منشور
الثلاثاء 6 فبراير 2024
- آخر تحديث
الثلاثاء 6 فبراير 2024
ظهر يوم الأحد، أخبرني صديقٌ برحيل الدكتور حازم حسني فجأة عن عالمنا، لأتذكر على الفور المكالمة التي تلقيتها منه قبل أيام ليطمئن على أحوالي ويهنئني بالعام الجديد، وأدركت أنها كانت مكالمة الوداع بعد أن شعر باقتراب رحلة حياته الطويلة الشاقة من نهايتها. أصبحت خبيرًا في التعامل مع من يعرفون بدنو الأجل.
من المؤكد أنها لم تكن مصادفة. فكل ما يقوم به الدكتور حازم حسني محسوب بترتيب. عندما تحدثنا كان صوته متعبًا بعض الشيء، ولكننا تبادلنا الضحكات، بعد أن شكرته لتكرمه بالاتصال بي، ونحن نتذكر معًا بعض ما بقي في الذاكرة من تجربة قضائنا سنةً كاملةً معًا في زنزانة واحدة، من ضمن الـ19 شهرًا التي قضيتها في ليمان طرة، بينما خرج هو قبلي بشهرين فقط.
لم أكن أعرف الدكتور حازم حسني شخصيًا قبل ثورة 25 يناير 2011، مثل الكثير من الشخصيات العامة والأصدقاء الذين برزوا أثناء وبعد ذلك الحدث غير المسبوق في تاريخنا الحديث. كنت عندما نلتقي في المناسبات العامة أو المقابلات التليفزيونية أشعر نحوه بهيبة ما، ربما بسبب طوله الفارع، ونظرته الثاقبة وقلة كلامه، وآرائه القاطعة، والتزامه دائمًا بالبدلة الرسمية التقليدية المكونة من ثلاث قطع وربطة عنق وحذاء لامع.
لا يناور ولا يلاوع كما يفعل السياسيون المحترفون، ولم يعرف يومًا الانتهازية ولم يسعَ وراء منصبٍ رغم علمه الغزير وخبراته المتعددة، كأستاذ جامعي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة حصل على شهادة الدكتوراه من فرنسا.
خلاف سريع أنهاه القمع
اختلفت مع الدكتور حازم أثناء استعداده لخوض ما كان مفترضًا به أن يكون انتخابات رئاسية عام 2018، وذلك بعد أن قرر دعم الفريق سامي عنان مرشحًا لرئاسة الجمهورية وخاض معه التجربة نائبًا للرئيس، فيما قررت أنا دعم الصديق المحامي خالد علي. غير أنَّ الظروف لم تسمح باستمرار هذا الخلاف، إذ ألقت السلطات القبض على سامي عنان ومنعته من الترشح، ورفض خالد علي أن يبدو في مظهر المحلل مع غياب أيِّ مرشحين آخرين في منافسة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
توارت كل هذه الخلافات في اليوم الذي رأيت فيه الدكتور حازم يجلس في مدخل ساحة استقبال ليمان طرة مساء 25 سبتمبر/أيلول 2019، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها دون الزي الرسمي كاملًا، فقد ارتدى بنطلونًا كلاسيكيًا وقميصًا طويل الكُمّين. أخبرني يومها أنه ما أن انتهى من حلاقة شعره، وبينما كان ينتظر تاكسي وهو يفكر في شراء الكنافة لأسرته في طريق عودته إلى البيت، اقترب منه رجلان ضخمان وطلبا منه التوجه معهما إلى سيارة قريبة من دون مشاكل.
لحظات وانضم لنا بعد دقائق الدكتور حسن نافعة، لنتأكد أنَّ الحملة واسعة وتشمل معارضين من مختلف الأطياف، خاصة مع حالة التوتر الشديد في ذلك الوقت بسبب دعوات التظاهر ومزاعم الفساد التي أطلقها المقاول الهارب المريب محمد علي. وكان موقفًا محرجًا أن نبدأ نحن الثلاثة خلع ملابسنا في الهواء الطلق لنرتدي سترات السجن الخشنة المتسخة قبل التوجه للزنزانة حفاة. لا بدلة الثلاث قطع، ولا بنطلوني الجينز وفوقه التيشيرت.
كان الراحل مثقفًا موسوعيًا لدرجة أننا كنا نسميه في العنبر "دكتور حازم جوجل"
مكث معنا الدكتور نافعة في الزنزانة ستة أشهر قبل خروجه، وبقيت أنا مع الدكتور حازم ستة أشهر إضافية قبل أن أنتقل مرتين، في عمليتين لتدوير التسكين، بين زنازين مختلفة على مدى سبعة شهور. كان عمر الدكتور نافعة 74 عامًا عندما دخل السجن، فيما احتفلنا بسبعينية الدكتور حازم في الزنزانة، وكنت الأصغر عمرًا في الثانية والخمسين.
