كلهم يجرون.
شباب، مراهقون، كهول، رجال، نساء. الكل يجري، وكأنهم مرتعبون، حتى في عز تكبيرهم ودموع الفرح، من أن يكون الحلم هلوسة. ذاك الحلم الذي ظل ملتصقًا بدواخل جفونهم المغمضة كل لحظة ذاقوا فيها صنوف التنكيل والعذاب في صيدنايا، حتى تخلوا عنه في تلك اللحظة التي يعرفها كل سجين عين المعرفة: وقتما يصير الأمل أكثر فتكًا من اليأس.
والآن يجرون. يجرون من السلخانة البشرية كما جرى قبلهم إخوانهم وأخواتهم من سجون حلب وحمص وحماة وعدرا، وغيرها من سجون الأسد المحررة.
أشاهد وأفكر في كل زملائي الذين خلّفتُهم ورائي في معتقلات مصر. 6 سنوات تنقلت خلالها بين زنازين قسم الأزبكية، معسكر السلام، سجن المرج، استقبال طرة، ليمان طرة، ملحق ليمان وادي النطرون، طرة شديد الحراسة 2، وتخشيبة الخليفة. أستعيد وجوه الأصحاب، ألصقها على وجوه المحررين في سوريا وأتخيلهم بالمزيج نفسه من عارم السعادة والاضطراب، فتدمع عيني. أتخيل صديقي أيمن موسى وهو يجري، يجري، يجري، يبكينا ونحن نشاهده تاركًا وراءه القضبان.
لست وحدي في مصر من يُسقِط آماله ولهفته الشخصية على مشاهد تحرير السجون في سوريا، فذاك أيضًا ما يفعله أصحاب الحكمة الخالدة، المتخوفون من المستقبل، مُقَرِّعو كلَّ محتفلٍ سعيدٍ.
يدعي أولئك أن خوفهم على مستقبل سوريا من احتمالات الفاشية الدينية التي ستُسيل الدماء وتملأ السجون من جديد. يتسم خطاب كثير منهم بالاستعلاء وادعاء فائض الفهم وبعد النظر عن المحتفلين، وكأن المحتفلين بلهاء غافلون، وكأن السوريين أنفسهم لم يُعيشوا معنا مأساة الـ14 عامًا الماضية في بلدهم.
نعم، هي ميليشيات مدعومة من الخارج بتحالفات متشعبة لا تكترث أطرافها الخارجية بسوريا ولا بالسوريين. نعم، الثوار جهاديون وإكس داعش وإكس قاعدة ويملكون أرضية فكرية خصبة لنشأة فاشية دينية.. إلخ.
لكن الواقع السوري البشع المُقسَّم بالفعل، المليء بالسلاح الكيماوي المتساقط على رؤوس السوريين، والتعذيب والمجازر والسلخانات البشرية والميليشيات المدعومة من الخارج إلى آخره، أصبح، في أسوأ التوقعات وأكثرها تشاؤمًا، مجرد احتمال. حتى لو عاد، جدلًا، كل هذا غدًا على يد تلك الفاشية الدينية المحتملة، فلا ينفي هذا حق الفرح اليوم، فالفرح تحديدًا هو بإزاحة الطاغية الجاثم، وتحول الواقع الراسخ الأبدي لمجرد احتمال.
ينظرون إلى سوريا فيرون أنفسهم
مِمَّ يخافون إذًا، أولئك الذين تخطوا مرحلة القلق وباتوا أقرب لمن يدعو ويتمنى خراب سوريا واشتعالها، ليشيروا متقافزين في وجوه كل فَرِحٍ، بأنهم كانوا على حق؟
لنعُد إلى مربط الفرس: بات جليًّا أن معظم من يتخوف ويرتعش في مصر مما يحدث في سوريا لا يرى سوريا من الأصل، بل ينظر لها كما المرآة، تعكس مخاوفه من أحداث سوريا على نفسه شخصيًا.
ربما "المتخوف" أحد أعضاء مجلس النواب أو تمثيليات تنسيقيات الشباب التابعة للدولة، يرتعد من اهتزاز الواقع الراسخ تحت أقدامه والمكانة التي اكتسبها من أحد تلك المناصب الكوميدية. ربما أبواق النظام يقرؤون بين السطور رسائل ترعبهم، بأن ما في سوريا اليوم سيلحق بنا غدًا، فدعنا نعدم المعتقلين لنرد على الرسائل بأننا ماضون بكل عزم على استكمال التنكيل.
