في 21 يوليو/تموز الماضي، كان انتباهنا في صالة تحرير المنصة موجهًا لموقع صندوق النقد الدولي، بعد أن لاحظ الصحفيون عدم إدراج مصر على جدول اجتماعات مجلسه التنفيذي، التي كان مفترضًا أن يُحسم خلالها المراجعة الثالثة لاتفاق القرض مع مصر.
استطاع زميلنا محمد إبراهيم أن يتواصل مع مسؤول حكومي مشارك في المفاوضات مع الصندوق، ليخبره بأن سياسات سعر الصرف كانت أحد أوجه الخلاف؛ الصندوق يضغط في مسار رفع سعر الدولار خلال الفترة المقبلة بوتيرة تصل به في المدى المتوسط إلى 55-58 جنيهًا والدولة تقاوم ذلك، وأشار في تصريح ثانٍ إلى أنه حال استجابة مصر لمطالب تعديل سعر الصرف فإن التعويم سيكون تدريجيًا.
بعد ظهر اليوم نفسه صدرت تصريحات حكومية تنفي وجود أي خلافات، وأعاد الصندوق اسم مصر للجدول، ثم بارك مجلسه التنفيذي المراجعة الثالثة، وكأنها رسالة للمتابعين بأن الأمور تسير في طريقها الروتيني المعتاد. لكن بعد هذه الأحداث بأيام قليلة، تذبذب سعر الدولار بشكل لافت ليرتفع خلال بعض المعاملات لما يقرب من 49.5 جنيه.
بعد إتمام مراجعة الصندوق لم يعُد الانخفاض المرتقب للجنيه مجرد تسريبات حكومية، ولكن أصبح اتجاهًا سائدًا في توقعات المحللين، قد يبدو ذلك صادمًا للقارئ العادي الذي تصور أن سعر الصرف سيستقر بعد تدفقات رأس الحكمة، فما الذي أعادنا للحديث عن التعويم؟
تشكيك جديد في قيمته
إذا أردنا اتباع التصورات الكلاسيكية عن تقييم سعر الصرف الحقيقي للدولار في مصر فأمامنا مساران؛ إما مقارنة التضخم بين مصر وأمريكا، أو قياس مدى توافر الدولار في مصر. وعلى هدى هذه النظرية يسير كافة المحللين في تقييمهم للجنيه، وبسبب العديد من التغيرات السريعة الطارئة خلال الشهور الأخيرة، أصبحت كلتا الطريقتين تقود إلى تقدير الجنيه بأقل من قيمته.
آراء الجهات البحثية من عوامل تحريك سعر الصرف فهم يشاركون عفويًا في بناء التصور العام لقيمة الجنيه
بداية مع الطريقة الأولى، يرى الاقتصادي هاني جنينة في ورقة بحثية منشورة على "زاوية عربية" أن معدلات التضخم المتوقعة في مصر تستدعي أن يصل الدولار في 2026 إلى 60 جنيهًا.
ربما تصطدم تصورات جنينة بمؤشر "بيج ماك" الصادر عن الإيكونوميست، الذي لاقى حفاوة بالغة على السوشيال ميديا خلال الأيام الماضية، بعدما انتهى إلى أن سعر الصرف العادل للدولار هو 21.9 جنيه. لكن الحقيقة أنه مؤشر لا يعتد به في أوساط المحللين، كونه يقيس فارق التضخم بين بلدين بناء على سعر سلعة واحدة فقط، سندوتش ماكدونالدز.
أما جنينة، فاعتمد على قياسات أوسع نطاقًا لتوقع التضخم، منها الاستناد للعائد المقدم على شهادات الاستثمار التي طرحت في مارس/آذار الماضي، كمؤشر على تقديرات البنوك للتضخم خلال السنوات الثلاث المقبلة.
بالانتقال إلى الطريقة الثانية، فقد استخدمتها مثلًا شركة فيتش سوليوشنز وهي تضع سيناريوهات سعر صرف الدولار على المدى القريب، السيناريو المتفائل عند 46.5 جنيه والمتشائم عند 55 جنيهًا، وكلاهما يرتبط بمستقبل تدفقات النقد الأجنبي لمصر.
