على عكس موقف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن المنصرفة، وعدد من الحكومات في أوروبا مثل فرنسا وبريطانيا، الذي يدعم وجود أي حكومة متماسكة في سورية في أعقاب سقوط نظام الأسد لمنع انزلاق البلد في حرب أهلية دموية، تبنت الحكومة الإسرائيلية موقفًا أكثر تشددًا إذ أعلنت أنها لا يمكن أن تتناسى أو تتجاهل تاريخ قادة المجموعات المسلحة التي سيطرت على دمشق، وانتماءها لجماعات إرهابية مثل القاعدة وداعش، وتَذَرَّعت بهذا الأمر لاحتلال المزيد من الأراضي السورية بدعوى التخلص من الأسلحة الثقيلة التي كان يمتلكها جيش النظام المخلوع خشية أن تقع في أيدي الجماعات المسلحة.
منذ دخول قائد "هيئة تحرير الشام"، أحمد الشرع حاليًا، أبو محمد الجولاني سابقًا، دمشق دخول الفاتحين وسط تكبير الأنصار في 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، يركز الإعلام الأمريكي والغربي على التحول الذي أصاب أفكار القيادي السابق البارز في تنظيمي القاعدة وداعش، الذي سجنته الولايات المتحدة ست سنوات خلال فترة احتلالها العراق، لتصبح أكثر اعتدالًا، معتبرين استمراره في التمسك بهذا النهج، سيؤدي إلى رفع اسم "هيئة تحرير الشام" من قائمة المنظمات الإرهابية وما يلي الخطوة المحتملة من اعتراف بشرعية النظام الجديد.
جزرة أمريكا
تبني أفكار ونهج أكثر اعتدالًا أكده الشرع خلال المقابلات العديدة التي أجراها مع وسائل الإعلام المختلفة منذ التعامل معه على أنه رئيس سوريا بحكم الأمر الواقع، إذ نفى أن تكون لديه أي نوايا للانتقام من الأقليات والطوائف المتعددة في بلاده، بما في ذلك الأقلية العلوية التي تنتمي لها أسرة الأسد وكبار قادة الجيش الذي يعتبر منحلًا من الناحية العملية حتى لو لم يصدر بذلك قرار رسمي، مخالفًا بذلك الفكر المتطرف لتنظيم الدولة الذي أحل لنفسه سبي النساء من غير المسلمات أثناء استيلائه على مدينة الموصل في العراق والرقة في سوريا.
وتأكيدًا للرغبة الأمريكية في منح أبو محمد الجولاني، الذي قرر أن يعيد الحياة لاسمه الأصلي "أحمد الشرع"، فرصة لإثبات حسن نواياه، زارت نائبة وزير الخارجية الأمريكي المسؤولة عن الشرق الأوسط، باربارا ليف، دمشق الجمعة 20 ديسمبر، وأخطرته بإلغاء وزارة العدل الأمريكية قرارها السابق الذي أصدرته في 2017 بتقديم جائزة قيمتها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه.
إسرائيل لن تسمح لمجموعات جهادية أن تملأ الفراغ
فيما ظل قرار رفع اسم هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية الجزرة المعلقة لتحفيز حكام دمشق الجدد على تبني نهج معتدل والسعي لتشكيل حكومة سورية موسعة، ثم التوصل إلى دستور يضمن حقوق مختلف أديان وطوائف وأعراق المجتمع السوري.
