
السوق في الدولة.. تحليل بديل لفهم حالة الاقتصاد الصيني
كيف يمكن لبلد من العالم النامي، يعاني الفقر والتخلف التكنولوجي، النجاح خلال عقود قصيرة في أن يصبح ضمن أكبر الرأسماليات العالمية؟
هذا السؤال الذي يهم مئات الملايين من الشعوب النامية، حاول الكثيرون البحث عن إجابة له في التجربة الصينية التي استطاعت مضاعفة نصيبها في الاقتصاد العالمي من 2% عام 1980 إلى نحو 20% في 2024.
الإجابة المتسرعة عن هذا السؤال هي أن الصين نزعت عن نفسها ثوب الاقتصاد الشيوعي في السبعينيات ولجأت للانفتاح الاقتصادي لتطلق قدراتها على النمو، وهي إجابة مستوحاة من أدبيات الاقتصاد الغربية التي تميل لتفسير كل قصص النجاح وفق نموذج السوق الحرة.
لكن ثمة إجابةً ثانيةً يقدمها لنا أستاذان في العلوم السياسية من الصين، مفادها أن الدولة لعبت دورًا أساسيًا في خلق المعجزة الصينية، التي لم تتبع النموذج السوفيتي ولا النموذج الرأسمالي التقليدي.
الحالة الفريدة للصين
لا تقدم لنا الصين نموذجًا مشابهًا للجمهوريات السوفيتية التي أُسقطت فيها تباعًا تماثيل لينين، وغيره من رموز سلطة الدولة المركزية، وهي تتحول سريعًا للنمط الغربي في نهاية الثمانينيات. فالحزب الشيوعي الصيني لم ينهر حتى يومنا هذا.
مع دخول القرن الحادي والعشرين تراجع وزن التعاونيات لصالح شركات القطاع الخاص
لا يزال هذا الحزب يلعب دورًا رئيسيًّا في التنسيق والإدارة بين الحكومة المركزية في بكين، وحكومات الأقاليم والمدن، وبعضها بحجم دول كبيرة مثل إقليم جواندونج الذي يعيش فيه 127 مليونًا، وشاندونج وخينان اللذين يعيش في كلٍّ منهما نحو مائة مليون شخص، وفق إحصاءات 2023.
بل إن التطور الاقتصادي للصين حدث بالتزامن مع تقوية شوكة الحزب الشيوعي. فمن ناحية بدأ الانفتاح الاقتصادي تدريجيًا في الصين عام 1978، في الوقت نفسه الذي كانت تعزز فيه الدولة من سيطرتها على الطبقات العاملة، ومعدلات تدفق الهجرة من الريف إلى المدينة، علاوة على احتفاظها بالكثير من شركات القطاع العام.
ويتجلى تحدي النموذج الرأسمالي التقليدي بوضوح في سيطرة الدولة الصينية خلال عقود الانفتاح على الجهاز المصرفي، وصولًا إلى إدارة استخدامات الأراضي لأغراض الاستثمار، بل وإدارة أصول شركات القطاع العام التي كانت تشكل نحو 39% من الناتج المحلي الإجمالي حتى 2015.
نحن إذن بصدد حالة يصعب فهمها باستخدام أدوات التحليل الآتية إلينا من الاقتصاد والاقتصاد السياسي التقليديين، وهما المجالان المعرفيان اللذان تشكلا في ضوء نشوء وتطور الرأسمالية في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية.
كان هذا بالتحديد هو التحدي الذي واجهه أستاذا العلوم السياسية يونجيان جينج ويانجي هوانج، وهما يؤلفان كتابهما العمدة السوق في الدولة: الاقتصاد السياسي للهيمنة، الذي صدر في 2018 عن دار نشر جامعة كامبريدج.
تحول شيوعي رأسمالي
في رأي الكاتبين، علينا لفهم النموذج الصيني استخدام أدوات تحليلية ومفاهيمية جديدة تُمسك بالمسار الخاص الذي اتخذته الصين في العقود الأربعة الماضية.
وينتهي جينج وهوانج إلى أن الصين قدمت نموذجًا جديدًا أطلقا عليه اصطلاح "السوق في الدولة"، بدايةً مع "السوق" توجد العديد من الدلائل على المنافسة الشرسة بين الشركات الصينية على الأسواق الداخلية أو الخارجية، بل إن هذا التنافس يبدو أكثر عنفًا من حالات في الولايات المتحدة أو أوروبا، التي تزعم أنها أكثر الاقتصادات تحررًا.
