
أمين شرطة اسم الله ولا دبلوماسي؟
تعرّفت على وزير الخارجية بدر عبد العاطي في 2003 حين كنت مراسل جريدة الأهرام في واشنطن. كان هو وقتها دبلوماسيًا نشيطًا في السفارة المصرية التي تتمتع بمكانة مميزة بين كل بعثاتنا الدبلوماسية في العالم، ويتابع ملف الكونجرس على ضوء العلاقة الاستراتيجية متعددة الأوجه بين البلدين منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979.
جرى العرف أن يُنتقى أفضل الدبلوماسيين المصريين للعمل في الولايات المتحدة، سواء في السفارة أو في البعثة الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك. وكان انطباعي الأول عن الدبلوماسي عبد العاطي أنه من نمط مختلف؛ فهو يتحدث بعفوية ولا يستخدم الكليشيهات الفضفاضة منمقة الصياغة دون أن تعني عمليًا أي شيء.
منحتني 35 سنة من العمل الصحفي والتعاطي مع تصريحات الدبلوماسيين من مختلف دول العالم خبرةً كافية لفهمهم، وهم الأقدر بين كل المصادر على الإسهاب لفترة زمنية طويلة دون كشف تفصيلة واحدة أو الإفصاح عن معلومة جديدة تصلح خبرًا. وهم يتباهون بإتقان هذه المهارة باعتبارها علامة كفاءة للدبلوماسي المنوط به أن يكون صوتًا لحكومته مدافعًا عن مصالحها، يتحرك في إطار ما يتلقاه من توجيهات من رأس وزارة الخارجية.
ودائمًا ما تكون أسوأ المقابلات الصحفية تلك التي تُجرى مع سفير، لأنه لن يكشف جديدًا كونه موظفًا لا صانع قرار، وسيكرر على مسامعي ما يقوله رئيس دولته ووزير خارجيته مع استخدام مفرط لعبارات الإطراء والمديح والتأكيد على متانة العلاقات الثنائية في جميع المجالات، حتى لو لم يكن هناك مجالٌ واحدٌ يعمل بكفاءة على أرض الواقع.
"شدّوه من قفاه"
لقي خبر تعيين عبد العاطي وزيرًا للخارجية العام الماضي ترحيب قطاع من المصريين، من الانطباع المأخوذ عنه باعتباره رجلًا شعبيًّا و"ابن بلد"، خاصة وأنه جاء خلفًا لسامح شكري الذي مكث في منصبه سنوات طويلة، وله باع في الدبلوماسية وينتمي للمدرسة التقليدية الحريصة في استخدام الألفاظ بطريقة لم تُرضِ في كثير من الأحيان الرأي العام المصري الغاضب من حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في غزة على مدى العامين الماضيين.
كان عبد العاطي قادرًا على مخاطبة سلطات الدول المعنية رسميًا
لكن بغض النظر عن الإعجاب بأسلوب وزير الخارجية من عدمه، فالمؤكد أن خبرته الطويلة في العمل الدبلوماسي في دول عديدة، جعلته يعرف جيدًا كيف ينظر الغرب لقضايا حرية الرأي والحق في التظاهر والتعبير السلمي.
ليس أدل على نفاق الغرب في الالتزام بحقوق الإنسان من تجربة التعامل مع حرب الإجرام الوحشية الصهيونية في غزة. غير أن ردة الفعل الشعبوية لوزير الخارجية المصري وإصداره توجيهات بـ"شد" المتظاهرين أمام السفارات والقنصليات المصرية "من قفاهم" وتسليمهم إلى السلطات المحلية، باعتبارهم مجرمين اعتدوا على مواقع تتمتع بالحصانة الدبلوماسية، كان لها تأثير الدبة التي قتلت صاحبها.
يعرف وزير الخارجية أن التظاهر في دول الغرب مسموح به وفق القانون أمام كافة المواقع، سواء كانت مقرات للحكومة أو البرلمان أو سفارات دول أجنبية، وأن وزارات الداخلية في تلك الدول لن تطلب من أي متظاهر أو راغب في التظاهر الذهاب إلى "حديقة الأندلس" مكانًا وحيدًا مسموحًا بالتظاهر فيه، ولن تلجأ لمحاكم الأمور المستعجلة لحظر المظاهرات كما يحدث في بلدنا المتفرد.
أساءت توجيهات عبد العاطي، التي يعتبرها سفراء مصر صادرةً من رأس النظام، لصورتها في الخارج، بعد أن تناقضت بشكل صارخ مع مهمته الأولى مسؤولًا عن الدبلوماسية المصرية. كان مفترضًا أن يدير الأزمة بعقلانية وحكمة بعيدًا عن أسلوب حرب الشوارع والبلطجة المتبادلة مع المعتدين ومنح من ينظمون تلك الوقفات فرصةً رائعةً لتصوير الاشتباكات ونشرها على نطاق واسع على السوشيال ميديا.
