أخيرًا استكمل صندوق النقد الدولي المراجعتين الأولى والثانية لاتفاقه مع الحكومة المصرية في نهاية الشهر الماضي، ليصدر بيانًا، مطلع هذا الشهر، بلغته الدبلوماسية المعتادة، مُعدَّدًا فيه التحديات التي تواجهها مصر متبوعةً بقائمة الإصلاحات المطلوبة، التي علينا تنفيذها في مقابل التمويلات الأخيرة التي حصلنا عليها من الصندوق ولفيف من المؤسسات الدولية، بجانب صفقة رأس الحكمة العملاقة.
من الأمور اللافتة للنظر في البيان هذه المرة إشارة الصندوق إلى "دمج الاستثمارات الخارجة عن الموازنة بشفافية ضمن عملية صنع قرارات السياسة الاقتصادية الكلية"، في إشارة لاستثمارات الهيئات الاقتصادية، وهو واحد من الإجراءات التي طلبها الصندوق، من شأنها أن تؤدي لضبط أوضاع المالية العامة ووضع الدين على مسار تنازلي، حسب البيان.
ليس معتادًا أن تتطرق بيانات صندوق النقد إلى قواعد إعداد الموازنة العامة وأسس صنع قرارات السياسة الاقتصادية الكلية، إذ إن شروط الصندوق (وإن كان لا يسميها بهذا الاسم) عادة ما تنصب على فحوى السياسات المالية والنقدية وليس القواعد الحاكمة لهما، التي تدخل ضمن القواعد القانونية والدستورية لكل بلد. فما هو السبب وراء هذا التغير "الجوهري" في شروط الصندوق هذه المرة؟
رغم أنف وزير المالية
قبل الإعلان عن تفاصيل اتفاق مصر الأخير مع صندوق النقد، كانت الحكومة أحالت تعديلات قانون الموازنة العامة لمجلس النواب في فبراير/شباط الماضي، من أجل ضم موازنات 59 هيئة اقتصادية للموازنة العامة التي كانت تقتصر على أجهزة الحكومة المركزية، الأمر الذي يعبِّر عن جدية الحكومة في تنفيذ هذا التوجه، واستعدادها لتقديمه للصندوق كإجراء استباقي على اتفاق القرض، كنوع من التعبير عن حسن النوايا.
لكن لا يعني ذلك أن الحكومة كانت مقتنعة بهذه الخطوة، بل على العكس، فقد رفض وزير المالية في البداية هذا التعديل، ولكن موقفه تغيّر بعدها بعدة أيام، على الأرجح تحت تأثير الاحتياج القوي للحزمة التمويلية المقدمة من الصندوق من خلال اتفاق القرض.
ليس مستغربًا أن يقاوم الوزير دمج الهيئات الاقتصادية، فهي تتمع باستقلالها منذ السبعينيات، أي أننا أمام ميراث بيروقراطي ارتكز على نمط معين من إدارة المالية العامة، لكن يبدو أن هذا النمط بات يتعارض مع متطلبات الدائنين الدوليين، وهو ما دفع الصندوق للضغط على مصر بهذا الشأن، ورضخت الحكومة أمام هذه المطالب.
ربما يتطلب الأمر أن نخوض قليلًا في تفاصيل علاقة هذه الهيئات بالموازنة، لكي نفهم لماذا يطلب الصندوق دمجها، ولماذا كانت الحكومة تقاوم؟
موازنات مستقلة لماذا؟
لمصر تاريخ بيروقراطي عتيد، فإلى جانب الجهاز الإداري للدولة، سواء كان مركزيًا أو محليًا، تشكلت عشرات الأجهزة والكيانات الأخرى التابعة للدولة في صورة الهيئات الخدمية والاقتصادية والشركات المملوكة للدولة.
ونخص بالذكر هنا الهيئات الاقتصادية التي نشأت بقانون أو بقرار جمهوري لتحقيق غرض عام، مثل هيئات قناة السويس والمجتمعات العمرانية والتنمية الصناعية والتنمية السياحية وغيرها، وجميعها تتمتع بشخصيات عامة اعتبارية ولها مجالس إدارات ولوائح داخلية، والأهم أنه منذ صدور القانون رقم 11 لسنة 1979 أصبحت ميزانيتها مستقلة عن الموازنة العامة للدولة.
باتت الهيئات المستقلة تشكل خطرًا على الوضع الخارجي لمصر فأراد الصندوق وضعها تحت السيطرة لطمأنة الدائنين
لا يعني ذلك أن موازنات هذه الهيئات خارج أي رقابة، فهي خاضعة في نهاية الأمر للجهاز المركزي للمحاسبات، كما يتم نشر موازنات بعضها في ملحق بالموازنة العامة للدولة يقره مجلس النواب، لكن في المقابل، تتمتع هذه الهيئات بحرية نسبية في إدارة شؤونها بعيدًا عن توجيهات الحكومة المركزية، ويكون تفاعلها الأساسي مع الحكومة في صورة الفوائض المالية التي تحولها بعض الهيئات الرابحة للخزانة العامة، أو المساهمات التي تحصل عليها بعض الهيئات الخاسرة من الخزانة العامة.
