في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، حذر مدير البحوث بصندوق النقد الدولي من أن اقتصادات كثيرة فيما يسمى بالجنوب العالمي، وهو نفسه العالم النامي أو الثالث سابقًا، قد باتت تواجه "موجة عاتية" من أزمات المديونية، على نحو ينذر بتعثر الكثير منها عن الوفاء بالتزاماته الدولية.
وعندما يتحدث هؤلاء عن أزمة مديونية ليس المقصود مجرد ضخامة عبء الديون، بل العجز عن دفع الأقساط والفوائد المستحقة في الميعاد المحدد، وهو ما يٌعرف فنيًا بالإفلاس.
إذن، فالمسألة تنحصر في القدرة على الاستمرار في تمويل الدين، فما دامت الحكومات قادرة على النفاذ إلى سوق المال للاقتراض من أجل الوفاء بالتزاماتها القائمة بالفعل فهي في دائرة الأمان.
فماذا حدث في السنة الماضية حتى تواجه مجموعات مختلفة تمام الاختلاف من الدول من غانا وكينيا وباكستان والسلفادور إلى مصر وسريلانكا وتونس وزامبيا والأرجنتين مشكلات تعثر مالي؟
كقاعدة عامة وبديهية، كلما كنت أفقر، كلما كان حالك أسوأ
يذهب خبراء صندوق النقد وغيره إلى أن التحولات السلبية في السنة الأخيرة الناجمة عن التأثير الثلاثي والمركب لارتفاع التضخم العالمي (ومن ثم سعر الفائدة على الدولار لمواجهته)، والحرب في أوكرانيا إضافة إلى التباطؤ الاقتصادي في الصين أو قل غياب علامات تعافٍ اقتصادي قوي بعد سنوات ثلاث تقريبًا من وباء كورونا، كلها قد اجتمعت على زيادة الضغوط المالية على اقتصادات تعاني من أوجه ضعف وخلل هيكلية.
وعلى الرغم من أن أزمات المديونية، بمعنى الاستدانة ثم العجز عن سداد الديون، مشكلة عامة فيما يسمى بالجنوب العالمي فإن الرؤوس قلما تتساوى حتى في الأزمات، فمواجهة الدول ذات الدخل المنخفض (وهي ضمن الاقتصادات الأشد فقرًا) لأزمات المديونية تختلف عن الدول متوسطة الدخل.
كقاعدة عامة وبديهية، كلما كنت أفقر، كان حالك أسوأ. ولذلك فأكثر الدول اليوم تعرضًا لمخاطر الإفلاس، وللآثار الاجتماعية والاقتصادية للتعثر في سداد مديونيتها هي الدول الأشد فقرًا من عينة أفغانستان وإثيوبيا وزامبيا وتشاد، مع تركز كبير في القارة الإفريقية، والتي، وليس من قبيل المصادفة، الجزء الذي يضم أشد الدول فقرًا في العالم.
ولأن نفاذ هذه الدول إلى أسواق المال العالمية محدود، بحكم فقرها نفسه الذي لا يشجع أحدًا على إقراضها، وبالتالي فإن اعتمادها عادة ما يكون على المنح أو التمويل من مؤسسات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي بأسعار فائدة مخفضة نسبيًا.
بالطبع، تتسبب هذه المقدمات في جعل هذه الدول أكثر خضوعًا لمشروطية تلك المؤسسات، ولكنه يخلق في الوقت ذاته إطارًا مؤسسيًا لإعادة جدولة أو هيكلة ديونها، أو حتى إلغاء جزء منها بدعاوى تنموية أو إنسانية. لأنه من الناحية النسبية، فإن مديونية هذه الدول عادة ما تكون ثقيلة للغاية نسبة لحجم اقتصادها الصغير، فيما يعرف بالدول المثقلة بالديون.
في هذا السياق نجد أن الدول الأعلى دخلًا، نادي الأثرياء ممثلًا في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية/OECD، قد أطلقت مبادرة للتخفيف من ضغط خدمة الديون، وأسندت لصندوق النقد الدولي إدارة هذه المبادرة، وخصت بالذكر 25 اقتصادًا من ضمن الدول الأقل دخلًا.
هم مدعوون للجلوس على مائدة الكبار نوعًا ما، ولكنهم ليسوا من الكبار حقًا
ولم تكن هذه هي المناسبة الأولى لمثل هذه المبادرات أو الآليات، بغض النظر عن تقييم فعاليتها طويلة الأجل على الصعيد التنموي، ففي مطلع القرن الحادي والعشرين نجحت حملة ضخمة قادها تحالف من منظمات المجتمع المدني العالمي/Jubilee 2000 في جعل حكومات العالم الأغنى تٌقِدم على إلغاء نحو 100 مليار دولار من الديون على الدول الأشد فقرًا.
يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للدول متوسطة الدخل بشرائحها المختلفة. فهؤلاء أكثر غنى ويتمتعون باقتصادات أكبر حجمًا، ومن ثم فأبواب الاقتراض مفتوحة أمامهم، بشروط السوق، لذا فهم ليسوا مخاطبين بآليات المنح والاقتراض المدعوم والتخفيف من ضغط خدمة الديون كأقرانهم في الدول الأقل دخلًا.
لكن هذه الدول متوسطة الدخل ليست كالدول الأعلى دخلًا، فتصنيفاتهم الائتمانية تعكس ثقة متذبذبة للمقرضين في اقتصاداتهم ومن ثم في قدرتهم على السداد، وهو ما يزيد من تكلفة ديونهم. بتعبير آخر هم مدعوون للجلوس على مائدة الكبار نوعًا ما، ولكنهم ليسوا من الكبار حقًا. وقد تكون مجموعة العشرين تعبيرًا جيدًا عن الكبار حقًا بما يشمل الصين والهند والبرازيل والسعودية.
يخلق هذا فخًا، أو مصيدة، للدول متوسطة الدخل، والتي تصبح عرضة لأزمات مالية متكررة ناتجة عن اضطراب وتذبذب نفاذها لأسواق المال كي تدبر ما يلزمها من اقتراض، أو حتى تفي بخدمة بما راكمته من التزامات من قبل.
صحيح أن صندوق النقد الدولي، وغيره من مؤسسات التمويل الدولية، تظل تلعب دورًا ما في حالات الدول متوسطة الدخل، وهو ما نراه مع الأرجنتين ومصر، أكبر دولتين مدينتين للصندوق في الوقت الحالي، لكن بسبب حجم اقتصاديهما فإن دور الصندوق لا يتوقف عند إقراض الحكومات بشكل مباشر. بل يلعب دورًا محوريًا كذلك في تحسين شروط النفاذ لأسواق المال العالمية للوفاء بباقي الاحتياجات التمويلية التي تواجهها مثل هذه الاقتصادات.
نواجه أزمة تبدو أنها الأولى التي تضرب الدول متوسطة الدخل في الجنوب العالمي ككل
ومن هنا، أمكن لنا أن نفهم لماذا كانت الدول ذات الدخل المتوسط واقعة في قلب مشاهد أزمات المديونية خلال العقود الأربعة الماضية، بالتزامن مع توسع دور أسواق المال العالمية في إقراض هذه الدول، بفضل التحرير المالي وتدفقات البترودولار منذ منتصف السبعينيات، وما درج المعلقون على تسميته بـ "أمولة الاقتصاد العالمي".
بدأت هذه السلسلة من الأزمات مع أزمة الدين في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، عندما تعثرت اقتصادات كبيرة مثل الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، والتي كانت الأكثر تصنيعًا والأعلى دخلًا في العالم النامي وقتها، بعدما كانت اقترضت مليارات من البنوك التجارية الأوروبية.
في التسعينيات تغيرت الأدوات، إذ لم تعد البنوك التجارية العالمية تُقرض الحكومات بشكل مباشر، بل حل محل هذا أدوات مالية كالسندات والاستثمارات في الأوراق المالية. ومن هنا كانت الأزمة الآسيوية في 1997 التي طالت مرة أخرى الاقتصادات الأكثر تصنيعًا في الجنوب، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند، ثم امتدت آثارها لتضرب روسيا في 1998، ثم تركيا والأرجنتين في 2000/2001.
لقد تغير هذا النمط نوعًا ما في العقد الماضي، لأن مزيدًا من الدول التحقت بركب الدول متوسطة الدخل مثل مصر وغانا وسريلانكا، ومن ثم انفتحت أمامها أسواق المال العالمية. واليوم نواجه أزمة تبدو أنها الأولى التي تضرب الدول متوسطة الدخل في الجنوب العالمي ككل، وليس تجمعات إقليمية فيه.
وبقدر ما يثير هذا الأمر مزيجًا من الخوف والكآبة، فإنه يفتح آفاقًا جديدة تتمثل في تنسيق الجهود الدبلوماسية بين الدول متوسطة الدخل كي تكون موقفًا موحدًا إزاء الدائنين في الأسواق المالية العالمية، بما يتجاوز معالجة مشكلاتهم على نحو فردي، من خلال صندوق النقد أو نادي باريس، إلى إيجاد أطر مؤسسية أو على الأقل آليات شبيهة بتلك التي يتم استخدامها مع الدول الأفقر، ولكن صالحة لمخاطبة الدول متوسطة الدخل.
سيكون هذا تحديًا، ولكن الكثير من الدول متوسطة الدخل لديها من الوزن السياسي والثقافي وحتى الاقتصادي ما لا يتوفر للدول الأفقر، كما أن لديها خبرات دبلوماسية طويلة في مجالات كالتجارة الدولية والاستثمار قد تسمح بالبناء عليها لبناء تحالفات بين الحكومات تضم كذلك فاعلين من المجتمع المدني العالمي.