
إدارة غزة مقابل الإعفاء من الديون.. هل يمكن تكرار تجربة حرب الكويت؟
قبل أيام خرج زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد باقتراح تولي مصر إدارة قطاع غزة لمدة تتراوح من 8 إلى 15 سنة في مقابل إعفائها من ديونها الخارجية. ورفضت الحكومة المصرية الاقتراح سريعًا وجملةً وتفصيلًا.
بغض النظر عن تفاهة الطرح، وربما تفاهة طارحه، كون يائير لابيد بعيدًا عن الفوز برئاسة الوزارة في أي انتخابات مقبلة بناءً على عدد من استطلاعات الرأي، فإن إدارة مصر لقطاع غزة مسألة تستحق النقاش في حد ذاتها بعيدًا عن شخصه وبمعزل عن مستقبله السياسي، لأنها ولا شك ستكون حاضرة بشكل أو بآخر في أي سيناريو لمستقبل القطاع، خصوصًا في سياق التغييرات الجذرية التي يدعو لها ترامب بتهجير الفلسطينيين أو بإخراج حماس من القطاع، ومع الرفض المستميت من قبل نتنياهو لأي دور مستقبلي للسلطة الوطنية الفلسطينية في القطاع.
لا أرغب هنا في مناقشة جدوى تورط مصر في إدارة قطاع غزة، الذي أعتقد أن غالبية القراء يتفقون مع موقف الحكومة المصرية (بل مع الحكومات المصرية المتعاقبة منذ اتفاقية السلام مع إسرائيل في 1979) في رفضه من أساسه باعتباره تمامًا، مثله مثل التهجير، ركنًا رئيسيًا وفق تصورات الصهيونية التاريخية في خطة التخلص من عبء احتلالها الدائم للأراضي الفلسطينية، وتصدير الصراع ليصبح بين الفلسطينيين وجيرانهم العرب.
ينصب اهتمامي هنا على تحليل الأدوات الاقتصادية المتاحة للولايات المتحدة (بالتبعية لإسرائيل) للضغط على مصر للقبول الكلي أو الجزئي بإدارة القطاع، وهو الأمر الذي فرض نفسه مع حضور مسألة الدين الخارجي في صُلب خطة لابيد، مثل ما لوّح ترامب من قبل باستخدام المساعدات الخارجية أدواتٍ للضغط على مصر والأردن.
سبق واستُخدمت هذه الورقة في إدارة السياسة الخارجية عندما توصلت حكومة مبارك لاتفاقٍ في إطار نادي باريس في 1990/1991، الذي سمح بإعفاء مصر من 50% من ديونها الخارجية وإعادة هيكلة النصف الآخر علاوة على إعفائها من ديونها العسكرية.
استخدام حوافز اقتصادية من قبيل إلغاء الديون أو إعادة هيكلتها في 1990 كان حالةً تنسجم فيها مصالح مصر مع مصالح الدائنين
جاء الاتفاق في سياق انضمام مصر للتحالف الدولي لتحرير الكويت على نحو فسَّره البعض بأنه الثمن الذي قبضه مبارك من أجل الدخول في التحالف، إذ كان في أمس الحاجة لحضور عربي كالذي وفرته أكبر دولة عربية.
تكتسب ورقة المساومة على الديون أهميتها بظل الارتفاع الكبير في الدين الخارجي لمصر خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغ 153 مليار دولار في نهاية يونيو/حزيران 2024 ما مثَّل 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
لا شك عندي أن لابيد كان يُفكر في هذه السابقة عندما طرح خطته حول إدارة مصر لقطاع غزة.
هل يمكن لهذا أن يتكرر كما يتخيل أو يأمل لابيد؟
على الأرجح لا.
لماذا يصعب تكرار التجربة؟
مبدئيًا لم يكن انضمام مصر للتحالف الدولي لتحرير الكويت منافيًا لمصالحها الوطنية والقومية، بل على العكس، كانت مصالح مصر الاقتصادية مع استقرار الوضع في بلدان الخليج العربي بحكم وجود ملايين من العاملين المصريين هناك، الأمر الذي جعل تحويلات العاملين واحدةً من أكبر، إن لم تكن أكبر، مصادر النقد الأجنبي الواردة للاقتصاد المصري.