يعني ذلك أن ما يجري داخل الهيئات على وجه التفصيل لا يحصل على الكثير من الاهتمام، وبالتالي لا تتمتع بالشفافية التي تبدو عليها بيانات الموازنة العامة للدولة، مع كل التحفظ على دقة وجودة بيانات الموازنة العامة وشكل ودرجة إتاحتها.
حسنًا، ربما يبدو غياب الشفافية عن الهيئات الاقتصادية أمرًا مألوفًا في بلد نامٍ مثل مصر، يعاني بشكل عام من ضعف آليات الإفصاح، لكن لماذا صارت شفافية هذه المؤسسات أمرًا ملحًا بالنسبة لصندوق النقد؟
ضرورة للاندماج في الاقتصاد العالمي
إن التفسير الأكثر إقناعًا لطلبات الصندوق هو أن استقلال هذه الهيئات بات يمثل خطرًا على الوضع الخارجي لمصر، ولأن الصندوق يمثل مصالح الدائنين الدوليين لمصر على اختلاف أشكالهم، سواء مؤسسات متعددة الجنسيات أو مشترين للسندات المصرية، فقد أراد الصندوق أن تصبح هذه الهيئات تحت السيطرة من أجل طمأنة هؤلاء الدائنين.
ويتجلى ذلك في حصول بعض هذه الهيئات على قروض خارجية بضمان الخزانة أو قروض مقومة بالدولار من بنوك محلية مثل هيئة السلع التموينية والهيئة العامة للبترول وهيئة قناة السويس.
من هنا يتضح الارتباط بين المسألتين اللتين طرحهما بيان الصندوق؛ أي توصيته بالمزيد من الشفافية للبيانات المالية للجهات التابعة للدولة ودعوته لوحدة الموازنة العامة للدولة، إذ سيساعد ذلك على جعل موازنات الهيئات الاقتصادية خاضعةً للرقابة من البرلمان ومراقبة صندوق النقد الدولي، ومن ورائه الدائنين القلقين على مسار الاقتصاد الكلي المصري، حرصًا منهم على ضمان القدرة على السداد مستقبلًا.
هل ذلك في صالحنا؟
إن أي خطوة في طريق تحسين شفافية الموازنة وشمولها أمر محمود في حد ذاته، خاصة وأن مركز مصر في شفافية الموازنات العامة طبقًا لتقييم أوبن بادجيت في 2020 كان 61 من 117 دولة بمجموع متوسطه 43/100، ما يعني أن هناك حاجةً للمزيد من التحسن.
لكن ما يثير الانتباه حقًا، هو علاقات القوة الكامنة وراء الدفع بتعديل قواعد الموازنة العامة للدولة، التي يبدو بوضوح أن لها علاقةً بحضور صندوق النقد الدولي، ليس فقط كدائن كبير للحكومة المصرية، ولكن أيضًا كطرف غير مباشر في إعادة تأهيل الحكومة المصرية لخوض غمار أسواق المال العالمية.
ولعل هذا هو ما جعل الحكومة تغير من موقفها، ولعله كذلك ما يفسر لماذا اهتمت الحكومة خلال السنوات الأخيرة بالعمل على تحسين مجموعها في تقييم أوبن بادجيت، الذي قفز من 13 و16 إلى 41 ثم 43 بين 2012 و2019.
اللافت أن التقدم السريع في تقديرات الشفافية المصرية، الذي يأتي انعكاسًا لإجراءات قامت بها الحكومة من أجل تحسين صورتها في هذا المجال، حدث في فترة اتسمت بغياب أوجه عدة من الرقابة البرلمانية والمحاسبة، ما يعكس تأثير طلبات الدائنين القوي على الدولة في مصر وقدرتهم على توجيهها حتى إلى مسارات قد تقاومها في البداية.
لكن هذا التأثير لا يزال قاصرًا، فتقديرات الشفافية المصرية على قدر تحسنها النسبي في السنوات الأخيرة لا تزال شديدة التواضع، خاصة فيما يتعلق بما ترصده أوبن بادجيت بشأن مدى مشاركة المواطنين في الرقابة على الدولة، وهو المؤشر الذي سجلت فيه مصر 15 من 100.
إن المشاركة المباشرة للمواطنين في موازنة الدولة العامة تستلزم إتاحة المعلومات العامة بدقة ووفرة وشفافية على أوسع نطاق ممكن لا يبدو أنه متوفر، ولكن إلى حين تحقق ذلك لعامة المواطنين، فإن عيون صندوق النقد والدائنين من صناديق وبنوك الاستثمار في الدين الحكومي ستكون ساهرة ترصد وتراقب وتطالب بالمزيد من الشفافية والشمول.