وأساءت الطريقة التي جرى تنفيذ التوجيهات بها على الأرض، بشكل فضائحي أمام مقر البعثة المصرية في نيويورك بالقرب من مقر الأمم المتحدة، إلى درجة احتجاز طفل يبلغ من العمر 15 سنة.
أعتقد أن الوزير عبد العاطي يعلم جيدًا أنه كان قادرًا على مخاطبة سلطات الدول المعنية رسميًا، بوجود أشخاص يخططون ليس فقط للتظاهر أمام مقرات السفارات، لكن للاعتداء عليها وغلق بواباتها عنوة، الأمر الذي يعد تعديًا على الملكية الخاصة وانتهاكًا يعاقب عليه القانون باعتباره عملًا من أعمال التخريب.
فضيحة مجانية
المؤكد أنه ليس من مهمة رجال أمن السفارات والدبلوماسيين في الخارج الاشتباك مع المتظاهرين خارج مقرات البعثات، لأننا لن نقبل بذلك في مصر.
هل يمكن تصوّر أن تسمح الدولة لأمن سفارة بلد غربي بالخروج من مقره والاعتداء بالضرب على مواطنين مصريين؟ هذا انتهاك سافر لسيادة الدولة وأجهزتها على أراضيها، مع الوضع في الاعتبار أن التظاهر ليس مسموحًا لنا من الأساس.
وإذا شعرت أي سفارة أجنبية في مصر أو خشيت من تهديد ما لمقرها، فإنها ستطلب وفق القانون الحماية من السلطات المحلية. بل وحتى في غياب الحماية من السلطات المحلية لا يتدخل حرس السفارات. ولنا أسوة بما حدث عندما حاصر متظاهرون مصريون السفارة الأمريكية وأتلفوا سورها واقتحموه ونزعوا العلم وأحرقوه في الشارع خلال اشتباكات مع الأمن المصري امتدت لأيام في سبتمبر/أيلول 2012. وأيضًا قبلها بسنة، مع "اقتحام" متظاهرين مصريين مقر السفارة الإسرائيلية في سبتمبر 2012.
ولكن ما رأيناه في أزمة السفارات المصرية أن الوزير الوطني المخلص عبد العاطي، بدلًا من أن يوجه السفراء بالتوجه رسميًا للدولة المضيفة إذا شعروا بالتهديد؛ قرر زيادة عدد أفراد الأمن المصريين في الخارج، وهدد بتخفيف الحراسات عن سفارات الدول الأخرى في مصر. وعلى سبيل "قرص الودن"، سمحت مصر بـ"مظاهرة "عفوية"، لم تُجهَض ولم يُسجَن بسببها أحد، في حي الزمالك أمام سفارة هولندا، في بلد لا يجرؤ فيه أحد على التظاهر.
اعتبر عبد العاطي أن الدول التي "سمحت" بتنظيم المظاهرات أمام سفاراتنا في الخارج مشاركة في تشويه سمعة مصر، رغم أنه يعلم أن منع التظاهر في الدول الديمقراطية ليس من صلاحيات السلطة التنفيذية.
كما أن العقل المبدع الذي فكر في حشد شباب مؤيد للنظام للتظاهر المضاد أمام سفاراتنا في الخارج، والاشتباك اللفظي مع من يرددون المزاعم الكاذبة بشأن مشاركة مصر في تجويع غزة، زاد الطين بلة وجعل الفضيحة على صفحات السوشيال ميديا بجلاجل.
صرفت إدارة عبد العاطي لأزمة السفارات انتباه الإعلام الدولي عن المواقف المصرية الواضحة بشأن حرب الإبادة في غزة، إلى الحديث عن عدم قدرة النظام المصري على تحمل ضغط وقفات محدودة أمام سفاراته، في امتداد لسياسته الداخلية التي لا تسمح بالتظاهر أو التعبير بحرية عن الرأي.
ربما هناك قطاع من المؤيدين للنظام معجب بالنهج غير الدبلوماسي للوزير الشعبوي ابن البلد عبد العاطي، الذي أراد أن يعبر عن خالص ولائه للنظام، كما هو معروف عنه منذ أن تولى منصب سفير مصر لدى ألمانيا.
لكن المؤكد أن الوزير يمارس مهام منصبه وهو يرتدي قبعتين؛ الأولى للدبلوماسي والثانية لأمين الشرطة، أو على حد تعبير صلاح جاهين بلسان سعاد حسني "ما تقولش أمين شرطة اسم الله ولّا دبلوماسي". لكن لسان حالنا يقول "خلي بالك من عبد العاطي"، الذي يبدو أن لديه طموحًا في تولي منصب رفيع في وزارة الداخلية بعد أن ينهي مهمته وزيرًا غير دبلوماسي للخارجية المصرية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.