تصدرت زامبيا، وهي البلد الإفريقي ذو الـ19 مليون نسمة، أخبار المال العالمية خلال يونيو/حزيران الماضي، مع توصل حكومتها لاتفاق مع دائنيها الغربيين والصينيين، تم بمقتضاه الاتفاق على إعادة هيكلة 6.3 مليار دولار على مدى العشرين سنة المقبلة، بما في ذلك ثلاث سنوات فترة سماح لا تلتزم فيها زامبيا إلا بدفع الفوائد لا الأقساط.
أتى هذا الاتفاق، الذي يعد تاريخيًا، بعد ثلاث سنوات من المفاوضات الشاقة مع أطراف عدة، منذ أن أعلنت الحكومة الزامبية توقفها عن خدمة ديونها الخارجية في 2020، لتكون أول دولة إفريقية تدخل الإفلاس الفعلي.
ومع كامل الاحترام لزامبيا بالطبع، فإن الاهتمام الدولي بالاتفاق لا يخص زامبيا فحسب بسبب الانطباق المحتمل لوضعها على الكثير من الدول التي أفلست أو توشك على الوقوع في ظرف مالي حرج. كما أن الاتفاق هو الأول من نوعه، لأنه يشمل الصين جنبًا إلى جنب مع الحكومات الغربية.
وهناك أنباء عن قرب التوصل لاتفاق يعيد هيكلة دين زامبيا الخاص بقيمة تقترب من قيمة الدين الحكومي.
إذن، نحن أمام حقبة جديدة من إعادة هيكلة الديون، تختلف عن حقبة الثمانينات التي شهدت وقوع العديد من بلدان أمريكا اللاتينية في أزمات متلاحقة.
رغم كونها ثاني أكبر منتجي النحاس في إفريقيا، إلا أن زامبيا مثل الكثير من البلدان النامية تعاني ضعف الدخل
في الحقبة الجديدة تبدو الدول النامية أكثر اندماجًا في أسواق الدين العالمية، وكذلك تظهر الصين بدور الدائن الذي يناطح دائني الدول الغربية. وهي كلها ملامح تغير كبير في علاقات القوة والثروة العالمية، من المهم دراستها حتى نتبين طبيعة الحقبة التي نمر بها، خاصة مع تفاقم أزمة المديونية في بلادنا.
لعنة النمو وزيادة الدخل
في 2011 قام البنك الدولي بترقية زامبيا من دولة منخفضة الدخل إلى دولة ضمن الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط، وهي ذات الشريحة التي تنتمي إليها مصر وتونس والمغرب، وكان ذلك بعد عقد من النمو المرتفع قدر بمتوسط نحو 8% سنويًا بين 2002 و2011.
وعلى الرغم من كونها ثاني أكبر منتجي النحاس في إفريقيا بعد جمهورية الكونجو الديمقراطية، إلا أن زامبيا، مثل الكثير من البلدان النامية، تعاني ضعف الدخل كونها تعتمد على تصديره في صورته الخام. ولكنها استطاعت بفضل صادراتها من النحاس، التي تمثل 76% من صادراتها الإجمالية، أن تراكم سنوات متواصلة من النمو الاقتصادي؛ ما صعد بها إلى شريحة أعلى في الدخل.
وكان للقرار بهذه الترقية تداعياته على نفاذ زامبيا إلى أسواق المال العالمية، إذ أصبح بمقدورها التوسع في الاقتراض التجاري من خلال طرح سندات في الأسواق العالمية، بالإضافة إلى التوسع في الاقتراض الثنائي، أي الاقتراض من حكومات أخرى.
تزامن دخول زامبيا لأسواق المال العالمية مع نمو مطرد في ديونها الخارجية، ما حول الأمر للعنة مالية على البلاد. قفز رصيد الدين الخارجي الزامبي في الناتج القومي الإجمالي من 34.6% في 2014 إلى 92.8% في 2017، قبل أن يصل إلى 151% في 2020، وهي السنة التي امتنعت فيها زامبيا عن سداد بنود خدمة الدين.
وقادت هذه الديون البلد الغني بثروات النحاس ليعود مجددًا إلى مصاف البلدان منخفضة الدخل. واليوم يعد حائزو السندات السيادية الزامبية ثاني أكبر الدائنين لزامبيا، بقيمة 3.5 مليار دولار.
