صفحة رئاسة مجلس الوزراء على فيسبوك
رئيس الوزراء ومديرة صندوق النقد الدولي في مؤتمر صحفى بالعاصمة الإدارية الجديدة، 3 نوفمبر 2024

الحياة بعد الصندوق والتفكير خارجه

منشور الأحد 14 أيلول/سبتمبر 2025

قبل أسبوع  أعلن رئيس الوزراء عن إطلاق برنامج اقتصادي لمصر تحت اسم السردية الوطنية، الذي اعتبرته العديد من التقارير الصحفية بمثابة استراتيجية لإدارة البلاد بعد انتهاء برنامج صندوق النقد الحالي. جاء ذلك في وقت وجه فيه وزير الاستثمار الأسبق محمود محيي الدين انتقادات عنيفة للصندوق معلقًا بقوله "آن الوقت لأن نتمرد على هذه الإدارة المقيدة للحركة".

لا خلاف على أهمية أن تكون لدينا استراتيجية تستهدف رفع معدلات النمو والتشغيل وتحفيز الاستثمار والصادرات، لكن السؤال الذي أغفلته هذه النقاشات هل فعلًا سنتحرر من أسر الصندوق بعد انتهاء برنامجه في نوفمبر/تشرين الثاني 2026؟ أتمنى ذلك لكن لدي تخوفات من عدم القدرة على تحقيقه.

الإفلات من دوامة القروض

لمن يذكر، والذكرى تنفع الاقتصاديين، فقد وقَّعت مصر اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي في 2016 دام حتى 2019 تحققت فيه الكثير من أهداف التثبيت المالي والنقدي عبر الكثير من التقشف والتعويم.

رغم هذا ففي 2020 حصلت مصر على تمويلات جديدة من الصندوق في خضم أزمة وباء كورونا بلغ إجماليها نحو 8 مليارات دولار تمثلت في تمويل طارئ بقيمة 2.77 مليار في مايو/أيار 2020 أعقبه اتفاق آخر لمدة 12 شهرًا بقيمة 5.2 مليار دولار في يونيو/حزيران مباشرة من ذلك العام.

في أعقاب انتهاء الوباء اضطرت مصر لتوقيع اتفاق آخر مع صندوق النقد في 2022 لمدة 46 شهرًا، وهو الذي سينتهي في نوفمبر 2026 لتبدأ الحياة بعد الصندوق.

يعني ذلك باختصار أننا مررنا بما يقرب من العقد الكامل من الاعتماد على الصندوق، ما يعنيه هذا الاعتماد المكثف على قروض المؤسسة الدولية هو أن توصياتها عجزت عن تحقيق الاستقرار الاقتصادي الذي ننشده، فبعد كل قرض نتمم فيه تطبيق "الإصلاحات" المطلوبة نشعر أننا نحتاج لمساعدات إضافية وتالية، سواء من الصندوق أو غيره من المؤسسات المالية الدولية.

بتعبير آخر، فقد وضعت سياسات الصندوق مصر فعلًا على طريق التعافي، لكنه تعافٍ معتمد على الاقتراض الخارجي (والداخلي أيضًا)، والدليل على ذلك تفاقم حجم الديون الخارجية خلال العقد الذي طبقنا فيه سياسات الصندوق بشكل لافت.

سياسات غير مستدامة

من جهة أخرى قلما أدت "إصلاحات" الصندوق لاستقرار في مؤشرات الاقتصاد الكلي، إذ إن تخفيض سعر الصرف دائمًا ما أدى إلى ارتفاع التضخم، ومعه أسعار الفائدة المحلية، ما أدى إلى تراجع فرص التعافي والنمو وتقليل معدلات الاستثمار الداخلية والخارجية. وقد جعل كل هذا الاقتصاد المصري عُرضةً لصدمات خارجية استدعت بدورها تدخلات الصندوق المتكررة سابقة الذكر، وكانت تلك الصدمات كثيرة من وباء كورونا لحرب أوكرانيا للكوارث الإقليمية المتلاحقة في غزة والسودان والبحر الأحمر.

