
هل تتحمل الصين حربًا تجارية طويلة مع الولايات المتحدة؟
أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الهدوءَ لأسواق المال العالمية بقراره الأخير تعليق تطبيق رسوم "يوم التحرير" لتسعين يومًا، الذي هدَّأ مخاوف إدخال التجارة العالمية في ركود.
لكنَّ تعليق التسعين يومًا لا ينهي الحرب التجارية أو حتى يعلقها ثلاثة أشهر كما يبدو للوهلة الأولى، لأنه يستثني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة؛ أي الصين، من هذه المهلة، ما يعني أن الرسوم الأمريكية بمستوياتها الفائقة عند 145% ما زالت مُطبَّقةً بالفعل على الصين في الوقت الراهن، عدا واردات الكمبيوترات والموبايلات وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي استثناها ترامب من رسوم جماركه.
الحرب التجارية لا تزال دائرة وبقوة بين العملاقين الأمريكي والصيني. وإلى اليوم، لا يبدو أيٌّ من الطرفين حريصًا على التفاوض لإنهائها؛ فبكين ردت بفرض رسوم على الواردات الأمريكية، والرئيس الصيني يكرر تصريحاته الرافضة لضغوط واشنطن.
وبينما تحاول أغلب التحليلات التنبؤ بقدرة الولايات المتحدة على المضي قدمًا في حربها التجارية، قليلًا ما يُنظر إلى الأمر من الزاوية الصينية، وما إذا كانت بكين قادرةً حقًا على مواجهة حرب ترامب ضدها.
اقتصاد قائم على التصدير
لنحلل القدرة الصينية على تحمُّل تبعات الحرب التجارية، علينا أن نأخذ في اعتبارنا أن قصة صعود اقتصادها مبنيةٌ بالأساس على النمو المدفوع بالصادرات، أي أن الحرب على التجارة الصينية تستهدف أكثر نقاط القوة في هذا الاقتصاد.
بالنظر إلى نسبة صادرات السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين، يمكن الوقوف على محورية الصادرات في هذا الاقتصاد، خصوصًا مع ارتفاعها بشكل مطرد من 8.7% عام 1986 إلى 21% في 2000 وصولاً إلى 36% عام 2006.
على المدى البعيد سيكون بمقدور الصين إعادة تركيب سلاسل القيمة والتوريد العالمية لمواجهة حرب ترامب
ومن المهم أيضًا أن نلتفت لقدرة هذا الاقتصاد على مواجهة تراجع الاقتصاد العالمي بمرونة كبيرة، فبدءًا من 2008 مع انفجار الأزمة المالية في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، تراجعت نسبة صادرات الصين بالقياس إلى ناتجها الإجمالي لتهبط إلى 24% في 2009، وتستمر في الهبوط حتى وصلت إلى 19.7% في 2023.
لكن رغم ذلك، لم تتوقف الصين عن النمو.
بلغت معدلات النمو السنوية 7% في المتوسط بين 2009 و2023 مقارنة بـ8% للفترة من 2000 إلى 2008، ما يعني أن بكين استطاعت توجيه إنتاجها للسوق المحلية بدلًا من العالم الخارجي.
تُعزى هذه المرونة في مواجهة الأزمة المالية العالمية لتغيرات عميقة جرت داخل المجتمع الصيني خلال سنوات صعود الاقتصاد، وهي نقطة قوة لصالح بكين تدعم موقفها في خضم حرب ترامب التجارية.
قوة المستهلك الصيني
تزايدت القوة الاستهلاكية في الصين تدريجيًا خلال العقدين الماضيين، فمن ناحية صَعد النمو الفائق والمتواصل بمتوسط دخل الفرد من 900 دولار عام 2000 إلى 12.6 ألف دولار في 2023، ما يعني أن مئات الملايين من الصينيين صاروا قادرين على التنافس الاستهلاكي مع أسواق يتصارع عليها كبار مصدري العالم.
