

لكن القوى الدولية، على رأسها الولايات المتحدة والأوروبيون وكذلك الدول العربية الرئيسية، التي لم يحمل معظمها الكثير من الود للنظام السوري السابق وكانت تتمنى سقوطه لأسباب متعددة، قررت تجاوز كل تلك التحفظات بشأن انتماءات وتوجهات حكام دمشق الجدد، وقبلت التعامل مع الوضع القائم الجديد على اعتبار أنه البديل الوحيد المتاح على أرض الواقع.

في هذا السياق، رأينا تدفق المسؤولين الأجانب إلى دمشق منذ سقوط الأسد، كما توجه الاتحاد الأوروبي نحو رفع بعض العقوبات المفروضة على سوريا منذ زمن النظام السابق، ومؤخرًا استقبال الشرع رسميًا كرئيس دولة في القمة العربية الذي استضافتها القاهرة حيث عقد لقاءات مع عدد من الرؤساء العرب، بمن فيهم الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وفي مقابلة صحفية أجراها وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بعد أيام قليلة من توليه منصبه في يناير/كانون الثاني الماضي، عَكَس التوجه الدولي العام نحو النظام الجديد في دمشق بالقول "في سوريا، تولَّت مجموعة جديدة الحكم. بالطبع هم ليسوا رجالًا من النوع الذي سيتمكن بالضرورة من اجتياز اختبارات وكالة التحقيقات الفيدرالية (FBI) ولكن لو كانت هناك فرصة في سوريا لخلق مكان أكثر استقرارًا من ذلك الذي عهدناه تاريخيًا في ظل حكم الأسد، عندما كانت تهيمن إيران وروسيا وتتصرف داعش بحرية، فإننا بحاجة لمتابعة هذه الفرصة ورؤية إلى أين ستقودنا".

جاء ذلك بعد أن ألغت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن جائزة بقيمة عشرة ملايين دولار أعلنت عنها الخارجية الأمريكية في وقت سابق، مقابل توفير معلومات تؤدي للقبض على الشرع عندما كان يعرفه العالم باسم الجولاني فقط، وقت انتمائه لتنظيم القاعدة.

منذ دخول قوات جبهة تحرير الشام والميليشيات الموالية لها إلى دمشق، وهناك مخاوف حقيقية من اندلاع حرب طائفية تبدأ أولًا باستهداف أبناء العلويين أولًا انتقامًا من النظام السابق، ثم تمتد لاحقًا لتشمل التركيبة المعقدة من الطوائف والأعراق المتعددة التي تعيش في سوريا، بما في ذلك المسيحيون والدروز والأكراد.

وساهم إسراع أنصار الشرع في تنصيبه رئيسًا للجمهورية بشكل منفرد، وإطلاق حوار وطني صوري امتد يومًا واحدًا فقط والإعلان عن عدم إجراء انتخابات وإقرار دستور قبل أربع سنوات، في ترسيخ مخاوف مكونات المجتمع السوري وأقلياته بشأن المستقبل.

وفي الرواية الرسمية المتداعية للنظام الحالي، فإن القوات الرسمية التابعة له والمسماة بـ"إدارة العمليات العسكرية"، لم تشارك في المذابح الطائفية التي شهدتها عدة مدن سوريا في اللاذقية وجبلة وطرطوس وبانياس، وتلقي باللوم على مجموعات مسلحة منفلتة تصرفت من دون أوامر مركزية، وهو ما تكذبه عشرات الفيديوهات المنتشرة على نطاق واسع على السوشيال ميديا لنفس القنابل الغبية وهي تسقط من طائرات على مناطق في ريف اللاذقية، وكذلك تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يقدر أن أعداد القتلى من العلويين تجاوزت الألف، مع استمرار انتشال الجثث الملقاة في الشوارع.

الحقيقة المرَّة التي لن ينفع نظام الأمر الواقع في سوريا إنكارها هي أنه لا يملك عمليًا مشروعًا لبناء دولة سورية تتسع لكل مواطنيها، بل يُهيمن عليه توجه فكري ديني متشدد لا يمكن أن يسمح ببناء تلك الدولة. وبينما قد تكون هناك رغبة دولية لدعم أي نظام قادر على إدارة الدولة السورية لمنع المزيد من الاضطرابات أو موجات هجرة ونزوح جديدة من سوريا في وقت تتصاعد فيه التوجهات الدولية المعادية للمهاجرين في دول أوروبا والولايات المتحدة، فإن الدعم الدولي بمفرده لن ينقذ النظام الحالي وهو يفتح الباب بممارساته الطائفية لعودة من يسمونهم الآن بـ"فلول" النظام الدموي الديكتاتوري السابق لإثارة الاضطرابات.

من يشاهد صور القوات التابعة للنظام الجديد في دمشق، وأغلبها ملثمون ملتحون ينتقلون على متن سيارات نصف نقل ودفع رباعي حاملين مدافع رشاشة، سيدرك بسهولة أن الدولة السورية، أو ما تبقى منها بعد 14 عامًا من الحرب الأهلية، انهارت تمامًا، وأن الطريق ما زالت طويلة لتكون هناك فرصة لإعادة بناء مؤسسات تلك الدولة، بما في ذلك جيش نظامي ملتزم لا يعمل وفقًا لعقلية الميليشيات وحرب العصابات.

وفي ظل الظروف الإقليمية والدولية المعقدة القائمة حاليًا، فقد ينتهي الأمر بالتعامل مع سوريا باعتبارها دولةً فاشلةً، والسعي لاحتواء ما قد يجري فيها من اقتتال داخلي قد يمتد لسنوات تمامًا، كما هو الحال في ليبيا والسودان واليمن، مع تمدد كبير لنفوذ كل من تركيا وإسرائيل.  

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.