برخصة المشاع الإبداعي حسام الحملاوي، فليكر
متظاهر في ميدان التحرير خلال الأيام الأولى من ثورة يناير 2011.

في ذكرى يناير.. مصر ليست سوريا

منشور الثلاثاء 14 يناير 2025

منذ السقوط المفاجئ والسريع لنظام عائلة الأسد في سوريا، وجماعات الإسلام السياسي وأنصارهم في نشوة غير طبيعية وباتوا يبشرون بأوهام اقتراب نهاية النظام المصري. لم يقتصر الأمر على هذا التنبؤ الساذج الذي لا صلة له بواقع ما نعيشه في مصر، بل امتد ليفسح المجال أمام رؤوس الأفاعي لإثارة قضايا طائفية سخيفة، ترتبط باحتفالات عيد الميلاد والعام الجديد وشرعية المشاركة أو التهنئة بها، من وجهة نظر ضيقة مفرطة في التطرف تُصوِّر الأمر وكأنه مرتبط بـ"العقيدة" والحلال والحرام.

ففي الأيام الأخيرة، عادت إلى السوشيال ميديا الفتاوى المثيرة للغثيان، بشأن عدم جواز تهنئة المسيحيين بعيد ميلاد يسوع المسيح عليه السلام، ورفض الاحتفال بقدوم العام الجديد وكأنه عيد مسيحي هو الآخر، لا مجرد مناسبة يتمنى فيها أغلبية الناس بنية حسنة عامًا أفضل من سابقه، خاصة وأننا في 2024 لم نرَ أكثر من صور القتل والدماء؛ في غزة ولبنان والسودان، الذي يعاني حربًا متواصلة ومجاعة كارثية.

بيان مضحك عن الأمل 

لم تكد تمضي أيام على فرار الأسد إلى موسكو، بعد أن قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التخلي عنه في صفقة لم تتضح تفاصيلها حتى الآن، حتى أصدر ما يُسمَّى بـ"تيار التغيير" التابع للمكتب العام لجماعة الإخوان، والمنشق عن القيادة الرسمية للجماعة، بيانًا مضحكًا يتحدث عن "الأمل" الذي أعاده انتصار الثورة السورية "إلى قلب الربيع العربي بعد خريفٍ مظلمٍ على ثورات شعوبنا"، ليخلص إلى أن مواجهة النظام المصري في المرحلة الحالية "لم تعد خيارًا، بل واجب لا يمكن تأجيله. ولن يُسقط هذا الظلم إلا بإرادة ثورية موحدة تعمل بكل قوتها لكسر قيوده واستعادة وتمكين الإرادة الشعبية".

أما الدكتور صلاح عبد الحق، القائم بأعمال المرشد العام للإخوان، فأصدر بيانًا أكثر تحفظًا، ركز فيه على الشأن السوري محتفيًا بانتصار هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا، وإن لم يفُته اللمز في حق الأنظمة العربية التي دعمت في وقت سابق عودة بشار إلى جامعة الدول العربية قبل هربه، قائلًا إن "أنظمة الحكم العربية التي راهنت على المستبد الطاغية، واحتضنته قد فشلت في رهانها".

أحمد الشرع في دمشق عقب سقوط نظام الأسد، 9 ديسمبر 2024

وأضاف عبد الحق أن "مشاهد تحرير المعتقلين في سوريا تؤكد تشابه مظاهر الاستبداد والطغيان هذه مع مثيلاتها في بعض دولنا العربية. وعلى النظم أن تدرك اللحظة التاريخية، وتنحاز إلى مطالب الشعوب، وتنهي كافة مظاهر القمع والاستبداد، وتؤسّس لمصالحة شاملة تبدأ بتحرير المعتقلين، وفتح المجال العام بشكل حقيقي، دون تمييز أو إقصاء بين أبناء الوطن الواحد".

لا تتقن قيادات جماعة الإخوان المعزولة والمنقسمة شيئًا أكثر من لعب دور الضحية المسكينة، من دون الإقرار ليس فقط بالأخطاء، بل بخطايا تصل إلى حد الجرائم، بدءًا بركوبهم على ثورة 25 يناير والتصرف وكأنهم هم من دعوا إليها وقادوها، وكأن للمصريين ذاكرة سمكة، أو أنهم غير قادرين على استخدام محركات البحث ليعرفوا أن الجماعة المهادنة، التي تتصرف كدولة داخل الدولة وتقدم مصلحتها فوق الجميع، ظلت ترفض حتى اللحظات الأخيرة دعوات التظاهر في ذلك اليوم العظيم، بزعم أن الثورات لا تبدأ من السوشيال ميديا.

