
ترامب الذي يخشى على الدولار ويهدد مكانته عالميًا
في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي كرر الرئيس دونالد ترامب تهديده لدول مجموعة البريكس، التي تشمل بعض أكبر اقتصادات العالم مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل، بفرض رسوم جمركية بمقدار 100% في حال تخلت في تعاملاتها التجارية عن الدولار الأمريكي، وذلك في تعليقه على مبادرة إنشاء عملة موحدة لدول البريكس.
فما سر اهتمام ترامب بالاستخدام الدولي للدولار في التعاملات الخاصة بالتجارة والاستثمار الدولييَّن؟ والأهم هل تؤثر سياسات هذا الرئيس القلق على تآكل مكانة العملة على المدى الطويل؟
عملة وطنية تهيمن عالميًا
مبدئيًا ينبغي أن يدرك القارئ أن الدولار ليس عملة دولية أو عالمية بل هو عملة وطنية لكيان سياسي واحد له بنك مركزي واحد، هو الاحتياطي الفيدرالي، بما لا يجعلها تختلف كثيرًا من حيث المبدأ عن الجنيه المصري أو الروبية الهندي.
بالتالي فإن شيوع استخدام الدولار في المعاملات التجارية، بما في ذلك بين دول لا تتعامل مباشرة مع الولايات المتحدة، وكذلك في تدفقات الاستثمارات بشتى أنواعها، بما في ذلك الديون الخارجية، ينطوي على تناقض كبير كونه عملة وطنية تضطلع بدور دولي. ويتجلى هذا التناقض عند مقارنة نصيب الولايات المتحدة من التجارة العالمية بنصيب الدولار الأمريكي منها.
احتلت الولايات المتحدة موقع ثاني أكبر مُصدِّر للسلع في العالم عام 2022، بعد الصين بالطبع، بنصيب 17.5% من الصادرات العالمية، بينما كانت أكبر مستورد للسلع في العالم، تسبق الصين، بنصيب بلغ 14.6% بالسنة نفسها.
الصين أكبر اقتصاد مُصدر في العالم بدأ في التخلي عن الدولار في معاملاته التجارية مع غير الولايات المتحدة
ومع ذلك يبدو الدولار الأمريكي مهيمنًا على المعاملات التجارية الدولية، إذ بلغ نصيب الدولار من قيمة فواتير الصادرات في 2024 54%، فيما اقتصر نصيب اليورو على 30% فقط وللمفارقة لم يتجاوز نصيب الريمنيمبي الصيني 4%. تتجلى هيمنة العملة الأمريكية أيضًا في معاملات سوق العملات الدولية، التي بلغ نصيبها منها 88% في 2024 مقابل 7% فحسب للعملة الصينية.
بل ومما يزيد الأمر عجبًا أن الولايات المتحدة تعاني عجزًا بالغ الضخامة في الميزان التجاري بمعنى أنها تستورد بقيم أكبر كثيرًا عما تصدر، لا يقتصر ذلك على تجارتها مع الصين فحسب بل يمتد إلى تجارتها مع أغلب بلدان العالم، إذ كان العجز في الميزان التجاري الأمريكي أكثر من ضعف الفائض التجاري الصيني في 2022.
سر قوة الدولار
من أين إذن يأتي الدولار بقوته هذه التي لا تعكس لا الوزن النسبي للاقتصاد الأمريكي في الاقتصاد العالمي (24% في 2019 هبوطًا من 40% في 1960) ولا وضع الولايات التجاري العالمي؟
تكمن الإجابة في وزن الدولار في أسواق المال، سواء فيما يخص المعاملات المالية كالاستثمارات المباشرة والاستثمارات في المحافظ المتداولة على صعيد عالمي أو فيما يخص الأصول المالية المقومة بالدولار الأمريكي، التي بلغت في 2024 نسبة 64%، أي نحو الثلثين إلا قليلًا من الديون في العالم.
هذه السيطرة على المعاملات التجارية الدولية تجعل دولًا مثل الصين التي استطاعت أن تحقق فوائض دولارية كبيرة من معاملاتها التجارية لا تجد منفذًا لاستثمارها غير التوجه بها إلى أسواق المال العالمية، مثل نيويورك أو شيكاغو أو سان فرانسسكو أو في لندن وهونج كونج وسنغافورة، وهنا يكمن سر قوة الدولار.
تأثير حرب ترامب التجارية
يعود الوزن الهائل الذي يتمتع به الدولار بالأساس إلى ما يشبه التوافق الدولي على استخدامه في مختلف المعاملات، حتى مع تراجع الوزن النسبي للولايات المتحدة في جميع المجالات تقريبًا على مدى العقود الأربعة الماضية.
وهذه المكانة للدولار تعود بفائدة عظيمة على الاقتصاد الأمريكي، لأنها تمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في الاستهلاك فوق ما تسمح به إمكاناتها. وبما إنه عملة وطنية تصدر عن الحكومة الفيدرالية الأمريكية فإن الثقة في الدولار تعكس ثقة عالمية في الحكومة الفيدرالية، سواء في حفاظها على قيمته أو في الوفاء بالتزاماتها الدولية عند الحاجة، كونها أكبر حكومة مستدينة في العالم (بنحو 36% من إجمالي الدين الحكومي العالمي).
إن الثقة من عدمها في حكومة هي أمر سياسي لا اقتصاديًا ولا ماليًا. وهو ما ينقلنا إلى المشهد الحالي الذي يمثله صعود الرئيس ترامب، والتحول في اليمين الجمهوري الأمريكي، سواء فيما يتعلق بقضايا التجارة والتعاون الدولي أو ما يتداخل معها من قضايا الأمن الدولي والمصالح الجيوسياسية.
إذ إن التلويح باستهداف الشركاء التجاريين من قبل الولايات المتحدة برسوم جمركية، بما يخالف التزامات الحكومة الأمريكية، سواء بموجب اتفاقات منظمة التجارة العالمية أو اتفاقات التجارة الثنائية ومتعددة الأطراف، لهو باعث للقلق حول استقرار دور الولايات المتحدة والقواعد الحاكمة للتجارة الدولية، والتي للمفارقة هي من أرستها قبل عقود.
وبما إن التصعيد مع الصين خصوصًا يجري على خلفية احتدام الخصومة السياسية والعسكرية والتكنولوجية معها، فإن الصين باعتبارها أكبر اقتصاد مصدر في العالم قد تسرع إلى التخلي عن الدولار في معاملاتها التجارية مع غير الولايات المتحدة، وهو ما بدأ بالفعل على قدم وساق في بعض الأسواق المهمة مثل سوق البترول العالمي، خاصة مع تحولها إلى أكبر مستورد للبترول في العالم خلال السنوات الأخيرة.
لكن يظل القيد الذي يواجه الصين رغم وزنها التجاري الهائل كمصدر ومستورد وكشريك تجاري أول لأغلب بلاد العالم هو أن نظامها المالي ليس مفتوحًا أمام الاستثمارات العالمية، وهو ما يضعف من حوافز مراكمة فوائض تجارية بالعملة الصينية.
التنبؤ باستمرار هيمنة الدولار عالميًا من عدمه بات يرتبط بشكل كبير بمستقبل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فإذا تصاعدت المواجهة بين البلدين وبات ترامب يضيق الخناق عليها على غرار ما تم مع روسيا أو إيران فلن يكون أمام الصين من مخرج، وساعتها سينتهي في الأغلب دور الدولار الأمريكي العالمي بشكل كبير.
فهل يفعلها ترامب؟