سياسات صندوق النقد مع مصر عالجت الأزمات بأدوات تخلق أزمات جديدة

ربما تبشر  صفقة رأس الحكمة وما تم تداوله مؤخرًا عن صفقة مراسي البحر الأحمر بتغيير في فرص وأدوات علاج مشكلات مصر التمويلية المزمنة من الاستدانة إلى جذب الاستثمارات الخليجية، إماراتية كانت أو سعودية وربما قطرية في مرحلة مقبلة، وهو أمر قد تكون له إيجابيات عدّة لكن هل هذه التدفقات بالغة الضخامة أمر مستدام؟

من غير المنطقي انتظار صفقات سنوية بـ35 أو بـ15 مليار دولار، لأنه ليست لدى أي دولة بما في ذلك مصر أصول لا نهائية يمكن بيعها باستمرار بهذه الوتيرة وعلى ذلك النطاق الكبير. ثانيًا فإن ما نحتاجه في مصر لا يقتصر على تدفقات قصيرة المدى من النقد الأجنبي، لكننا بحاجة لمشروعات تساعد على توليد النمو والتشغيل حتى نتمكن من توليد ما نحتاجه من تمويل في المدى الطويل.

ما أغفله محمود محيي الدين

لنعد قليلًا إلى تعليق الدكتور محمود محيي الدين حول انشغال الحكومة المصرية في السنوات الماضية بإدارة الأزمات، وأنه حان الوقت للتحول إلى تبني خطط للنمو والتشغيل.

كانت تصريحاته لافتة، خاصة أنه اقتصادي مخضرم ورجل دولة ويعمل حاليًا مبعوثًا خاصًا للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل أجندة التنمية، وكان مديرًا تنفيذيًا في صندوق النقد حتى العام الماضي.

لكن المشكلة في تحليل محيي الدين للوضع أنه مبني على تصور كما لو أن مصر اختارت طواعية المضي في اتفاقات قروض الصندوق خلال العقد الماضي، وآن لها أن تغير وجهتها بعد أن تبين فشل هذه السياسات. الحقيقة أن سياسات الصندوق كانت تعالج الأزمات بأدوات تخلق أزمات جديدة.

سيتركنا الصندوق العام المقبل ونحن على الأرجح نعاني من تداعيات فترة طويلة من الفائدة المرتفعة أثرت سلبًا على الاستثمار، ومن آثار تضخمية ناتجة عن توصياته بالتعويم تسببت في إضعاف القوى الشرائية وإدخال العديد من القطاعات في حالة من التباطؤ.

ربما تستلزم مرحلة ما بعد الصندوق (وآمل أن تكون كذلك) التفكير بعض الشيء خارج الصندوق فيما يتعلق على سبيل المثال لا الحصر بتبني سياسة صناعية تولي أهمية طويلة الأجل لقطاعات بعينها قادرة على خلق الوظائف والمساهمة في توفير العملة الصعبة، إما من خلال المنافسة في الأسواق التصديرية (مع العلم أن التجارة العالمية في انكماش) أو المنافسة مع الواردات في الأسواق المحلية، وعلى رأس هذه القطاعات بالطبع الصناعات التحويلية التي لا يبدو أن الحكومة تمتلك تصورًا محددًا بخصوصها.

ذلك عوضًا عن البحث فحسب عن الاستثمار في أصول ثابتة، تجذب رؤوس أموال في قطاعات مثل العقارات لا تسهم في التوظيف على المدى البعيد، ولا تتمتع بأي قدر من الاستدامة، ولا هي في الوقت ذاته يمكن أن تساعد في زيادة قدرتنا على خلق القيمة المضافة.

الخلاصة هي أن عصر الأسواق الحرة الذي يملك خيال الدكتور محمود وغيره انتهى أو يكاد، والواقع الجديد غالبًا ما يتطلب إعادة تفكير في دور الدولة الاقتصادية وفي الأدوات اللازمة لهذا على مستوى السياسات والمؤسسات.