كنت أمازح الدكتور حازم، رحمه الله، بتذكيره أنَّ إجمالي ما قضيناه سويًا من وقت في زنزانتنا الضيقة يفوق غالبًا ما قضاه كلٌّ منا مع أسرته على مدى عقود. في حياتنا المزدحمة قد لا يلتقي المرء أفراد أسرته سوى ساعتين أو ثلاث في اليوم، أما في السجن؛ كنا نقضي سويًا 23 ساعة يوميًا، ممدين أغلبها على سرائر مصنوعة من الصاج تعلوها عدة بطاطين يراكمها السجناء مع مرور الوقت، ولاحقًا مرتبة رفيعة من الإسفنج أقمنا لها احتفالًا خاصًا يوم السماح بدخولها.
سجين أصلب من سجّانه
كان الدكتور حازم سجينًا ملتزمًا بصرامة. يتقبل في صمت إجراءات السجن ويسخر بمرارة من تعقيدات إدخال الزيارات والكتب أو حتى الأشياء البسيطة مثل قصافة الأظافر ولمبة الإضاءة أو محاولة تركيب رف خشبي نضع عليه أغراضنا التي تتزايد كلما طالت فترة السجن.
ولكنه لم يكن يشكو أبدًا، ويرفض أن تُنقل عنه أي شكوى. كان رحمه الله يعاني العديد من الأمراض المزمنة، وأجرى قبل دخوله السجن عملية قلب مفتوح، إلى جانب مشاكل البروستاتا والضغط والسكر. وكان يتناول على مدار اليوم 17 نوع دواء، يرتبها في علب صغيرة مثلما يرتب ما يصله في الزيارات من طعام في علب، أكبر قليلًا، إلى جانب كراتين البسكوت الصغيرة التي نشتريها من الكانتين.
يرتب ذلك كله بدقة متناهية على الثلث الداخلي للسرير الضيق، ويتمدد هو على الثلثين يستمع لأنواع الموسيقى المختلفة من الراديو الذي كنا نعده كنزًا ثمينًا لا نستطيع العيش من دونه.
قبل أن يُسمح لي رسميًا بإدخال الراديو، مارست كلَّ أنواع الحيل للحصول عليه مبكرًا، أعطيت علب سجائر لسجناء جنائيين. ولكن الدكتور حازم كان يرفض بشكل قاطع هذه الأساليب، ولم يبدأ في استخدام الراديو إلا عندما تسلمه رسميًا من ضابط السجن.
كان الدكتور حازم يعاني في أحيان كثيرة التعب والإرهاق والاختناق خصوصًا في شهور الصيف. ولكنه كان يرفض قطعًا طلب الخروج لزيارة الطبيب كيلا يظن من أمروا بسجنه أنه يستعطفهم. وعندما رجته أسرته في إحدى الزيارات أن يتقدموا بطلب للنائب العام لإخلاء سبيله لأسباب صحية، قطع الزيارة وأكد أنه لن يطلب عفوًا من أحد.
كان معنا زملاء في السجن يبكون أحيانًا في لحظات الإحباط التام من قرب الفرج خاصة مع عدم وجود مؤشرات للخروج من السجن بل وتزايد احتمالات التدوير. ولكن الدكتور حازم قابل كل تلك التجربة بصرامة منقطعة النظير وكنت دائمًا ما أرجوه أن يهوِّن على نفسه.
كما كان الراحل مثقفًا موسوعيًا من جيل انقرض تقريبًا من حياتنا، لدرجة أننا كنا نسميه في العنبر "دكتور حازم جوجل". كان خبيرًا في كل شيء تقريبًا؛ السياسة، الاقتصاد، الأدب، الفن، الموسيقى، العلوم. أنت تسأل والدكتور حازم يجيب. ويغلف كلَّ ذلك تواضع جم ورغبة في استمرار التعلم والاستماع إلى الآراء المختلفة والجديدة.
قبل خروجه من السجن بأسبوع، جاءه ضباط من الجهاز المختص ليخطروه باقتراب الإفراج عنه. طلب منه بشكل مباشر أن يطلعهم مسبقًا على ما سيكتبه قبل نشره، ملمحين لأنهم لا يريدون أن يعود إليهم مجددًا. رفض الدكتور حازم تلك التلميحات بشكل قاطع، وإن وعدهم بعدم تناول القضايا اليومية والاكتفاء بطرح "القضايا الوجودية". ولكن القضايا الوجودية والأفكار العامة عادة ما تمس أبعادها واقعنا اليومي المرير، وهو ما اضطره لإغلاق حساباته الشخصية على السوشيال ميديا لشهور والاكتفاء بدور المراقب من بعيد.
سأفتقدك كثيرًا يا دكتور حازم. سأفتقد التعلم من صلابتك ووضوح رؤيتك، وحبك لهذا البلد، وتذوقك للموسيقى، وتحليقك مع النغمات، وروحك الحرة التي لم تُسجن يومًا مع سجن جسدك.