برخصة المشاع الإبداعي: Elvert Barnes، فليكر
وقفة لتكريم اسم الجندي الأمريكي آرون بوشنيل الذي أضرم النار في جسده أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن رفضًا لدعم بلاده الإبادة الجماعية في غزة. واشنطن 26 فبراير 2024

آرون بوشنيل وملايين الأجساد التي تحترق مثله

منشور الخميس 29 فبراير 2024 - آخر تحديث الخميس 29 فبراير 2024

منذ ثلاثة أيام، أضرم آرون بوشنيل النار في نفسه حتى الموت أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن. المواطن الأمريكي الشاب كان عمره 25 عامًا، مهندس من تكساس، أبيض البشرة، وطيار في سلاح الجو.

أكثر من مرة حاول بوشنيل إشعال ولاعته في البنزين الذي ألقاه على بدلته العسكرية، ولم ينجح. قبلها بلحظات كان متحفزًا وهو يقول إنه سيقدم على "أشدِّ أشكال الاحتجاج تطرفًا"، احتجاج لن يكون بعده مشاركًا كعسكري أمريكي في إبادة جماعية ضد المدنيين. ولما اشتعلت الولاعة وبدأت النيران تلتهم جسده، هتف آرون محترقًا ومتألمًا "عاشت فلسطين.. يسقط الاحتلال". 

ثلاث ثوانٍ على الأكثر، كانت النيران ممسكةً بأنسجته الداخلية، فأصبح عاجزًا عن تكرار الهتاف لفلسطين ولم يبقَ منه إلا الصراخ. لحظتها اقترب منه عدد من أفراد الشرطة، واندفع نحوه مسعف أسود البشرة وهو يصرخ طلبًا لطفاية حريق، فيما وجه شرطي أبيض مسدسه نحو جسد بوشنيل المنتصب اشتعالًا، باحترافية وبرود متحفز، فصرخ المسعف الأسود فيه قائلًا "أريد الآن طفاية حريق وليس أسلحة!". 

كان الجسد الذي يشتعل هتاف الحرية من داخله وكأنه خطر، يستحق أن يستلَّ شرطيٌّ مسدسه ضد صرخة رجل يحترق. هؤلاء الرجال الثلاثة؛ المُحترق والمُسعف والشرطي، هم الولايات المتحدة بتلخيص كئيب. 

أما فلسطين في هذا المشهد فلم تكن فلسطيننا، ليست هي القضية العربية وليست القدس، بل ليست الاحتلال كما نفهمه، بل كانت هنا المحك الذي يفصل الإنسانية عن البربرية، يفصلها عن فنائها المحتمل، جدًا. 

البلد الذي أحرق فيه بوشنيل نفسه

أدرك بوشنيل ذلك ومعه كثيرون، لذا أقدم على فعله هذا ليذكِّر من سيشاهدونه أنَّ جسده المحترق هذا واحدٌ من أجساد كثيرة تحترق وستحترق من أجل مصالح "الطبقة الحاكمة"، كما قال في بيانه الاحتجاجي أمام الكاميرا. ملايين الأمريكيين مثل بوشنيل؛ باتوا يُدركون الآن حقيقة ما تفعله آلتهم العسكرية الإمبريالية الجبارة بكوكب الأرض، وكيف يرتهن أغنياء بلدهم مصير البشرية كلها بعربدة واستهانة. 

لا يمكنني الحديث عن بوشنيل كفرد أو إنسان. أنا لا أعرف قصته ولا تاريخه الشخصي والنفسي، ولا تفاصيل أيامه الأخيرة التي سبقت لحظته الملحمية هذه.

ولن أشارك زرائب الفردانية التي انطلقت حلاليفها على السوشيال ميديا الأمريكية، تخوض في تحليل دوافع بوشنيل كفرد، وتطرح الأسئلة عن أخلاقية الاحتفاء بانتحار إنسان، ثم وصمه بالمرض النفسي والعقلي، وأخيرًا شكواهم من الضرر النفسي الذي أصابهم عندما شاهدوه.. إلى آخره من قيء أناني خرج لتوه من معدة النيوليبرالية الأمريكية وقيمها وأخلاقها. 

