يَعِدُ نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية بالمزيد من عدم الاستقرار في عالم مضطرب بالفعل، خاصة على الصعيد الاقتصادي، بما سيؤثر في فرص وشكل التبادل والنمو في السنوات القليلة المقبلة. ويتجلى ذلك بشكل كبير في المقاربة المختلفة التي سيتبناها الرئيس المنتخب تجاه الصين.
فمع تعاظم الصداع الصيني في رؤوس الأمريكيين، بعد النمو الهائل للاقتصاد الصيني خلال العقود الماضية، قطعت إدارة جو بايدن شوطًا مهمًا في السياسات الهادفة للحد من تطور قدرات الصين على تصنيع أشباه الموصلات أو الرقائق/microchips، التي تعتبرها واشنطن تهديدًا لأمنها القومي. وتكمن المفارقة في أن ترامب سيعطِّل على الأغلب، ورغم النبرة القومية الطاغية على خطابه، تطبيق هذه المخططات، ليمنح للصين فرصة للتقدم.
ولنضع الأمور في نصابها، فالولايات المتحدة والصين هما أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، بـ 26.1% و16.9% على التوالي. كما يستولي اقتصادا البلدين على النصيب الأكبر في التجارة العالمية، إذ أمست الصين أكبر قوة مُصدِّرة في العالم بنحو 14% من إجمالي الصادرات في 2022 في مقابل 9.6% للولايات المتحدة، التي تعدُّ في المقابل أكبر مستورد في العالم بواقع 13.2% يليها الصين بنحو 10.6%.
مخاوف أمريكية راسخة
لا تخفي الولايات المتحدة قلقها المتزايد من قوة وتنافسية الاقتصاد الصيني، خاصة أن الأخيرة حققت معدلات نمو مرتفعة طيلة العقود الأربعة الماضية، لتضاعِف نصيبها في الناتج المحلي الإجمالي للعالم سبع مرات من 2.5% في 1985، بعد سنوات قليلة من الانفتاح الاقتصادي، إلى 17.4% في 2020. في حين انخفض الوزن النسبي للولايات المتحدة من الناتج العالمي خلال الفترة نفسها من 34.6% إلى 25%.
الأهم من معدلات النمو أن الاقتصاد الصيني تمكن من ترقية مشاركته في التجارة العالمية، فبعد أن كان يعتمد على الصناعات كثيفة العمالة في الثمانينيات والتسعينيات، اتجه إلى الصناعات الثقيلة فالهندسية وأخيرًا الصناعات كثيفة التكنولوجيا والمعرفة، بما في ذلك قدرته على خلق شركات كبرى مثل هواوي وعلي بابا وتنسنت، قادرة على المنافسة عالميًا في قطاعات حساسة مثل الاتصالات وتكنولوجيا التمويل والتسويق عبر الإنترنت.
فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية قد يكون في صالح الصين، إذ سيعطل خطط الحد من هيمنتها على صناعة الرقائق
يتجاوز الوعي بصعود الصين وضرورات التصدي له الانقسام بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فهذه واحدة من المسائل القليلة التي تحظى بالاتفاق بينهما وإن كان هذا التوافق لا يمتد دائمًا إلى طريقة الحل. حدث ذلك عندما دعم الحزبان في الكونجرس قانون الرقائق والعلم/Chips and Science Act في يوليو/تموز 2022، حيث خصصت الولايات المتحدة 200 مليار دولار خلال خمس سنوات من أجل توطين هذه الصناعة ودعم الشركات المنتجة لها. لكن هذه المرة قد تختلف توجهات الإدارة الجمهورية الجديدة.
الحرب التايوانية
استهدفت واشنطن قطاع أشباه الموصلات الصيني لأسباب عدة، من بينها أنها من الصناعات القليلة التي لا تزال الشركات الأمريكية تحتفظ بتفوق واضح في تطوير وإنتاج التكنولوجيا الخاصة بها، كما يتجلى في عمل شركات مثل إنتِل وإنفيديا التي تهيمن على إنتاج التكنولوجيا الخاصة بأنواع متطورة جدًا من الرقائق اللازمة للذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلات/Machine Learning.
وأشباه الموصلات أو الرقائق هي فئة شاسعة من مكونات النظم الإلكترونية التي تدخل في صناعات عدة، كالهواتف الذكية والسيارات والكمبيوتر والبنى الأساسية للاتصالات والمعلومات ونظم الطيران والفضاء والأجهزة والآلات الصناعية والصناعات العسكرية المتطورة، وبالتالي فهو قطاع حيوي لعمل الاقتصاد العالمي خاصة مع محورية الاتصالات في أنشطة حيوية كالتمويل والنقل وإدارة سلاسل الإنتاج العالمية.