أما المهزلة الأكبر على الإطلاق، فهي تلك التي تلت سقوط الأسد في سوريا، عندما أطلق مصري لا يعرفه أحد دعوة من قلب دمشق إلى تشكيل جبهة لكل المؤمنين بثورة يناير والاتحاد من أجل إسقاط النظام الحالي باستخدام القوة المسلحة.

وزاد من كوميدية المشهد، ظهور ذلك الشخص ومن خلفه علم مصر الملكية، وإلى جواره ملثمان، فيما يشبه التأكيد على أن الثورة ستكون مسلحة كما كانت ثورة سوريا الشقيقة. وزيادة في الغموض، موَّه الفيديو عينَيْ أحد الملثمين المشاركين في تلك الدعوة المريبة، وكأن اللثام بمفرده لا يكف لإخفاء هويته.

يعكس هذا الجهل المطلق بالفوارق العديدة بين مصر وسوريا؛ بداية من التركيبة الاجتماعية والطائفية والعرقية، مرورًا بتاريخ الثورة السورية نفسها وكيف انتهى الأمر بسوريا الأسد مقسمة ومفتتة تحتلها قوات أجنبية متنوعة: روسية وإيرانية وميليشيات شيعية لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية تحمي مناطق سيطرة النظام، وأمريكية وفرنسية وبريطانية في المناطق الكردية الخاضعة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتركية في الشمال بزعم مواجهة حزب العمال الكردستاني.

مصر ليست سوريا

كل هذه وغيرها أمور لم تمر بها مصر الدولة الثابتة الراسخة المعروفة حدودها وهويتها منذ آلاف السنين، ولم تعرف حكم أقلية تحكم بقية الشعب عنوة وبطائفية، كما فعلت أسرة الأسد العلوية التي وضعت القوات المسلحة في يد العلويين.

مهما بلغ قمع النظام في مصر للمعارضين وسجنهم على مدى السنوات العشر الماضية، وسعيه الحثيث للحفاظ على دولة الرجل الواحد، فلا يمكن مقارنته بنظيره السوري الذي قصف مواطنيه بالطائرات والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية.

ولكن الأهم من ذلك كله، طبيعة الشعب المصري وحبه وانتماؤه لدولته والرغبة في الحفاظ عليها رغم كل ما نعانيه من أزمات اقتصادية حادة تمثل التهديد الأساسي لاستقرار النظام الحالي. ومهما كان الخلاف بشأن ثورة 25 يناير ومن أيدها وشارك فيها، ومن عارضها بزعم أنها مؤامرة مدعومة من الخارج، كان أهم ما ميز هذه الثورة العظيمة مبدأ السلمية الذي التزمت به والتمسك بعدم تخريب الممتلكات العامة أو الانتقام الدموي ممن قمنا بالثورة ضدهم، حتى اكتسبت الثورة المصرية صفة لم تعرفها أي ثورة أخرى في العالم وهي صفة "الثورة الضاحكة".

فعندما ردد النظام المخلوع أن هذه الثورة تخدم "أجندات أجنبية"، وقف الشباب المصري العظيم في الميدان مبتسمًا وهو يحمل أجندات العام الجديد، وارتفعت يافطات "ارحل أنا عاوز أقص شعري" و"ارحل بقا يا عم.. خلي عندك دم" و"قالوا علينا شباب فيسبوك.. رحنا عملنا لحسني بلوك".

ولن ننسى بالطبع العمل المدهش الذي قام به من شاركوا في هذه الثورة المتفردة في اليوم التالي لخلع مبارك، بتنظيف الميدان كنسًا ومسحًا للتأكيد على الطابع السلمي للثورة.

هذه هي ثورة 25 يناير كما أحببتها وأحبها كثير من المصريين.

أما الجانب الأكثر ضررًا في هذه الدعوة الجاهلة القادمة لنا من دمشق، بعدما أصبحت خاضعة لهيمنة تركيا، فهي أنها تعطي المبرر للأجهزة الأمنية لشن حملتها السنوية المعهودة والقبض على مجموعات كبيرة من الشباب بزعم التخطيط للمشاركة في اضطرابات ومظاهرات ذكرى الثورة.

عندما اندلعت الثورة الشعبية في الشقيقة تونس، كان لديَّ شعور قوي أن مصر هي التالية، وأن تونس بظروفها ونظامها هي الأقرب لنا. أما هذه المرة، فإن مصر ليست سوريا بكل تأكيد، ولن تكون. ومن يحاول الترويج لهاشتاج "يا ديكتاتور عليك الدور"، لا يمكن الرد عليه سوى بالقول "اخرس يا تور".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.