لكنَّ ما أعرفه وبإمكاني الحديث عنه، هو أنَّ آرون بوشنيل جزءٌ من جماعة بشرية وإنسانية تمر بمنعطف تاريخي حساس ومرير، يمكن أن يدفع أيًّا من أفرادها إلى سلوك كهذا. ما أعرفه أنَّ أمثال آرون بوشنيل من فتية أمريكيين، يلتحقون بالجيش لأنه قادر على دعم وتغطية نفقات تعليمهم في الجامعات، خاصة وأنَّ أغلبهم من البسطاء ومحدودي الدخل، وكثير منهم بيض البشرة. 

غالبية أفراد الشعب الأمريكي في غاية الطيبة واللطف قياسًا بباقي الشعوب الغربية، ربما لأنهم الشعب الأكثر تعرضًا لقسوة الضغط اللاهث خلف لقمة عيش غير آمنة في سوق شرسة لا ترحم، مما يجعل البشر في خضم منافستهم الشرسة يدركون ضعفهم الإنساني وانكسارهم أمام المنظومة الكلية. 

فأمريكا بلد لا يعترف بحق الإنسان العامل في الشعور بالأمان، بل يستثمر في مخاوفه ويجعلها دافعًا لتسريع عجلة الإنتاج. عدم الشعور بالأمان هو سمة المنافسة الشرسة التي تخلق مفترسين وفرائس في الغابة الأمريكية الفخورة بشراستها. هكذا يفهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب العالم، وعلى المبدأ نفسه سيعود على الأرجح إلى المكتب البيضاوى مرة أخرى بعد أقل من عام. 

الفقر والتعاسة في الولايات المتحدة بشرتهما سوداء، ذلك أنَّ معدلات الفقر بين السود هي الأعلى مقارنة ببقية الأمريكيين. لكن علينا أن نأخذ في الحسبان أنَّ نسبة السود في الولايات المتحدة لا تتجاوز 15%، فيما ثلثا الأمريكيين على الأقل من البيض. لذلك فعندما نتحدث عن أزمات اقتصادية واجتماعية كلية وخانقة وممتدة منذ 2008، فإنَّ أثرها على البيض الأمريكيين سيكون حاسمًا. ومع إفقار الملايين منهم، سيشكّلون هم أغلبية الكادحين كرقم مطلق.

جرائم سياسات التمكين

في هذا الصدد، لعبت سياسات الهوية التمكينية للأقليات، والمعادية عنصريًا للبيض، دورًا تضليليًا في هذا الشأن على مر عقدين من الزمان، عندما اعتبرت البيض الأمريكيين بالكلية فئة صاحبة امتيازات مقابل الأقليات الأخرى، بسبب العنصرية المتأصلة في المجتمع. 

المبدأ الأساسي للذهنية الليبرالية الأمريكية المتمكنة من صناعة القرار منذ بداية التسعينيات هو الإتمام والاكتمال. أي أن تتمم وتكمل على البشرية دينها الجديد. وهي تنطلق من بديهية بلهاء بأنَّ المتن الأمريكي سليم ومتعافٍ ومتحقق، وبالتالي فدورها التاريخي الجديد كأيديولوجيا مهيمنة هو تمكين الهامش وإلحاقه بالمتن السعيد الذي لا تساورنا ذرة شك في سعادته وتحققه. 

أدركت الأجيال الجديدة أن الحلم الأمريكي لا يعدها بأكثر مما وعد العمال اليدويين في أزمنة الاستغلال الرأسمالي

هذه الفكرة من ملحقات فكرة نهاية التاريخ؛ المصطلح الذي صُكَّ في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وبموجبه تكون مهمة الإمبراطورية الأمريكية المنتصرة أن تضع الماسكات الأجمل فوق التاج الذهبي المرصع بالأحجار الكريمة. 