من جهة أخرى، عززت قدرة الاقتصاد الصيني على تنويع مصادر النمو قوَّتَه؛ فصارت تشمل أنشطة مالية وتكنولوجية متقدمة مثل الاتصالات والمواصلات والخدمات المالية الإلكترونية وخدمات البيع والتسويق، حتى ارتفع نصيب الخدمات من الناتج المحلي الإجمالي من 48% في 2014 إلى 57% في 2024، ويكفي هنا التفكير في عمالقة الخدمات التكنولوجية مثل تينسنت وعلي بابا وبايدو، التي تعمل بالأساس داخل السوق الصينية.
تراجع وزن الولايات المتحدة
عند الحديث عن اعتمادية الصين على الولايات المتحدة، سنجد أنها صارت أكثر استقلالًا خلال السنوات الأخيرة، حيث تراجعت نسبة لصادراتها لهذه السوق من نحو 21% من إجمالي صادراتها في 2000 إلى 15% في 2023، وهي نسبة الصادرات الأمريكية نفسها إلى السوق الصينية تقريبًا.
لكن علينا الانتباه إلى أن ثمة بابًا خلفيًا تنفذ منه الصين إلى الولايات المتحدة، وهي الصادرات غير المباشرة التي تتم عبر دول أخرى، خصوصًا من جنوب شرق آسيا مثل فيتنام وكمبوديا، حيث تستكمل هذه الدول مراحل تصنيع السلع الصينية، خاصة في المجالات كثيفة العمالة مثل الملابس والأحذية ولعب الأطفال، وهناك تقدير بأن ما بين 5 و6% من القيمة المضافة للقطاع الصناعي الصيني تنتهي إلى الأسواق الأمريكية، وهي نسبة كبيرة خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار ضخامة الحجم النسبي للقطاع الصناعي في الاقتصاد الصيني.
على المدى الطويل الصين أقوى
باختصار؛ الحرب التجارية مكلفة للغاية لبكين، بالنظر لأنها لا تزال تعتمد على السوق الأمريكية دافعًا للنمو، لكن أوراق الضغط التي يمتلكها ترامب لا تكفي لإصابة الصين بالشلل أو لدفع هذا الاقتصاد نحو الانهيار.
لم تُغيِّر الصين قبلتها الأمريكية فقط خلال السنوات الأخيرة، لكنها أيضًا صارتْ أكثر اعتمادًا على التصدير لدول الجنوب العالمي، التي بلغ نصيبها من الصادرات الصينية 44% في 2023، حتى صارت بكين هي الشريك التجاري الأول لكل اقتصادات الجنوب، مع استثناءات قليلة كالمكسيك.
سيكون الجنوب العالمي بديلًا مهمًا يعزز من قدرة بكين على تحمل الضغوط الأمريكية، فنصيبه من الاقتصاد العالمي زاد من 40% في مطلع التسعينات إلى نحو 60% في 2022، مع تراجع الوزن النسبي الأمريكي من 40% في 1960 إلى 24% في 2020، ما يكشف أن الولايات المتحدة، رغم استمرارها أكبر اقتصاد في العالم، لم تعد هي المركز الوحيد للاقتصاد الرأسمالي العالمي.
صحيح أن لدى الصين الكثير الذي ستخسره في حربها التجارية مع الولايات المتحدة، خصوصًا وأنها صاحبة الفائض التجاري الأكبر في هذه العلاقة، ولكن الخسائر الاقتصادية المؤكدة ستحدث في المدى المتوسط. أما على المدى البعيد، سيكون بمقدور الصين لو استمرت حرب ترامب ضدها إعادة تركيب سلاسل القيمة والتوريد العالمية، وفتح مجالات للتصدير إلى بلدان الجنوب العالمي عوضًا عن الولايات المتحدة.
وما يعزِّز قدرة بكين على ذلك أن ترامب يتحرك بمعزل عن حلفاء بلاده التقليديين في الاتحاد الأوروبي واليابان، والأخيرة تظل شريكًا تجاريًا للصين، التي سيكون بإمكانها أيضًا أن تجد لبضائعها منافذ في سوقها المحلية.
في ظل الهيكل الحالي للاقتصاد العالمي، ستفضي على الأرجح محاولات الولايات المتحدة التصرف منفردة لتعديل قواعد التجارة كما تشتهي، إلى عزلتها عن العالم، فيما ستتعزز مركزية الصين.