السادات ونائبه مبارك مع مجموعة من قادة الجيش. الصورة: موقع الرئيس السادات

كيف خرجت مصر من أزمة ديون 1989.. وهل من دروس مستفادة؟

منشور الأحد 16 يوليو 2023

"تبرعوا لسداد ديون مصر"

كان هذا عنوان حملة أطلقتها الحكومة في 1989 لشحذ همم المواطنين كي يساهموا في تسديد ديون مصر الخارجية، والتي بلغت وقتها 45 مليار دولار أمريكي.

لم تكن الحملة ناجعة في حل معضلات مصر المالية، لأنها كانت نابعة بالأساس من الدين الخارجي وليس المحلي، لكننا استطعنا في ذلك الوقت أن نعيد هيكلة ديوننا بالتعاون مع عدد من الدائنين، وعلى الأخص نادي باريس/Paris Club، فهل يمكن تكرار هذه التجربة مع الأزمة الراهنة؟

نظرة على أحوالنا في الثمانينيات 

45 مليار دولار، ربما يبدو حجم الدين الخارجي في هذا الوقت كرقم مطلق صغيرًا  للغاية مقارنة برصيد الدين الخارجي الذي تحوزه مصر، أو يحوزها هو، حاليًا، والذي يبلغ نحو 163 مليار دولار، ولكن العبرة بوزن الدين نسبةً للاقتصاد ككل.

في نهاية الثمانينيات، كان الدين الخارجي المصري بالغ الارتفاع مقارنة بحجم الاقتصاد مقدرًا بالناتج القومي الإجمالي، فبينما يقف اليوم عند نحو 37% كان وقتها يتجاوز 110%.

مصر نفسها استفادت بشكل مباشر من ارتفاع أسعار البترول العالمية منذ السبعينيات

وبالعودة إلى كيف انتهت مصر إلى ذلك الوضع في نهاية عقد الثمانينيات، نجد أن الأمر ارتبط بالبترول من زاويتين:

أولًا، أدت ارتفاعات أسعار البترول العالمية في 1973 و1979 إلى خلق فوائض ضخمة من البترو-دولار لدى الدول المصدرة للنفط. وبما أن تلك الدول تملك اقتصادات صغيرة، كانت غير قادرة على استيعاب تلك الأموال محليًا، وبالتالي أودعتها في بنوك اقتصادات أوروبا الغربية والولايات المتحدة، والتي كانت تعاني اقتصاداتها من الركود، فكان عليها بدورها أن تستثمر أموالها في ديون لحكومات في العالم الثالث، مثل مصر وعشرات غيرها من الدول متوسطة الدخل وقتها.

أما الزاوية الثانية، فهي أن مصر نفسها استفادت بشكل مباشر من ارتفاع أسعار البترول العالمية منذ السبعينيات، إذ أصبحت تصدّر البترول الخام خاصة مع استعادة حقول البترول في سيناء، وأعادت فتح قناة السويس في 1975، كما تدفقت تحويلات العاملين المصريين من البلدان النفطية.

ولكن رغم انتعاش إيرادات مصر الدولارية، ظل اقتصادنا بحاجة للمزيد من العملات الصعبة، فأقدمت حكومة مبارك على الاقتراض من البنوك التجارية الأوروبية في مقابل ما ستحققه من إيرادات مستقبلية. وبدا حينها أن الأمر قابل للاستمرار إلى أن وقعت أزمة بترولية عكسية في 1986، إذ انهارت أسعار البترول العالمية، وانهارت معها الإيرادات التي كانت ستستخدمها الحكومة المصرية لخدمة الديون الخارجية التي راكمتها من قبل.

في الفترة ما بين 1986 و1989، كان على الحكومة المصرية أن تتوصل لاتفاق يعيد هيكلة ديونها الخارجية كي تتجنب الإفلاس، وكان اشتراط الدول الدائنة أن تعقد مصر اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي.

بدأت مصر المفاوضات، وتوصلت لاتفاق مع الصندوق في 1987، ولكن نظام مبارك خشي من وقع الإجراءات التقشفية التي طلبها الصندوق سياسيًا، خاصة وأن ذكرى يناير/كانون الثاني 1977 التي عرفت بانتفاضة الخبز كانت ماثلة، وكانت القاهرة شهدت كذلك ما عُرف بأحداث الأمن المركزي في 1986.

لم يطبق مبارك اتفاق الصندوق، ما حدا بالأخير أن يوقف صرف شرائح القرض الذي تم الاتفاق عليه. ومع استمرار انخفاض أسعار البترول العالمية بدا أن مصر تقترب من الإفلاس، أي العجز عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية في موعدها.

كان عقد الثمانينيات هو عقد إفلاس الحكومات بحق، فبعد إعلان إفلاس المكسيك في 1982 تلتها دول كثيرة في أمريكا الجنوبية والوسطى.