بعض النشطاء ينظرون إلى سوريا فيرون مصر وماضيها مع التيار الإسلامي من بعد ثورة يناير، فيُسقطون هلعهم الشخصي من خبرتهم هذه على سوريا. ربما الأمر ببساطة شعور شخصي بالجبن والتخاذل، يثير الرفض التلقائي لكل أشكال المعافرة، ويبشِّر بالانهيار الحتمي كآليةٍ دفاعيةٍ تثبت للنفس أن الخنوع هو أكثر الاختيارات حكمة.
لا علاقة لسوريا بكل هذا، لأنه يتعلق بنا نحن: دغدغتنا ذكريات الثورة المصرية وراود بعضنا الحنين والأمل المشوب بالقلق، وبعضنا الآخر الإرتيكاريا واضطرابات ما بعد الصدمة. وليسوا هؤلاء من يشغلني حقًا، إنما آلاف الأمهات المصريات اللاتي استيقظن يومها موقنات بمفارقة أبنائهم المختفين قسريًا من سنين للحياة، فاصطدمن بمشاهد المختفين منذ عقد وأكثر يجرون على ساقين من سراديب سجون سوريا، لتحتل عقولهن فكرة واحدة: ربما ابني أيضًا ما زال حيًا.
يختلف وقع مشاهد السجون في سوريا على المعتقلين وأهاليهم. صعبٌ تخيُّل شعور أن يتقبل الناس تعفنك في زنزانة ضيقة كعَرَضٍ جانبي. أن تتوقف أرضك عن الدوران وعقارب ساعتك عن عد الثواني. أن تحسب الوقت بعدد التفتيشات والتجريدات وبالأنفاس بين جلسة تعذيب وأخرى. أن ينساك العالم ويمضي مخلفًا ما بقي منك وراءه حطامًا.
أو أن تكون محل زوجة أو ابنة أو أم أصبحت حياتها طابور زيارة سجن لا ينقطع، من أكياس ممزقة بالمطاوي لأيادي مخبرين متحرشة، تخفي الدموع عن سجينها بالابتسامة القسرية ألَّا يأكلُه عجزُه قهرًا. أن تمضي عشر سنوات في هذا العذاب حتى ينهي حبيبك حكمه الجائر، فيخبرونك وأنت تنتظره أمام قسم الشرطة ليدفن نفسه في حضنك أنه دُوِّر على ذمة قضية جديدة بنفس التهم، والكابوس صُفِّر عداده من جديد.
أن يصبح حتى كونُ حياتِك طابورَ زيارةِ سجنٍ، رفاهيةً لا تنالها لأن حبيبك مختفٍ قسريًا، بعد أن خطفه شبيحة النظام في نصف الليل من ثماني أو تسع سنوات ولم تسمع عنه مجددًا. أن يخبرك الأقارب والجيران والمحامون والحقوقيون أن الوقت آن لتتقبل أن الهاتف لن يدق لأن حبيبك لم يعد على قيد الحياة. أنْ، كما قال محمد ربيع في رواية عطارد، تتجرد من كل أمل، وتعلم أن القاع وهم.
ثم تستيقظ على صبحٍ يعيد إيمانك باحتمال المعجزة.
ليذهب العالم وتحليلاته السياسية إلى الجحيم مقابل رفع ظلم كهذا عن فرد واحد، ناهيك عن بلد بأكمله.
ألا يخيفكم عنف الدولة؟
دعنا نعُد للمتخوفين المصريين، ونقف قليلًا عند موضوع العنف الذي يتحسسه الجميع.
كيف يجرؤ أي شخص على التلميح حتى بأن فرح أهالي المعتقلين والمشتغلين بشأنهم بمشاهد تحرير معتقلي سوريا معناه رغبتهم في سلك طريق العنف وحمل السلاح في مصر أيضًا؟
كيف ولم يترك أهالي المعتقلين بابًا تحت مظلة القانون أو الدولة إلا وأوسعوه طرقًا: من استنفاد وسائل التقاضي، إلى التظلم والاستشكال أمام النيابة العامة، وإرسال الطلبات للمجلس القومي لحقوق الإنسان، وملء استمارات لجنة العفو الرئاسي، وتوجيه مناشدات حارة للحوار الوطني، والاستنجاد بالبرلمانيين والشخصيات العامة المحسوبة على الدولة أو المقربة منها.
عرائض واستغاثات على السوشيال ميديا، رسائل من داخل السجون موقعة من المعتقلين أنفسهم متعهدين بنبذ السياسة أبد الدهر إن خرجوا، انتهاء بمبادرة أُسَر سجناء مصر السياسيين التي وقعها قرابة 12 ألف شخص من الأهالي، أعطوا فيها السلطات شيكًا على بياض أن يخرج أولادهم مقابل الإذعان المسبق لما ترتضيه من الشروط والأحكام بلا نقاش.
