برخصة المشاع الإبداعي: i support street art
جرافيتي لدونالد ترامب

حرب ترامب التجارية.. نهاية حتمية لطريق مسدود

منشور الأربعاء 4 يونيو 2025

في أغسطس/آب من عام 1971، خرج علينا ريتشارد نيكسون، رئيس الولايات المتحدة، ليعلن إلغاء ربط الدولار بالذهب. خطوة فردية لا يفعلها إلا من قرر أن يكسر اللعبة بدلًا من أن يخسرها. جبان؟ ربما. عبقري؟ قد يظنه البعض كذلك. لكنه بالتأكيد وضع العالم بأسره، خاصة الغرب، على مسار جديد.

ما جرى في السبعينيات كان بمثابة المحاولة الثانية لإنقاذ الرأسمالية الأمريكية بعد محاولة روزفلت الأولى في "الاتفاق الجديد" خلال الثلاثينيات. استعادة هذا التاريخ أمر مهم لفهم ما يفعله دونالد ترامب اليوم. 

تمثل سياسات الحماية الجمركية العنيفة التي يتبعها ترامب منذ ولايته الثانية، أو الحرب التجارية، تحولًا صادمًا في السياسات الأمريكية، لكنه ليس مثل سابقيه. فهو يرفع شعار إنقاذ الرأسمالية بينما في جوهره يقودها لمصير تعيس.

التحالف المقدس بين أوروبا وأمريكا 

عندما كان كل شيء يصوَّر بالأبيض والأسود، والحرب العالمية الثانية تلفظ أنفاسها الأخيرة، اجتمع مجموعة من الاقتصاديين في فندق بمنطقة تدعى بريتون وودز  في 1944، وهو مكان غير مهم ولكنه سينال شهرة واضحة ويصبح عنوانًا لمرحلة إنقاذ الحضارة الغربية من مشاكلها المتعددة بسبب الحرب، وسيخلق تحالفًا مقدسًا سيدوم لعقود بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

صورة من مؤتمر بريتون وودز 1944

نتج عن مؤتمر بريتون وودز إنشاء صندوق النقد الدولي/IMF والبنك الدولي للإنشاء والتعمير IBRD، الذي سيصبح لاحقًا البنك الدولي، لتوفير الدعم المالي والفني للدول في جهود إعادة الإعمار والتنمية اللازمة بعد الحرب. في تلك اللحظة، تم تحديد الدولار الأمريكي كعملة احتياطية رئيسية مع ربط العملات الأخرى به، مما عزز من هيمنة الولايات المتحدة اقتصاديًا.

كان ذلك من أذكى المناورات السياسية التي قامت بها الخارجية الأمريكية، فتحالفها مع أوروبا الغربية كان ضروريًا لمواجهة الدب الروسي وسوفيتاته الشيوعية، خاصة وأن الحركات الشيوعية، بما فيها الحزب الشيوعي الأمريكي، تمتعت خلال العقود الأولى من القرن الماضي بشعبية جارفة.

وسعت الولايات المتحدة لمنافسة شيوعية ستالين بدولة رفاه كبيرة متدخلة في الاقتصاد، مدعيةً أنها ليست أقل سخاء منه في توفير الحماية الاجتماعية لمواطنيها، لكنها تتميز عنه بالحريات أيضًا، ولهذا السبب اختارت أوروبا الغربية التحالف معها.

حرب فيتنام وصعود النيوليبرالية

هو تشي منه أول رئيس لجمهورية فيتنام الديمقراطية

في السبعينيات، ومع الأزمات المتلاحقة، بدأ صبر الرأسماليين ينفد، وظهر مسيح جديد للرأسمالية يُدعى ميلتون فريدمان مبشرًا بعقيدة جديدة عُرفت لاحقًا باسم النيوليبرالية. آمن فريدمان بأن السوق تعرف أفضل من الدولة، وأن الحرية الاقتصادية تساوي الحرية السياسية، وساهمت الحرب الفيتنامية في خلق زخم ملائم لصعود هذه الأفكار وسيادتها لأمريكا وأوروبا الغربية خلال العقود التالية.

كيف أخفقت الولايات المتحدة في حرب فيتنام لهذه الدرجة المزرية؟ وأين ومتى أدركوا أن هذه حرب لا يمكن الانتصار فيها؟ لم تكن الولايات المتحدة مستعدةً لخسارة مُذلة أخرى مثل خسارة حرب الصين الأهلية التي انتهت بصعود الشيوعية الصينية للحكم، ولكن القائد الفيتامي هو تشي منه نجح في مقاومة كل المحاولات الأمريكية من أجل تحييد تلك الجغرافيا الصغيرة، وخسرت بسببه الولايات المتحدة ليس فقط كرامتها، بل صار اقتصادها على المحك.

خلقت هذه الهزيمة سياقًا مناسبًا لصعود الفكر الاقتصادي الجديد، لأنه ومع خسارة الأيديولوجية الأمريكية وسياستها الخارجية في شرق آسيا، سادت قناعةٌ بأن الولايات المتحدة تحتاج لتغيير من نوع جديد.