الصين تلعب دور الدائن
من جهة أخرى، تعتبر زامبيا هي الحالة الأولى لدولة تقع في براثن الإفلاس ويكون أكبر دائن لها هو الصين، وكان للوجود الصيني تأثير كبير على طبيعة اتفاق إعادة الهيكلة.
فاقم الأمر أن الصين أصرت على اعتبار مديونية بنوك مملوكة للدولةبمثابة ديون خاصة
بلغت ديون الهيئات الصينية 5.7 مليار دولار، أي نحو ربع رصيد الدين الخارجي الزامبي، وذلك من خلال مجموعة من البنوك والشركات ذات الصلات القوية بالحكومة الصينية، بما يعكس النمط الرأسمالي الصيني الذي تقوده الدولة. وكذلك تركز التمويل الصيني في أنشطة التجارة، من خلال تمويل صادرات المواد الخام من ناحية، وواردات المواد المصنعة من ناحية أخرى، علاوة على الإنفاق على أنشطة البنية الأساسية.
قبل الصعود الصيني كانت الأطر الحاكمة لاتفاقات إعادة هيكلة الديون مع البلدان النامية تقوم على توازنات القوى التي تقرها الحكومات أو البنوك أو صناديق الاستثمار التي تنتمي للبلاد الغنية في أمريكا الشمالية وغرب أوروبا واليابان. وعبّر عن هذه الأطر قواعد ناديي باريس ولندن واتفاقات الفعل الجماعي لحاملي السندات التي ترسخت منذ ثمانينيات القرن العشرين.
أما الصين فقد اختارت عن عمد أن تنأى بجانبها عن تلك الأطر التي تكونت قبل أن ترتقي قمة الهرم الاقتصادي العالمي، وينطبق الأمر نفسه على علاقة الصين بمؤسسات بريتون وودز، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. ويعني هذا أن الصين كدائن كبير للعديد من الدول متوسطة ومنخفضة الدخل بصدد تطوير قواعدها الخاصة كي تتمكن من إدارة أزمات الديون السيادية.
شكّل هذا الواقع مأساة بالنسبة لزامبيا لأنها وجدت نفسها بحاجة إلى تضمين الصين في أي اتفاق مستقبلي، من أجل إعفائها من جزء من ديونها أو لإعادة هيكلة مدفوعات الديون. ويعود هذا إلى أن دائني نادي باريس من الحكومات الغربية ليس لهم أن يتوصلوا لاتفاق مع دولة مدينة لهم، دون ضمان أن تنطبق الشروط التي سيمنحونها للمدين على الدائنين الآخرين.
ومعنى هذا أن دولًا مثل فرنسا أو بريطانيا، ناهيك عن حائزي السندات من القطاع الخاص، لم يكونوا ليتفقوا مع الحكومة الزامبية دون أن يضمنوا الشروط التي ستضعها الصين. وإلا خاطروا بأن يتحملوا هم عبء تخفيض قيمة ديونهم أو تأجيل سدادها لصالح الدائنين الآخرين، مثل البنوك والشركات الصينية.
وفاقم من الأمر أن الحكومة الصينية، في محاولة منها لتقليل خسائرها من الاتفاق مع زامبيا، أصرّت على اعتبار مديونية بنوك مملوكة للدولة، مثل بنك الصين والبنك التجاري والصناعي الصيني، بمثابة ديون خاصة وليست حكومية. وهو شرط اضطرت زامبيا لقبوله في نهاية المطاف، الأمر الذي جعل شروط إعادة الهيكلة أكثر تشددًا.
تنبهنا حالة زامبيا إلى التغير في موازين القوة بانضمام الصين القوي إلى قائمة الدائنين الكبار، بدون أن تكون طرفًا في أي من الأطر والقواعد القائمة مثل نادي باريس، والذي تقتصر عضويته إلى الآن على الدول الغربية في المقام الأول. كما يرسل الاتفاق الأخير برسالة إيجابية بعض الشيء بإمكانية تطوير قواعد جديدة لخدمة الدول منخفضة الدخل، يؤمل أن يتم مدها إلى الدول متوسطة الدخل.