لا مجال لرمي تهمة الرغبة بالعنف على من ينادي بخروج المعتقلين المصريين متأثرًا بمشاهد سوريا. فقط لا توصد كل الأبواب والنوافذ، بل والثقوب، ثم تزعق على المعتقلين وأهلهم إن نظروا للمحررين في سوريا بشيء من اللهفة والأسى. فمن يسمع هذا الكلام يحسب أن قنوات الحوار مفتوحة ونسمات الرحمة محيطة ولكن من في السجون يلفظونها.
لا يرغب أحد أن يتحرر المعتقلون في مصر بالسيناريو السوري، بل إن المنادين كلهم يقولون: بعض العقل. رأينا في سوريا أن واحدًا وواحدًا مهما طال الزمن سيساوي اثنين، فلا تَلُمْ من يلفت نظرك إلى تلك البديهية، وأنت تصر على جمع الواحديْن وإنفاذ المعادلة.
نكره العنف ونلفظه ولا نتمناه لبلادنا، لكن أكبر مغالطة تستخدم في مصر دومًا عند الحديث عن "استخدام العنف" هو اعتبار واقعنا الحالي واقعًا مسالمًا غير عنيف، بينما تنتج الدولة عنفًا فلكيًا ممنهجًا لإبقائه على حاله، وتُسكِت أي صوت يجرؤ على الحديث همسًا عنه.
ما الوطن إن كان ثمنُ حفظ هيكله الأجوف رفاتَ عظام أبنائه المسحوقة؟
جميل أن تنتفض غاضبًا للتنبؤات بممارسة العنف وحمل السلاح والحرب الأهلية وتراها أبشع ما قد يقال، ولكن ماذا يقول عنك ذلك إن لم يكن هذا نفس خطابك بشأن العنف الذي يمارس يوميًا بالفعل من قبل السلطات العامة على المعتقلين وأسرهم؟ لِمَ لا تقضُّ أشباحُ المختفين مضجعك بالقدر نفسه؟ لِمَ لا تهشم لوحة مفاتيحك من فرط الهستيريا على حال أسرهم التي دُمِّرت؟ أين الرغاوي السائلة من فمك وأنت تجعر عن أهوال التعذيب بالعازولي وسراديب أمن الدولة؟
في أحسن الأحوال، تضايقك أخبارهم قليلًا، تدون عنها كل حين وآخر لتتمكن من النوم ليلًا، تمصمص الشفاه ثم تنحي الأمر جانبًا حتى يتوتر ضميرك بعض الشيء ثانية. ربما لا يهم ذلك إن كان الفتور ديدنك في العموم على مد الخط. لكن المعتقلين وأهاليهم يرون ويسمعون: عندما تحصر الهلع والانتفاض على العنف المحتمل ضد الدولة وتلعن المبشرين بحتميته، اتفقت مع وجاهة تنبؤاتهم أم اختلفت، فما نراه هنا ضمنًا هو أن الأجساد المهشمة لستين ألف معتقل ومختفٍ قسريًا ضريبة مقبولة لحفظ ما يُحسب علينا "استقرارًا" و"وطنًا".
ما الوطن إن كان ثمنُ حفظ هيكله الأجوف رفاتَ عظام أبنائه المسحوقة؟ لِمَ لا نخاطب بالعويل والصراخ من جعل تلك المعادلة الصفرية فرضًا من البداية، لا ضحاياها؟
خذها قاعدة: كل حديث عن العنف لا يبدأ بالإقرار بعنف الدولة الملهب لأجساد أبنائها وإدانته، صاحبه منافق.
تَحرَّرَ معتقلو سوريا من دهاليز العذاب، بمعنى آخر، ما زالت المعجزات ممكنة. أهناك عاقل باقٍ في مصر يسوقها لمعادلات مختلفة تقود لمخرجات أخرى، تحرر عشرات الآلاف من أبنائها وتعيد الحياة لأهاليهم، فينز الجرح بعضًا من صديده ويعود الأمل في أن يلتئم يومًا بمعجزة أخرى؟ أهناك أي احتمال لرفع العنف المفجع عن أجساد ساكني السجون وأهاليهم؟
كل الطرق مفتوحة ومطروقة، العقبة الوحيدة هي دولة من الأساس تريد. لنوجه غضبنا في محله إذن، أو لنصمت.