
هدية رودريجيز لأنصار إسرائيل وترامب
لو أنك من أنصار نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث، فلن تجد حبكةً أفضل من اغتيال اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية الشباب في قلب العاصمة واشنطن على يد شاب يساري راديكالي أمريكي، بالتزامن مع عودة الحركة الاحتجاجية في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية إلى الواجهة مجددًا، وتوجيه الحكومات الغربية انتقادات وتهديدات لدولة الاحتلال هي الأشد قسوة منذ بدء الحرب.
فقبل يوم واحد فقط من عملية الاغتيال، كان هناك فيضان من القرارات والبيانات الحكومية الأوروبية التي تدين الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على أكثر من مليوني فلسطيني لدفع حماس إلى الاستسلام لشروطها لوقف النار، وتصفه بما هو عليه من مخالفة فاضحة لكل القوانين والمواثيق الدولية.
فمن جهة، أعلنت بريطانيا تجميد محادثات اتفاقية للتجارة الحرة مع إسرائيل، ومن جهة أخرى قرر الاتحاد الأوروبي مراجعة اتفاقية الشراكة القائمة مع تل أبيب، بالإضافة لبيانٌ غير مسبوق في حدته صدر عن بريطانيا وفرنسا وكندا يحذر الحكومة الإسرائيلية "من عواقب ملموسة" في حال لم توقف الحرب وتسمح بدخول المساعدات.
كما زادت بشكل ملحوظ تقارير وسائل الإعلام الأمريكية التي تتحدث عن "إحباط" ترامب من نتنياهو، وأنه لم يعد يهتم باستشارته في القرارات المهمة المتعلقة بالشرق الأوسط، وتحديدًا فيما يتعلق بالاتفاق مع الحوثيين والمفاوضات مع إيران، وقبلهما التفاوض المباشر مع حماس ورفع العقوبات عن سوريا.
وأقر نتنياهو وقت إعلان قراره بإدخال كميات محدودة جدًا من المساعدات إلى القطاع، قبل يوم من عملية اغتيال الدبلوماسيين الإسرائيليين في واشنطن، أن أصدقاء مقربين منه في مجلس الشيوخ الأمريكي نصحوه بالإسراع في إدخال المساعدات لتجنب تعريض الفلسطينيين للمجاعة، وإلا واجهت إسرائيل ضغوطًا قد تعيقها عن استكمال مهمتها في القضاء على حماس.
هدية من السماء
ثم جاءت عملية الاغتيال بمثابة هدية من السماء لنتنياهو وأنصار اليمين الصهيوني داخل الولايات المتحدة، والكثير منهم من داعمي ترامب. وكما هو متوقع؛ سارعت إسرائيل إلى إقامة مناحة عاطفية ولعب دور الضحية الذي تجيده، وحمَّلت قادةَ الدول الأوروبية، الذين كانوا أصدروا للتو البيانات والتحذيرات بسبب جرائم إسرائيل في غزة، المسؤولية عن نمو معاداة السامية التي أدت في النهاية إلى حادث الاغتيال النادر في واشنطن.
أصرت إسرائيل وداعموها في الولايات المتحدة على أن الدبلوماسيين قُتلا لأنهما "يهود"، وفي إطار موجة متصاعدة لمعاداة السامية، وليس لأنهما مسؤولان إسرائيليَّان يعملان لحساب حكومة ترتكب جرائم حرب، فلا جرائم هناك من الأساس.
تجاوز رودريجيز حدًا فاصلًا في التعبير عن غضبه بارتكاب جريمة ستؤدي للأسف لانتكاس حركة دعم فلسطين
ولأن مرتكب جريمة القتل، إلياس رودريجيز، هتف وهو يسلِّم نفسه "الحرية لفلسطين"، سارع أنصار إسرائيل والرئيس ترامب إلى الربط بينه وبين احتجاجات الجامعات الأمريكية التي ترفع الشعار نفسه منذ سنتين، واستغلال ذلك في معركته لقمع حرية الرأي في الجامعات، بزعم أنها تدعم الأنشطة الإرهابية.
بالفعل، قررت إدارة ترامب في اليوم التالي للهجوم حرمان جامعة هارفارد العريقة من حق قبول الطلبة الأجانب، ومنحهم تأشيرات إقامة في الولايات المتحدة، ما سيتسبب في خسائر مالية فادحة للجامعة، خاصة بعد قرار سابق اتخذه ترامب بحرمان الجامعة من مِنح فيدرالية حكومية بقيمة ملياري دولار لرفضها الانصياع لمطالبه بمراجعة برامجها الأكاديمية، ووضع قيود على الأنشطة الطلابية الداعمة لفلسطين بزعم معاداتها للسامية.