كما أن التزام مصر باستقلال الدول العربية لطالما كان حاضرًا وبقوةٍ، ويكفي أن جمال عبد الناصر لعب دورًا مباشرًا في تأمين استقلال الكويت في 1961 في مواجهة المطالبات العراقية المبكرة بضمها فور حصولها على الاستقلال.
بالتالي فإن استخدام حوافز اقتصادية من قبيل إلغاء الديون، أو إعادة هيكلتها، في 1990 كان حالة تنسجم فيها مصالح مصر مع مصالح الدائنين، وهو خلاف ما يجري في غزة تمامًا مع سيادة وعي حكومي وشعبي بأن أي حديث عن إسناد إدارة غزة إلى مصر هو محاولة لتوريطها في صراع حاضر أو مستقبلي مع الفلسطينيين، وهو جزء من مخطط إسرائيلي قديم.
إضافة لهذه النقطة المبدئية، فإن هناك صعوباتٍ كبيرةً تحول دون تنفيذ خطة إعدام الديون الخارجية على غرار ما وقع في 1990، أولها وأهمها هو تراجع الوزن النسبي لدول نادي باريس في الإقراض لدول العالم الثالث، بما فيها مصر، مقابل صعود الصين وبلدان الخليج الغنية بالنفط علاوة على الحضور المزداد لتلك الدول في أسواق السندات العالمية.
يظهر هذا بجلاءٍ في الحالة المصرية إذ إن الديون الثنائية، بما فيها ديون نادي باريس، لا تتجاوز 7% من إجمالي الدين الخارجي الحكومي في مقابل 33% من أخرى مستحقة لمؤسسات التمويل الدولي، و19% في صورة سندات مطروحة في أسواق عالمية. وهو ما يختلف تمامًا عن الظرف في مطلع التسعينيات عندما كان النصيب الأكبر من مديونية مصر الخارجية يتبع حكومات أو بنوكًا ضمن نادي باريس، ما سهل من إتمام عملية الإعفاء إذ سمحت حكومات الدول الأعضاء بإعفاء الديون الخاصة بها، وتحمّلت سداد الديون المتعلقة بالجهات الخاصة.
أما اليوم لا يملك نادي باريس، حيث عضوية إسرائيل والدول الحليفة والصديقة في الغرب، النصيب الأكبر من الدين الخارجي، والأهم هو أن حكومات تلك الدول ليست في حِلٍّ من أن تتحمل أعباء الديون الخارجية لدول أخرى، إما بسبب الضغوط المالية الحالية على عدد منها أو بتأثير صعود القوى السياسية اليمينية التي تريد التقليل من أوجه الدعم الخارجي لا زيادتها، كما رأينا في محاولات ترامب إلغاء هيئة المعونة الأمريكية برمتها أو اتجاه بريطانيا لتخفيض مساعداتها الخارجية لزيادة إنفاقها العسكري.
الخلاصة هي أن مدخل إعفاء مصر من ديونها الخارجية لإحداث تحول استراتيجي في موقفها من مستقبل قطاع غزة لا يبدو واقعيًا ولا مُرجحًا لغياب الموارد الكافية لذلك، والأمر نفسه ينطبق على المساعدات الخارجية الأمريكية، التي قُدّرت بـ1.4 مليار دولار في 2023، أي 0.37% فحسب من الناتج المحلي الإجمالي المصري.
يتركنا هذا أمام واقع ينطبق على نفوذ الولايات المتحدة في العالم بأسره وليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب؛ مفاده أن الموارد الاقتصادية المتاحة (لأسباب سياسية واقتصادية على حد سواء) لا تكفي لتلبية المصالح الأمريكية (والإسرائيلية بالتبعية في حالتنا)، سواء في المساعدات أو التجارة أو الإعفاء من الديون الخارجية.
إن كل ما يتبقى لدى الولايات المتحدة وبكثرة هو التراكم التسليحي المخيف الذي ورثته من الحرب الباردة وما تلاها من الحفاظ على إنفاق عسكري بالغ الارتفاع، وهو ما يُترجم بالفعل إلى قنابل ومعدات يتم إرسالها لإسرائيل بصورة متواصلة باعتبار أن هذه هي الوسيلة الأنجع، وربما الوحيدة، لتحقيق وحفظ مصالحهما في المنطقة.