وتنبع مخاطر نقص الدولار في مصر، حسب وجهة نظر فيتش، من تأثير الحرب في غزة على كلٍّ من إيرادات قناة السويس وفرص نمو السياحة، بالإضافة إلى احتمالات الخروج المفاجئ للأجانب من سوق الديون المحلية. ففي كل شهر في الفترة من أغسطس/آب إلى ديسمبر/كانون الأول، ستحل آجال أذون خزانة بقيمة 4.5 مليار دولار، وإذا توقف الأجانب عن إعادة استثمار أموالهم في أذون جديدة، سيصبح القطاع البنكي مُلزمًا بتوفير سيولة دولارية لهؤلاء الدائنين.
تعد آراء الجهات البحثية من عوامل تحريك سعر الصرف، فهم يشاركون عفويًا في بناء التصور العام لقيمة الجنيه العادلة، وعندما يسود الانطباع بأن عملتنا مقومة بأعلى من قيمتها، يمثل ذلك عامل ضغط على صانع القرار، لكنه ليس العامل الوحيد، فلدينا أيضًا تأثير صندوق النقد.
ماذا يرى الصندوق؟
كما أشرنا، كان سعر الصرف على طاولة النقاشات بين المسؤولين المصريين والصندوق، وإن كان الأخير لا يصرح بهذه النقاشات في العلن، مكتفيًا بالإشارة إلى ضرورة تبني سعر صرف أكثر مرونة في مصر.
ما الذي دعا الصندوق لطرح مسألة سعر الصرف على الطاولة مؤخرًا؟ يمكننا أن نجد تفسيرًا لذلك في العديد من المؤشرات التي تخبرنا بأننا لا نزال نعاني شح النقد الأجنبي، رغم كل ما تدفق منذ فبراير/شباط الماضي، من صفقة رأس الحكمة إلى قرض الصندوق بالإضافة إلى قرض الاتحاد الأوروبي.
واحد من هذه المؤشرات هو استمرار تعليمات البنك المركزي للبنوك بعدم تمويل واردات حزمة معينة من السلع قبل موافقته، وهو واحد من التعليمات الشفاهية التي لن تجد دليلًا عليها إلا في تصريحات المسؤولين المصرفيين للصحفيين.
استمرار التعليمات الشفاهية لا يعكس إلا وضعًا خارجيًا ضاغطًا على مصر. وبنظرة سريعة على الميزان الجاري، الذي يعبر عن معاملات الاقتصاد الحقيقي لمصر مع العالم الخارجي، سنجد أن العجز فيه تضاعف أكثر من ثلاث مرات في الفترة من يوليو/تموز 2023 إلى مارس/آذار الماضي، مقارنة بالفترة المناظرة من 2022/2023، ليصل إلى 17 مليار دولار.
ولولا التدفقات الاستثنائية التي تظهر في ميزان المعاملات الرأسمالية، على غرار رأس الحكمة، لكان عجز الميزان الجاري سيلقي بثقله على الاقتصاد بأكمله وربما يقود العملة المحلية إلى انهيارات جديدة.
في هذا السياق، من الطبيعي أن يصبح خفض قيمة الجنيه مسألةً مطروحةً من جديد، خاصة وأننا لم ننجح بعد في النزول بالتضخم عن عتبة الـ20%، وهو مستوى قياسي لم نشهده منذ الثمانينات.
لكن ما مدى إلزام آراء الصندوق لمصر؟
هل رأي الصندوق مهم فعلًا؟
دائمًا ما يعبر الصندوق عن رأيه، لكنه لا يلقى استجابة عند صناع القرار إلا في الفترات التي تبرم فيها الحكومات اتفاقات تمويلية، إذ إن كل قسط من البرنامج التمويلي مرهون بمراجعة الالتزام بالشروط، وفي حال فشل المراجعة تتدهور السمعة المالية للدولة، وبما أن الدول تلجأ للصندوق عادة وهي مأزومة، فإن وضعها يكون أكثر هشاشة من ألَّا تبدي حرصًا على إنجاح الاتفاق.
وأحيانًا، يكون الصندوق نفسه راغبًا في التأكيد على إصلاحات، وتهميش أخرى في مرحلة معينة، وفق العديد من الاعتبارات التي تدفعه لإعادة ترتيب شروطه على طاولة التفاوض.
تخوض الدولة اليوم معركتين الأولى مع النظام المالي العالمي والثانية للحفاظ على صورة الجنيه في الأذهان
وفيما يتعلق بنظرة صندوق النقد للجنيه المصري على وجه التحديد، فيرى أنه ظل مقومًا بأكثر من قيمته الحقيقية طيلة التسعينيات. ورغم أن مصر ارتبطت بأكثر من اتفاق مع الصندوق في ذلك العقد، آخرها عام 1996، لم يتم تحريك سعر الصرف أبدًا للمستوى العادل من وجهة نظر الصندوق.