لكن هذا لم يحدث مع مصر، بل وقع ما ليس متوقعًا أبدًا: غزا صدام حسين الكويت، وانضمت مصر إلى التحالف الدولي لتحريرها مقابل إلغاء نصف رصيد الدين الخارجي المصري، وإعادة هيكلة النصف الآخر.

هكذا! أنقذت أهمية مصر الاستراتيجية، في منطقة ليست بالأهدأ في العالم، حكومة مبارك من الإفلاس، بل وأتت بصفقة سخية للغاية سمحت للاقتصاد المصري ككل أن يتنفس الصعداء مع التخفيض الكبير الذي لحق بالتزاماته الدولارية.

لماذا لا يعيد التاريخ نفسه؟

هل فقدت مصر أصدقاءها خلال العقود التالية ما قادها للأزمة الحالية؟

بالعكس، لقد حصلنا على تمويلات من الدول الخليجية المختلفة، والمتنافسة، بين 2012 و2016، قدرت بعشرات المليارات من الدولارات. ثم أتى بعدها صندوق النقد الدولي، ومنحنا مجموعة قروض جعلتنا اليوم ثاني أكبر المقترضين من الصندوق في العالم، بعد رفيقة الدرب الأرجنتين.

وبناء على اتفاق الصندوق في 2016، اقتحمت مصر أسواق السندات والأذون العالمية منتهزة فرصة انخفاض معدلات الفائدة على الدولار، قبل أن يبدأ في رفعها الفيدرالي الأمريكي سامحه الله بدءًا من 2022.

ربما تكمن المفارقة هنا أنه خلافًا لحالة التردد في الثمانينيات، بدت الحكومة مستعدة للالتزام بتعليمات الصندوق من البداية، في 2016. لذا استطاعت الحصول على تمويلين إضافيين من الصندوق في مارس/آذار ومايو/ أيار 2020، في علامة منه على تأييد مسار مصر الاقتصادي.

لكن صداقة الخليج والتزامنا بتعليمات الصندوق لم يمنعا الأزمات، بالعكس فالموقف الحالي أكثر صعوبة لأن طبيعة الدائنين اليوم يصعب الوصول لاتفاق هيكلة معهم مشابه لدائني الثمانينيات.

اليوم تمثل الديون متعددة الأطراف المستحقة للمؤسسات المالية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من بنوك التنمية، القسم الأكبر من رصيد الدين الخارجي المصري، بنسبة 32% من الإجمالي (المتوسط لسنوات 2017-2022)، ويمثل نصيب الصندوق نفسه 42% منها.

هذه المؤسسات لا تضع في لوائحها شروطًا مرنة لإعادة التفاوض على الديون مثل دول نادي باريس، التي رتبنا معها اتفاق الثمانينيات، وهو تجمع للدول الدائنة مقره العاصمة الفرنسية نشأ في الخمسينيات، وأصبح بحلول الثمانينيات آلية أساسية لإدارة أزمات المديونية التي ضربت العديد من الدول النامية. 

أما مؤسسات مثل الصندوق، فتعتبر نفسها في موقع شبيه بالبنك المركزي للعالم، مقرض الملاذ الأخير الذي يتولى إنقاذ المتعثرين، وعلى هذا الأساس تَمنح تمويلات بفائدة ميسرة، وبالتالي فهي أقل تسامحًا إذا تعثرت دولة في ديونها.

هناك بالطبع بند الودائع التي أودعتها البنوك المركزية للدول الخليجية الشقيقة في المركزي المصري، التي تتنوع في آجالها بين قصيرة الأجل، وتمثل 13% من رصيد الدين الخارجي، ومتوسطة وطويلة الأجل، بما يمثل 15% من الدين الخارجي. ولكن هذه الودائع ليست جزءًا من مشكلتنا في الوقت الراهن، إذ قامت دول خليجية مشكورةً سابقًا بتمديد آجال الودائع، ومن المرجح أن يقدموا على الأمر ذاته في المستقبل.

هل من مَخرج؟ نعم. لا مفر من ضم الديون متعددة الأطراف المستحقة للمؤسسات المالية العالمية إلى غيرها من الديون الخارجية، فيما يتعلق بإعادة الهيكلة أو حتى صفقات إلغاء الديون. ليست حالة مصر استثنائية بين الدول متوسطة الدخل، وكان جرى قبل عقدين من الزمان تضمين الديون متعددة الأطراف في مبادرة إعادة هيكلة وإلغاء الديون للدول منخفضة الدخل، التي بدأت من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.

أما غير ذلك، فسيتعين على مصر أن تسدد ما عليها من أقساط وفوائد من خلال الاقتراض بشروط سيئة، كي تفي بالتزاماتها إزاء مؤسسات حضرت إلى المشهد كي تحل أزمة مصر المالية في 2016، فإذا بها تتحول هي إلى المشكلة ذاتها.