ينتمي كلام السيدة ليف وإدارة بايدن إلى فئة الـ"مدهون بزبدة" كما يقول المثل المصري الشائع، قد يتغير أو يذوب تمامًا بمجرد تولي الرئيس الاستعراضي دونالد ترامب مهام منصبه في العشرين من شهر يناير/كانون الثاني المقبل، حاملًا شعارات "أمريكا أولًا" و"عدت لأنتقم". فعلى الرغم من أن ترامب لم يتول منصبه رسميًا بعد، ولا يزال جو بايدن، المختفي تقريبًا، هو الرئيس، إلا أن الرئيس الأمريكي السابق هو من يدير البلاد عمليًا ويتخذ القرارات منذ إعلانه فائزًا في الانتخابات الأخيرة أمام المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ومن هذا المنطلق، عبّر ترامب، فور الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، عن عدم اهتمامه بالملف السوري من الأساس، فلا توجد مصلحة لبلاده كي تتدخل، مفضلًا ترك الأمور لتأخذ مجراها هناك. مشيرًا إلى قناعته بأن تركيا أصبح لها اليد الطولى حاليًا في سوريا، لذا سيسعى للتواصل مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي أبدى إعجابه به، للتعرف على نواياه بعد أن يعود للبيت الأبيض.
وسط انشغاله بقائمة طويلة من الاهتمامات، سواء على الصعيد الداخلي، التي تشمل الانتقام من كل الديمقراطيين الذين سعوا لمحاكمته ومنعه من الترشح في انتخابات 2024، والبدء في ترحيل أعداد غير مسبوقة من المهاجرين غير الشرعيين، أو على الصعيد الخارجي، بما في ذلك حرب أوكرانيا والمنافسة مع الصين، يقلل ترامب من أهمية الملف السوري، وهو ما ينذر بخطر كبير، فهو لن يمانع في انقسام وتفكك البلد إلى دويلات صغيرة طالما بقي ذلك تحت السيطرة التركية والإسرائيلية.
انتهاكات إسرائيل
على الجانب الآخر تحرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الفور عاملًا بمبدأ "أفعال لا أقوال" فسارع إلى احتلال المنطقة العازلة بين الجولان المحتلة وبقية الأراضي السورية والمنصوص عليها في اتفاق فض الاشتباك الذي جرى التوصل له بين البلدين في أعقاب حرب أكتوبر 1973، في نفس يوم فرار بشار الأسد. كما يواصل الجيش الإسرائيلي غاراته التي تخطى عددها الخمسمائة لاستهداف ما تبقى من طائرات وبطاريات سلاح الدفاع الجوي والدبابات والسفن الحربية ومراكز الأبحاث العسكرية التي يمتلكها الجيش السوري.
كما أجرى نتنياهو زيارة استفزازية لجبل الشيخ الواقع داخل الأراضي السورية بصحبة وزير دفاعه ورئيس الأركان في الثلاثاء الماضي 17 ديسمبر، ليعلن أن جيش الاحتلال سيبقى هناك لأمد مفتوح حتى يتم التوصل لتفاهمات جديدة مع النظام الجديد في سوريا، مشيرًا إلى أن "إسرائيل لن تسمح لمجموعات جهادية أن تملأ الفراغ وتهدد التجمعات الإسرائيلية في هضبة الجولان بهجمات على شاكلة السابع من أكتوبر. لهذا السبب دخلت القوات الإسرائيلية إلى المنطقة العازلة وسيطرت على المواقع الاستراتيجية بالقرب من الحدود".
كما صرح وزير دفاع دولة الاحتلال، إسرائيل كاتس، من على نفس قمة الجبل "نحن سنبقى هنا طالما كانت هناك حاجة لذلك. فوجودنا في قمة جبل الشيخ يقوي الأمن ويضيف بعدًا لمراقبة وردع مواقع حزب الله في سهل البقاع في لبنان ويردع المتمردين في دمشق الذين يزعمون أنهم يقدمون صورة معتدلة، ولكنهم ينتمون لأكثر الطوائف الإسلامية تطرفًا".