ورغم حصول هارفارد على حكم قضائي مستعجل بتعليق قرار ترامب حتى الفصل في القضية، فإن اغتيال الدبلوماسيين الإسرائيليين ألحق، دون شك، ضررًا فادحًا بالحركات الداعمة لفلسطين في الولايات المتحدة، بعد أن برزت كقوة ضغط مؤثرة إلى حدٍّ ما، خاصة في حقبة الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن، وستؤدي إلى تراجع أنشطتها ولو لفترة مؤقتة في مواجهة الآلة الدعائية الأمريكية الداعمة لإسرائيل.
مناحة إسرائيلية
لعل من أكثر ما يثير المرارة والحزن في ردود الفعل الأمريكية على الاغتيال، هي تلك المناحة التي أقامها السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة يحيئيل لايتر، كون الضحيتين شابين في مقتبل العمر على وشك الزواج، قبل أن تقتلهما رصاصات رودريجيز، الذي أشارت التقارير إلى سجله الطويل في عضوية منظمات أمريكية يسارية متطرفة، تبرر العنف وتراه أمرًا مشروعًا في مواجهة الديكتاتورية والاحتلال والرأسمالية المتوحشة.
بينما السفير الإسرائيلي لايتر من مواليد الولايات المتحدة، أي أنه أمريكي/إسرائيلي، وانتقل للإقامة هناك بعد انضمامه لعضوية منظمة "عصبة الدفاع اليهودية" بقيادة الإرهابي مائير كاهانا، ليزامل هناك وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير. وأصبح لايتر من قيادات حركة الاستيطان في الضفة الغربية، ولقي ابنه مصرعه أثناء القتال في غزة بعد شهر من اندلاع حرب السابع من أكتوبر.
لم تصل مأساة الطبيبة الغزاوية آلاء النجار التي فقدت تسعة من أبنائها في قصف جوي الجمعة الماضي لمسامع الإعلام الأمريكي الذي التقط المشاعر الإنسانية المرهفة للسفير الإسرائيلي وأقام المناحة على أرواح القتيلين بعد أيام فقط من تقديم العريس عرض وخاتم الزواج لعروسه. لم يلتفت المنوحون لاستقبال الأم أثناء عملها في المستشفى جثث أطفالها التسعة أشلاءً، أو لأن هناك أسرًا بأكملها من آباء وأمهات وأبناء وأجداد مُحيت بالكامل في قصص أكثر مأساوية وفظاعة.
أطفال الدكتورة آلاء بالنسبة للسفير لايتر وأنصار إسرائيل ليسوا بشرًا. هم ضحايا حماس التي يختبئ مقاتلوها في المستشفيات وبالتالي لا يحرك مصرعهم المشاعر، كما لا تحركها صور موت الفلسطينيين جوعًا واختناقًا وهم يحاولون الحصول على ربطة خبز عبر فتحة ضيقة. وسواء قُتِل 50 ألف فلسطيني أو مائة ألف، ولو فُرِّغ القطاع بالكامل من سكانه وأُجبروا عن النزوح لا مشكلة بالنسبة للسفير وأمثاله، فكل ذلك مبرَّر، عقابًا على السابع من أكتوبر.
رودريجيز اليساري الحالم الذي أصابه الارتباك بعد ارتكابه لجريمته وأخذ يرتجف أثناء تسليم نفسه للشرطة، قال في رسالة انتشرت بعد القبض عليه، إنه لا يمكنه الاكتفاء بالقول إن من يرتكبون جرائم القتل بحق الفلسطينيين في غزة قد تخلوا عن إنسانيتهم، حيث يمكن أن يكون مرتكب أعتى الجرائم إنسانًا مع أفراد أسرته وأبًا أو صديقًا جيدًا في حياته اليومية، مؤكدًا أن ما تقوم به إسرائيل سياسة متعمدة لا يمكن مواجهته إلا بعنف مماثل.
وفي الوقت الذي قال فيه رودريجيز في خطابه وللشرطة إنه تأثر بالمجند الأمريكي آرون بوشنيل، الذي أضرم النار في جسده أمام مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن العام الماضي، احتجاجًا على جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وكان يهتف أيضًا "الحرية لفلسطين". فإنه، أي رودريجيز، تجاوز بدوره حدًا فاصلًا في التعبير عن غضبه والتخلي عن إنسانيته، بارتكاب جريمة قتل عشوائية ستؤدي للأسف إلى انتكاس حركة دعم فلسطين في الولايات المتحدة، في وقت يسيطر فيه المتطرفون من أنصار إسرائيل على الكثير من مفاصل إدارة ترامب الحالية، وفي ظل إعلام اعتاد تقليديًا الانحياز لإسرائيل ظالمة دائمًا وأبدًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.