أمريكا عظيمة بالفعل والعالم عظيم وسعيد في ظل قيادتها. ستسعى إلى تمكين المرأة محليًا عبر مجموعة من الحيل الخطابية والإجرائية التافهة التي لم تشتبك أبدًا بجدية مع مظالم المرأة الأمريكية الحقيقية، لننتقل بعدها إلى تمكين السود بجعل أحد وجوههم السياسية الصاعدة رئيسًا للجمهورية، وهذا الرئيس بدوره سيُمكِّن المثليين عبر تقنين زواجهم، لنجد أنفسنا بعد أعوام قليلة في مرحلة رفع أعلام العابرين جنسيًا فوق المباني الحكومية في الولايات.

هذه الذهنية الليبرالية الإتمامية المغرورة، التي اعتبرناها بلهاء وغائيّة قبل عشر سنوات، نرى اليوم كم هي شريرة ومجرمة وهي تمارس ما تمارسه بوعي ونية وإرادة.

هؤلاء الليبراليون المجرمون انتحلوا موقع اليسار بما اعتبروه سياسات مساواتية، فيما تعاظمت في ظل هيمنتهم مستويات اللامساواة الاجتماعية، حتى صار الأصل في سكنى المدن هو مشاركة الشقق بين متوسطي الدخل. وفي المقابل، مكَّن هؤلاء الليبراليون المزيفون اليمين والقوى المحافظة من الاستيلاء على السؤال الاجتماعي وهمومه لدى نسبة كبيرة وغالبة من الشعب الأمريكي؛ الطبقة العاملة البيضاء. 

ولم يكتفوا بذلك، بل أشعلوا عدة حروب إمبريالية باسم عالمية تصوراتهم الليبرالية التي لم يجعلوها، ولو للحظة، محل سؤال أو تشكيك، بينما يتكثف الآن في فلسطين تهافت خطابها وانحطاطه، لنجد جميلات جيش الدفاع يعلنَّ سعادتهنَّ بقتل الأطفال باسم تمكين المرأة، وهيلاري كلينتون تتحدث عن الفلسطينيين الذين استخدموا سلاح الاغتصاب كحرب ممنهجة، لترد عليها القاعة الغاضبة بأنَّ الضحايا المؤكدين لزوجها وحده أعلى مما تدعيه بشأن الفلسطينيين أجمعين. 

تتعمق أزمة الرأسمالية في العالم، ويتعمق الصراع داخل المُركَّبات الرأسمالية الأمريكية ذاتها، حتى صارت صراعاتها صفرية وتهدد الاستقرار السياسي والضمان السلمي لانتقال السلطة التي تفتخر الولايات المتحدة باستمراره عبر قرنين ونصف القرن من الزمان. 

تئن قطاعات معتبرة من الشعب الأمريكي تحت وطأة الحياة اللاهثة التي لم تعد تعوض الإنسان عن جهده الخرافي المبذول في ماكينة العمل والاستهلاك الجبارة، وبالتدريج أدركت الأجيال الجديدة في عمر آرون بوشنيل أنها ولدت وعاشت في خدعة كبرى، وأنَّ الحلم الأمريكي لا يعدها بأكثر ما كان يعد العمال اليدويين في أزمنة الاستغلال الرأسمالي القاسية، مهما حملوا شهادات ومستويات أفضل من التعليم. 

هناك تناقض عميق لدى الأمريكيين بين تصوراتهم المتوهمة عن اكتمال حرياتهم الفردية ونموذجية حرياتهم العامة من جهة، ومن جهة أخرى نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يستلبهم بقسوة داخل ماكينته، بإرادة عقائدية مغروسة في صلب النظام التعليمي والتربوي، وهيمنة أيديولوجية جاثمة على الصدور بقوة الخوارزميات وسرعة دوران الانتباه.

مشهدية انتحار آرون بوشنيل تجعلني أشعر أن اللحظة التى سيدرك فيها الأمريكيون عمق هذا التناقض، ستجعلهم ربما يشعلون النار في أنفسهم وفي العالم كله. وربما هي فرصة تغيير ثورية غير مسبوقة. 

بالطبع ليست فلسطين كل شيء، ولكنها الشيء الذي تتكثف فيه الآن بقية الأشياء.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.