لكن في العقد الأخير، اجتمعت هشاشة الوضع المصري مع رغبة الصندوق في التمسك بسعر الصرف المرن، وهو ما قاد للارتفاعات المتوالية في سعر صرف الدولار من 8.88 جنيه نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إلى نحو 50 جنيهًا اليوم.
وقياسًا إلى تجربتنا الأخيرة مع الصندوق، والمؤشرات السلبية الحالية للاقتصاد المصري في الوقت الراهن، نستطيع أن نتوقع أن يرتفع الدولار عدة جنيهات في يوم واحد كما حدث من قبل.. لكن تصريحات المسؤول الحكومي لـ المنصة تشير إلى أن الاتجاه هذه المرة نحو تعويم تدريجي ليس صادمًا.
من الصدمة إلى التدريج مجددًا
يذكرنا حديث المسؤول عن رفع الدولار تدريجيًا بسياسة التعويم التدريجي التي ترتبط إلى حد كبير بفترة محافظ البنك المركزي الأسبق هشام رامز، التي نالت انتقادات عدة.
بدأت سياسات التعويم التدريجي في 2012، مع اتجاه البنك المركزي لعقد مزادات دورية لبيع الدولار، كان المركزي يوجه السوق خلالها لسعر الصرف السائد. مشكلة هذه الآلية أنها كانت تستنزف احتياطات النقد الأجنبي، ومن جهة أخرى كلما خفض المركزي قروشًا في قيمة الجنيه ليقترب بسعر الصرف الرسمي من الموازي، زايد المضاربون برفع الدولار الموازي لمستويات أعلى.
يأخذنا ذلك للحديث عن طرف ثالث يشارك في بناء تصوراتنا عن قيمة الجنيه، وهم تجار السوق السوداء. وهؤلاء لا يستندون لأي أساس علمي في تحديد سعر الصرف، ويستغلون شعور الناس بالقلق في أوقات شح الدولار لجني أكبر مكاسب ممكنة، هؤلاء على الأرجح هم السبب في مطالبة المحللين منذ 2015 بتطبيق تعويم صادم يكبح جماحهم*.
في هذا السياق طبق طارق عامر، محافظ البنك المركزي من 2015 إلى 2022، تعويمين صادمين ساهما فعلًا في كبح السوق السوداء، لكنهما وضعا الاقتصاد في مشكلات كبيرة، أهمها جموح التضخم وما يتبعه من تآكل الأجور والإضرار بمنظومة الإنتاج، وقادنا التضخم لرفع الفائدة إلى مستويات قياسية زادت عبء الدين العام وأعاقت العديد من المنتجين عن الحصول على القروض، ما أدى لأزمات في التشغيل والتوظيف.. إلخ.
ربما لهذا السبب اتجه صناع القرار من جديد للتفكير في التعويم التدريجي، خاصة وأن الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي لا تزال محدودة جدًا، بسبب ارتفاع مستويات الاحتياطي الأجنبي من جهة، والحملة الدعائية الحكومية الكبيرة التي صاحبت صفقة رأس لحكمة، فالتقديرات التي تشير إلى دولار فوق الـ 50 جنيهًا تتحدث عن مستقبل العملة وليس واقعها الراهن.
إجمالًا، نستطيع القول إن الدولة اليوم تخوض معركتين، الأولى مع النظام المالي العالمي متجسدًا في صندوق النقد الدولي والمحللين الأجانب، للوصول إلى سعر صرفٍ مُرْضٍ لهم يضمن استمرار تدفق تمويلاتهم الدولارية. والثانية، وهي دعائية بالأساس، هدفها الحفاظ على صورة الجنيه في أذهان الجماهير، ولذلك نرى اهتمام البنك المركزي بنشر بعض البيانات الإيجابية مثل تحويلات المصريين في الخارج.
من الصعب التنبؤ بنتائج المعركتين، لأنهما تدوران في بيئة دولية شديدة الاضطراب بحروب إقليمية وأزمات مفاجئة، مثل الاثنين الأسود الذي واجهته البورصة الأمريكية هذا الأسبوع، وما تسبب فيه من تدفقات كبيرة لاستثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية.
* محلل بي إن بي باريبا: مصر تحتاج لتخفيض صادم في قيمة الجنيه، حوار محمد جاد، موقع أصوات مصرية، 2016، الرابط غير متوفر