تجنب الشرع التطرق إلى الاتهامات التي رددتها إسرائيل بخصوص تاريخ انتمائه لمنظمات إرهابية
وفي اليوم التالي للزيارة التي ذرف خلالها نتنياهو الدموع متذكرًا كيف أنه حارب شخصيًا عند هذه النقطة من الأراضي السورية عام 1973، عقدت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية، شارين هاسكل مؤتمرًا صحفيًا عرضت فيه صورًا متعددة للشرع، أثناء عضويته في منظمات القاعدة وداعش لتنهي عرضها بصورته الجديدة بعد خلعه العمامة وتهذيب شعره وذقنه وارتدائه الملابس الغربية، قائلة "من المهم أن نتجنب السقوط في محاولة غسيل تاريخ الجماعات الجهادية في سوريا. نحن نعرف من هم وحقيقة نواياهم، حتى لو غيروا أسماءهم. نحن نفهم مدى الخطورة التي يمثلونها للغرب".
مواقف مرتبكة
ومن المعروف أن الشرع بدأ شبابه مقاتلًا في تنظيم القاعدة في العراق تحت قيادة مصعب الزرقاوي بعد الاحتلال الأمريكي في 2003. لينشئ بعد ذلك فرعًا لتنظيم القاعدة في سوريا تحت اسم "جبهة النصرة" الذي أعلن عن تحالفه لاحقًا مع تنظيم داعش بعد بروز نفوذه وتمكنه من السيطرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا.
وبعد تمكن الولايات المتحدة من هزيمة تنظيم داعش وإنهاء دولته المؤقتة، عاد الجولاني إلى محافظة إدلب شمال شرق سوريا وأنشأ حكومة مصغرة هناك تحظى بدعم غير مباشر من أنقرة.
أكد الشرع في المقابلات الصحفية التي أجراها الأسبوع الماضي أنه لن يسمح أن تتحول سوريا إلى نقطة انطلاق لمهاجمة أي من جيرانها، بما في ذلك إسرائيل. مضيفًا أن السوريين منهكون في المرحلة الحالية وليست لديهم الإمكانيات التي تؤهلهم أساسًا لخوض حروب. مبررًا هجوم إسرائيل على الأراضي السورية بوجود قوات إيرانية وأخرى تابعة لحزب الله اللبناني، وهو ما انتهى حاليًا. فيما تجنب الشرع التطرق إلى الاتهامات التي رددتها إسرائيل بخصوص تاريخ انتمائه لمنظمات إرهابية.
باستثناء قطر وتركيا المعروفتين بدعمهما لجماعات الإسلام السياسي بداية بالإخوان ومرورًا بحماس ونهاية بالمجموعات الإرهابية السورية التي قاتلت الأسد، بقي موقف الدول العربية الرئيسية مثل مصر والسعودية والإمارات خجولًا ومرتبكًا في التعامل مع النظام السوري الجديد، ليبدو أقرب لموقف إدارة بايدن والدول الغربية مثل فرنسا وبريطانيا التي قررت اختبار نوايا حكام دمشق الجدد من قادة الجماعات المسلحة واتباع سياسة "لننتظر ونرى"، مرددين، في الغالب، داخل الغرف المغلقة نفس ما قالته نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية علنًا بشأن الجولاني "ذئب في ثياب حمل".
الحقيقة التي يتجاهلها قادة الغرب الذين طالما تشدقوا بالديمقراطية وحقوق الإنسان أن لقادة سوريا الجدد تاريخًا طويلًا في الانتماء لمنظمات ارتكبت جرائم لا يمكن محوها أو تجاهلها ونسيانها بحق عشرات الآلاف من العراقيين والسوريين.
هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تصور أن من تلطخت أيديهم بقتل الأبرياء سيتحولون بين ليلة وضحاها إلى معتدلين يؤمنون بالتعددية وحقوق الإنسان. والمؤكد أن الشعب السوري الشقيق يستحق ما هو أفضل من الجولاني والأسد، إلا إذا أردنا تصديق أضحوكة أن من منح البيعة للزرقاوي وقادة داعش والقاعدة يمكن أن يصبح فجأة مؤسسًا للحزب الليبرالي السوري.