ضمن الصور التي تنشرها صفحة الحوار الوطني على فيسبوك، استوقفتني واحدةٌ للباحث والاقتصادي عمر الشنيطي في جلسة عُقِدت مؤخرًا من الحوار الاقتصادي في الأكاديمية الوطنية للتدريب. لم أعرفه قبل حبسه الذي استمر أربع سنوات، لكنَّ مشهد نقاشه مع خبير اقتصادي وسجين سابق آخر، عن الحالة التي تمر بها البلاد أثار في نفسي تساؤلات؛ لماذا كان كل ذلك؟ ومن استفاد من غياب هذه الأصوات التي احتاجها كل مصري؟ ومن يعوضنا ويعوضهم عن خسائر الأعمار والطاقات واللحظات العائلية التي لا تستعاد ولا تقدر بثمن؟
عبر القليل الذي يكتبه على حسابه الشخصي، يتعامل الرجل بإيجابية وتجاوز صادق لمحنته التي استمرت خمسين شهرًا من الحبس الاحتياطي، ويشغله الكثير ممن تبقوا في السجون من أصدقاء ومعارف لم يعرف بوجودهم سوى داخل الزنازين، ما يجعل مَن يشاهد الصورة يتجاوز الأسئلة عما فات وأسبابه، ويفكر فيمن تبقى، ويرغب في رؤية المزيد من الصور مع اقتراب شهر رمضان؛ موسم تجدد آمال آلاف الأسر المصرية بأن يتغير حالها وتشهد موائد إفطارها عودة الغائبين، وطي مئات الصفحات الشبيهة بنفس التجاوز والإيجابية.
ما يضاعف إلحاح هذا الأمل الآن هو تأثير الأزمة الاقتصادية الطاحنة على هذه العائلات، التي أضيف إلى ما تعانيه من غيابٍ وفقدٍ، غلاءُ أسعار يُصعِّب عليهم الاستمرار فيما كانوا يقدمونه لذويهم في السجون. احسب تكلفة هذه المشاوير الطويلة إلى قلب الصحراء من أجل زيارة، فلم تعد السجون قريبة في قلب المدن.
تقول عائلة إنَّ الخوف من التأخير على مواعيد الزيارات يجعلهم يستأجرون سيارة خاصة تنقلهم، تضاعفت أجرتها مرتين خلال الشهور الأخيرة.
ومع تكرار الزيارات، تبني السجون وطوابير الانتظار علاقات بين الأهالي، قد تساعدهم في التحايل على ما ينالهم. مثلًا تصحب زوجة سجين، تملك سيارة، عائلةً أخرى عذبتها المواصلات الطويلة بإرهاقها الجسدي والمالي، وتتشارك عائلات أخرى حافلةً أكبر يتقاسمون تكلفتها، لكن حين يغيب اثنان أو ثلاثة من القائمة تُلغى الرحلة ومعها زيارات الجميع، لأنَّ المبلغ المطلوب سيفوق طاقات الباقين بعد تقسيمه.
أمامنا فرصة فيما تبقى من أيام قبل رمضان لتفعيل عمل لجان العفو وقرارات إخلاء السبيل
الأمانات، أو المبالغ التي يتركها الأهل لينفق السجين على احتياجاته في الأيام والليالي الطويلة، تتراجع مع تناقص المقدرة المالية وتضاعف الأسعار داخل أماكن الاحتجاز، كما في خارجها. لم تعد تلك النقود تكفي وجبات كاملة تُغني عن طعام السجون الذي يعرف الجميع حالته، ولا يصدق أحد المشاهد الملحة والمكررة عن تحسنه.
"وضع كارثي لا يوصف" تقول لي زوجة سجين آخر، وهي تحكي نقلًا عنه كيف أنَّ الزيارات التي كانت تصل كل يومين أو ثلاثة فيتشاركها العنبر الواحد فتهون بعضًا من الجوع والحرمان، تراجعت إلى مرة كل شهرين.
ما كانت تحمله الأيادي في طريقها إلى التفتيش عند بوابات السجون يتضاءل تدريجيًا إلى أكياس صغيرة بائسة أو شبه خاوية. تبكي أم لأنها لم تستطع إحضار سوى سندويتشين صغيرين بعد أن التهمت المواصلات والاحتياجات اليومية الأخرى ما معها من مال، فيما تقف زوجة عاجزة عن التصرف بعد أن أعاد زوجها الطعام وقال إن أطفالهما أولى به ولا داعي للزيارة. سجناء آخرون جمعوا قطعَ جبنٍ وعلبَ لبنٍ مما يصلهم من تعيين، ليخرجها زميلهم لأطفاله أثناء لقاء زوجته.
فكِّر في ارتفاع أسعار الأدوية وغيابها عن آلاف آخرين وما يمثله ذلك من تهديد لصحتهم وحياتهم. تقول تقارير حقوقية إنَّ الشهرين الأولين من 2024 فقط سجَّلا وفاة ستة سجناء، أما العام الماضي فشهد وفاة 33 آخرين، مع انتقادات لمستوى الرعاية الصحية والخدمات الطبية وتوافر الأدوية اللازمة لإنقاذ الحياة.
وتدفع هذه الظروف الاقتصادية ومراجعة الدولة لسياسات إنفاقها إلى السؤال عن تكلفة احتجاز الآلاف من المحبوسين احتياطيًا، أو من يعاد تدويرهم بعد انتهاء أحكامهم.
هذه جروح غائرة في قلوب وحياة الآلاف، وستحتاج سنوات لعلاج أثرها في نفوسهم وحياتهم وأفكارهم ومواصلة مستقبلهم، والأولى أن يتدارك الجميع ما يمكن الآن. ولعل ما دفع السلطة إلى مصالحة حكومات عادتها وقاطعتها لسنوات أولى بأن يصالحها على مواطنيها المنهكين من السجون وضغوط الاقتصاد ويعيد إليهم ابتسامة تجاوز ومحاولة لاستئناف حيوات تعطلت لسنوات.
لن يكفي النفي أو التشكيك أو حجب هذه التقارير وقصص المعاناة، ولا تملك العائلات شجاعة مشاركتها علنًا سواء بدافع الخجل من أن مصابهم قد يكون أهون من غيرهم، أو الخوف مما قد يصيبهم وذويهم من مضايقات.
ستظل هذه الآلام تتعاظم إذا لم يتدخل أحد ويصلح الأمور، وأمامنا فرصة فيما تبقى من أيام قبل رمضان، لتفعيل عمل لجان العفو وقرارات إخلاء السبيل من النيابة، لتخفف السلطة الضغط عن نفسها وعن آلاف يستقبلون كل خبر بعودة سجين بأمل أن تصل تلك الفرحة إلى قلوبهم، وأن تسكّن هذه القرارات آلام كثيرين لا يعرفون كيف سيكون صيام وإفطار هذه السنة في ظل قوائم أسعار الأطعمة الأساسية.