ولا شك هنا في أن الأسواق التنافسية هذه لعبت دورًا جوهريًا في جعل الكثير من الشركات الصينية قادرةً على المنافسة عالميًا، ومن ثَمَّ اكتسابها تلك المساحات الشاسعة في أسواق التصدير العالمية، مع القدرة على المنافسة بشكل متزايد في قطاعات ذات محتوى تكنولوجي مرتفع كالسيارات الكهربائية وأجهزة الاتصالات وغيرها من القطاعات.
لكن من جهة أخرى، فإن تحرير الأسواق في الحالة الصينية لم يأت على حساب دور الدولة، فهي الأخرى تملك شركات تستخدم من خلالها مواردها المقتطعة من استخدامات الأراضي وجباية الضرائب والنشاط المصرفي، وتعيد استثماراها في مجالات مثل البنية الأساسية.
يرى المؤلفان أن التحول الرأسمالي في الصين قادته الدولة؛ دولة الحزب الشيوعي للمفارقة. وأن هذا التحول في المجمل قام على تقسيم الأدوار بين الدولة بمؤسساتها المختلفة على المستوى المركزي والإقليمي من ناحية، والقطاع الخاص من ناحية ثانية، وقطاع التعاونيات الموروث من عصر ماو تسي تونج عندما خاضت الصين تجربة إنشاء المزارع الجماعية، من ناحية ثالثة.
الاقتصاد الإمبراطوري لا يحكم وحده
لم تبرز الشركات الخاصة للواجهة مرة واحدة في الصين، ولكن دورها كان يتنامى عبر مراحل مختلفة بشكل جعلها تنضج تدريجيًا حتى صارت مهيأة للعب الدور الذي نعرفه اليوم.
في الثمانينيات والتسعينيات اضطلعت التعاونيات بالجزء الأكبر من عبء الإنتاج الصناعي والزراعي مع تحرير قوى السوق، ومثلت هذه القاعدة العريضة للتخصص الصيني في الصناعات كثيفة العمل. وفي المقابل فإن القطاع الخاص ظل نسبيًا على الهامش، فيما احتفظت الحكومات المركزية والإقليمية بغالب شركات القطاع العام، رغم خصخصة شركات خاسرة.
مع دخول القرن الحادي والعشرين تراجع الوزن النسبي للتعاونيات لصالح أشكال أكثر وضوحًا من شركات القطاع الخاص، التي بدأت تتمدد إلى قطاعات كثيفة رأس المال مثل الآلات والسفن، ثم كثيفة التكنولوجيا كأجهزة الاتصالات والحواسيب. ولكن ظل دور القطاع الخاص منحصرًا إلى حد كبير على الشركات متوسطة وصغيرة الحجم، فيما احتفظت حكومات الأقاليم وكذلك حكومة المركز بالشركات الكبرى خاصة في مجالات البنية الأساسية والخدمات كالاتصالات وبالطبع الخدمات المالية.
انتهت الصين إذن إلى نموذج يجمع بين الملكية الخاصة والعامة، والأهم أن كليهما قادر على المنافسة بقوة في السوق العالمية، على عكس الاعتقاد الذي تروج له مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي، بأن الملكية الخاصة هي فقط الدافعة للنمو.
لماذا إذن لم تسحق الدولة القطاع الخاص في الصين وهي قادرة على المنافسة والبقاء؟
يرى الكاتبان في التجربة الصينية امتدادًا للنموذج الإمبراطوري السابق على الحداثة، الذي كانت سُلطة الدولة فيه تحظى بقدر كبير من المركزية ومن مهارة وكفاءة البيروقراطية، لكنها لا تستطيع حكم بلد بتنوع وحجم الصين بشكل مباشر. جعل ذلك الأباطرة تاريخيًا بحاجة للاعتماد على وسطاء، ويلعب القطاع الخاص هذا الدور الوسيط في الوقت الحالي.
ويعتبر المؤلفان أن الصين الحالية أشد مركزية وقوة من الإمبراطورية القديمة رغم انفتاحها على الاقتصاد الحر، كونها تتحكم في مفاصل هذا الاقتصاد عبر قنوات الحزب الشيوعي.
يستحق كتاب السوق في الدولة حتمًا الترجمة إلى اللغة العربية، لا لكونه يقدم عرضًا ثريًا ومُركَّبًا لتجربة التحول الرأسمالي في الصين خلال العقود الأربعة الماضية فحسب، بل أيضًا لإسهامه النظري الكبير في فهم حالات التحول الاقتصادي المتأخرة.