وكل تلك الأحداث تتصل اتصالًا مباشرًا بالقنبلة التي فجَّرها ترامب في وجوهنا، التي تُدعى MAGA، أو "فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".

الهروب إلى آسيا في الثمانينيات

ما لم يحققه نيكسون، قام به ريجان وحليفته على الجانب الآخر من الأطلسي مارجريت ثاتشر، التي كانت تحمل نوعًا من الاحتقار الدفين للحركة العمالية البريطانية. الاثنان معًا قادا تشكيل العالم الجديد، عالم ميلتون فريدمان القائم على اقتصاد السوق الذي يقرر اللعبة كيفما يشاء ووقتما يشاء.

كان ريجان من ناحيته مُطعَّمًا بأموال المسيحية الجديدة المعروفة باسم الإنجيليون المحافظون ممن ساندوا برنامجه الانتخابي، والذي كان أول من أطلق شعار MAGA/Make America Great Again قبل ترامب بأكثر من ثلاثين عامًا.

https://www.youtube.com/watch?v=zdzUvNagwOk

من المستحيل القضاء على العولمة بمعناها الثقافي لكن اقتصاد العولمة أمرٌ مختلفٌ، فهو يشبه الكائن الهوليوودي الغامض في فيلم The Thing الذي لا نستطيع رؤيته بأعيننا المجردة ولكنه يقتل شخصيات الفيلم واحدًا تلو الآخر، جيمس ديفيد فانس، نائب ترامب، كان واحدًا ممن أدركوا الأثر السلبي لهذه العولمة.

ربما لأن فانس أتى من المنطقة المعروفة باسم "نطاق الصدأ"، التي كانت القلب النابض للصناعة الأمريكية وفخرها لعقود في صناعات الصلب، التعدين، السيارات، وغيرها.

مع بداية العولمة الاقتصادية فرَّتْ العديد من الصناعات وانتقلت إلى جنوب شرق  آسيا، ليس فقط بحثًا عن العمالة الرخيصة، لكن عن العمالة المطيعة أيضًا، التي لا تقدر على ممارسة احتجاجات مماثلة لما شهدته الولايات المتحدة خلال العشرينيات. ففي الصين حيث حكم الحزب الواحد والقرار الواحد، الحكومة هي من تتخذ القرارات. 

بالتالي، أصبح حذاء نايكي يأتي من مصانع في مناطق مثل آسيا، والآيفون من الصين أو الهند. وبين يوم وليلة أصبحت شرق آسيا مصنع العالم كله وليس الولايات المتحدة الأمريكية فقط.

أما المواطن الأمريكي فله شراء السلعة فقط لا غير، أي أنه تحوَّل إلى مجرد مستهلك.

ماجا الجديدة وترامب

منذ زمن بعيد وترامب يحاول أن يكون شخصًا عظيمًا. يتحدث عن أمريكا العظيمة ويبيع قبعات "الماجا" المصنوعة في الصين، ويبيع حذاءً ذهبيًا مكتوبًا عليه اسمه ليس مصنوعًا في بلده، ومريدوه يرونه رجلًا عظيمًا ويشترون قبعاته وحذاءه القبيح. 

ساهم اليأس الذي يشعر به المجتمع الأمريكي في رواج أفكار ترامب، وشجع عليها أيضًا صعود اليمين في أوروبا بعد البريكست (انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي)، والأصوات التي تحمّل المهاجرين ورجل الأعمال جورج سوروس اللوم على كل وأي شيء.

كل هذا حدث ويحدث نتيجة للعولمة الاقتصادية بعدما انتزعت العولمة من المجتمع الأمريكي روح ومتعة العمل وحوّلته إلى مجرد مستهلك، انتشرت البطالة وزادت معدلات الفقر دون رؤية للمستقبل أو مشروع قومي يلتف حوله الناس.

اجتمع ترامب ونائبه فانس على تحقيق العظمة، وأن تستعيد الولايات المتحدة قيادة العالم، ولكن لكي تصبح أمريكا عظيمة كما يريدها ترامب عليها أن تغيِّر من نهجها مرة أخرى، وأن تصبح دولة أوتوقراطية، وهي كلمة أخرى للحكم الديكتاتوري، لأنه يرى النموذج الصيني والروسي الأكثر نجاحًا.

المشكلة أن الاثنين وجهة نظرهما صحيحة، فالرأسمالية الليبرالية التي أنتجت العولمة الاقتصادية وصلت لطريق مسدود. فالنظام الرأسمالي ينهار منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، وكل محاولات الرأسماليين الحاليين إنما هي محاولة للهروب للأمام حتى لا يتلقوا اللوم، فيسعون لخلق حالة زخم زائفة. وصلت الرأسمالية التي نعرفها لطريق مسدود نتيجة جرحها الذاتي/self-inflected wound. 

لقد أراد من "يملك" التخلص من الصداع العمالي، ومنع الدولة من التدخل في الاقتصاد، فانتهى به الحال إلى سياسات الحماية التجارية، التي سنرى آثارها المدوية على الولايات المتحدة في المدى البعيد.