على أن الهيمنة الأمريكية على إنتاج تكنولوجيا الرقائق بالغة التطور لا تمتد إلى تصنيع الرقائق نفسها، وهي بدورها عملية كثيفة التكنولوجيا والمهارة ورأس المال، لكن غالبية أعمال تصنيعها تتم عبر شركة واحدة هي شركة تايوان لإنتاج أشباه الموصلات TSMC، التي تنتج وحدها نحو 60% في 2024، مع حضور لشركات يابانية وهولندية وبريطانية وكورية جنوبية في إنتاج التكنولوجيا الخاصة بتصنيع الآلات والأجهزة اللازمة لإنتاج الرقائق نفسها.
ويخشى الأمريكيون من نجاح المساعي الصينية في الاستحواذ على المعرفة اللازمة لإنتاج تلك الرقائق المتطورة، وبذلك تفقد الولايات المتحدة إحدى آخر قلاع تفوقها، خاصة وأنها تأتي بعد الصين وليس فقط في تصنيع التكنولوجيات، بل أيضًا في مجالات أخرى حيوية مثل الاتصالات والطاقة المتجددة، خاصة الشمسية والرياح والسيارات الكهربائية.
كما تخشى الحكومة الأمريكية من التهديد الصيني المباشر لتايوان، بتعطيل إنتاج أشباه الموصلات على مستوى العالم، ما سينعكس على قطاعات حيوية في الولايات المتحدة بما في ذلك الصناعات العسكرية.
ومن هنا كان تصدي إدارة بايدن للمسألة من خلال استصدار عدد من القوانين عبر الكونجرس، بجانب بعض الأوامر التنفيذية، للحد من الاستثمارات الأمريكية في الصين في قطاعات التكنولوجيا المتطورة، علاوة على توطين صناعة أشباه الموصلات داخل حدود الولايات المتحدة من باب حماية الأمن القومي.
كما استهدفت هذه التشريعات تقديم دعم مباشر وغير مباشر للشركات الأمريكية وغير الأمريكية، لاسيما التايوانية والكورية مثل TSMC وسامسونج، من أجل بناء مصانع على الأراضي الأمريكية في هذا المجال، بما يغير من وجه سلاسل القيمة العالمية عن طريق جعلها أمريكية في المقام الأول.
لماذا سيعطل ترامب خطة بايدن؟
ترامب ليس صديقًا للصين بأي حال، استنادًا إلى أداء إدارته في رئاسته الأولى، وإلى وعود حملة رئاسته الثانية. لكن رغم ذلك، لن يكون مُرجحًا أن يتبع نفس سياسة بايدن، لأنه يعبر عن مصالح مختلفة داخل المجتمع الأمريكي، وخاصة بين دوائر الشركات الكبرى ورجال الأعمال بالغي الثراء مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس.
والواقع أن كثيرًا من الشركات الكبيرة في الولايات المتحدة العاملة في قطاعات التكنولوجيا المتطورة، التي تعتمد على إنتاج أو استهلاك أشباه الموصلات، أو تحتل مواضع معينة في سلاسل القيمة المرتبطة بها، لم تكن متحمسة لخطط بايدن لارتفاع تكلفتها من ناحية، ولأنها تؤدي لخسارتها للسوق الصينية بالغة الضخامة من ناحية أخرى.
كما أن رجل أعمال مثل ماسك، لن يرغب في توسع الولايات المتحدة في سياسة دعم قطاعات محددة من الشركات، ما يزيد من تنافسيتها أمام شركات أخرى أمريكية أيضًا، ويفتح المجال لمنافسة أكبر في قطاعات تهيمن عليها شركات قليلة مثل قطاع السيارات الكهربائية الذي تسيطر عليه شركته تسلا.
وعبر ترامب عن تأييده لمصالح الشركات الكبرى عندما أعلن عن رغبته في إلغاء تلك المخصصات الداعمة للشركات.
كما أن ترامب مدفوعٌ برغبته في رفع القيمة السوقية لأسهم بورصة نيويورك، وهو ما قد يزيد من عدائه لخطط بايدن لتوطين صناعة الرقائق، إذ تؤثر هذه الخطط على نفاذ الشركات الأمريكية المنتجة للتكنولوجيا مثل إنفيديا وإنتِل إلى السوق الصينية، ما سيؤدي لضعف أدائها المالي في البورصة الأمريكية.
باختصار، فإن فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية قد يكون في صالح الصين، إذ سيعطل من خطط بايدن الدؤوبة للحد من هيمنتها على صناعة الرقائق، رغم أنه يرفع شعار أمريكا أولًا، لكنه يبقى أسير تصورات قصيرة المدى، تركز على فرض الحماية الجمركية في مواجهة تدفق السلع الصينية، مع غياب أي رؤية استراتيجية بعيدة المدى.