على الرغم من أن حزمة التمويلات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي لا تمثل حصة غالبة في خطة إنقاذ الاقتصاد المصري، التي شاركت فيها جهات عدة وقُدرت بنحو 57 مليار دولار، فالقرض الأوروبي يتميز بكونه يحمل العديد من الدلالات على نظرة دول الاتحاد لمصر، من الزاويتين الاقتصادية والسياسية.
لم تُحسم بعد صفقة القرض الأوروبي المقدرة بخمسة مليارات يورو، حيث لم يصوت عليها الاتحاد. وفي حال الموافقة ستترتب عليها أشكال مختلفة من المشروطية، تنطوي تحت الآلية المقدم من خلالها القرض والمعروفة بالـ MFA، أو Macro Financial Assistance/المساعدات المالية للاقتصاد الكلي.
يسعى هذا التقرير لتقديم قراءة سريعة في المذكرات التفسيرية الصادرة عن الاتحاد الأوروبي بشأن هذا القرض، واستكشاف أبعاده السياسية والاقتصادية على مصر في المدى الطويل.
عن أي قرض نتحدث؟
في مارس/آذار الماضي، أعلن صندوق النقد الدولي عن اتفاقه المبدئي مع مصر على استئناف اتفاق القرض الذي كان أبرمه مع البلاد في ديسمبر/كانون الأول من 2022، وتعثر تنفيذه منذ مارس 2023، بسبب عدم تنفيذ مصر بعض الإجراءات المطلوبة بمقتضى هذا الاتفاق.
يعد اتفاق مارس الماضي بمثابة إشارة من صندوق النقد الدولي لرضاه عن مسار السياسات الاقتصادية في مصر، ما مهد للعديد من الجهات الدولية لكي تشارك في خطة إنقاذ للاقتصاد المصري، الذي يعاني منذ 2022 من تدهور الأصول الأجنبية لقطاعه المصرفي، ما أسفر عن أزمة حادة من نقص النقد الأجنبي أثرت في النمو الاقتصادي، ووصلت بالتضخم لمستويات قياسية.
في هذا السياق، أعلن الاتحاد الأوروبي في الرابع والعشرين من مارس الماضي عن اتفاق شراكة شاملة واستراتيجية مع مصر، تتمحور حول تمويلات بقيمة 7.4 مليار يورو، منها استثمارات ومنح بـ 2.4 مليار يورو، وقرض بالخمسة مليارات الباقية، والأخير هو موضوع هذا التقرير.
تنقسم المليارات الخمسة إلى قرضين، الأول بمليار يورو، وهو قرض يأمل الاتحاد الأوروبي إنفاقه بشكل عاجل للحد من تداعيات أزمة العملة الصعبة الراهنة، وربما نحصل عليه الصيف المقبل حسب توقعات مسؤول أوروبي في تصريحات صحفية. أما القرض الثاني فهو مخصص لعلاج مشكلات على مدى أطول.
الخمسة مليارات في مجملها لم تمر بعد، فالحصول على موافقة أجهزة الاتحاد الأوروبي المختلفة، التي تمثل 27 دولة لديها توجهات مختلفة ليس بالأمر الهين.
من يصوت على قرض مصر؟
بحسب المذكرتين الصادرتين عن الاتحاد الأوروبي بشأن القرض، بشقيه العاجل وطويل المدى، طلبت مصر من الاتحاد الأوروبي في الثاني عشر من مارس، أي بعد حوالي أسبوع واحد من اتفاقها مع الصندوق، أن تحصل على تمويلات تحت آلية الـMFA، المشار إليها عاليه.
لكن صحيفة الفاينانشال تايمز قالت إن الحزمة التمويلية الأوسع، الـ 7.4 مليار يورو، كانت حصيلة مفاوضات بين الجانبين بدأت منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مع نشوب الحرب الإسرائيلية على غزة.
وبناء على الطلب المصري، أعدت المفوضية الأوروبية/European Commission مسودة بخصوص القرض لكي تعرضها على الأجهزة التشريعية للاتحاد الأوروربي، وهو الدور التقليدي للمفوضية التي تقوم بمثابة الوسيط بين الاتحاد والعالم الخارجي.
لكن اللافت في سلوك المفوضية، التي زارت رئيستها مصر قبل نحو أسبوعين، هو رغبتها في تمرير الشق العاجل بأقل عقبات ممكنة من دول الاتحاد، حيث يخضع هذا القرض للمادة 213 من الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي، التي تعطي الحق في تمرير قانون لمساعدة دولة من خارج الاتحاد، بدون موافقة البرلمان الأوروبي، لأسباب تقتضي المساعدة العاجلة.
إذا نظرنا لقيمة اتفاقيات الـ MFA الأخيرة سنجد أن أغلبها يبدو متواضعًا أمام الاتفاق المصري
تقول وكالة أسوشيتد برس إنه من النادر أن تستخدم المفوضية هذه المادة، التي ستجعل عملية التصويت على القرض "العاجل" تقتصر على مجلس الاتحاد الأوروبي/Consilium، المكون من وزراء الحكومات الأوروبية. ولن يُسمح لبرلمان الاتحاد الأوروبي، الجهة الوحيدة المنتخبة مباشرة من المواطنين، بإبداء رأيه في هذا الأمر.
رغبة المفوضية في تيسير حصول مصر على القرض لم تتجلَّ فقط في استخدام التشريع، ولكن أيضًا في تحديد قيمة القرض، الذي يُعد كبيرًا جدًا بالقياس للقروض المقدمة للدول الأخرى.
من هم السابقون في الـ MFA؟
نشأت هذه الآلية في 1990 بالتزامن مع تداعي الاتحاد السوفيتي، وكانت مدفوعة برغبة دول أوروبا الغربية مد علاقاتها مع دول الشرق والجوار الأوروبي بشكل عام.
وعلى مدار تاريخها، قدمت هذه الآلية مساندة مالية للدول التي تعاني خللًا في ميزان مدفوعاتها، سواء المرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي أو الواقعة في جواره. ويتم توفير هذه الأموال من خلال اقتراض المفوضية الأوروبية من سوق المال، ما يعني أن الدول الحاصلة على التمويل تستفيد من الملاءة المالية للمفوضية في الحصول على قروض بشروط أسهل عما إذا تقدمت هي، منفردة، للسوق بطلب القرض.
وإذا نظرنا لقيمة اتفاقيات الـ MFA الأخيرة، سنجد أن أغلبها يبدو متواضعًا أمام الاتفاق المصري، مثلًا خصص الاتحاد تمويلات تحت هذه الآلية بقيمة 3 مليارات يورو لعشر دول بهدف الحد من تداعيات وباء كورونا، وشملت دولًا من شرق أوروبا بجانب الأردن وتونس.
وإذا نظرنا للاتفاقيات السابقة على كوفيد 19، سنجد أن أغلبها تمويلات بأقل من مليار دولار لكل دولة، على سبيل المثال حصلت تونس خلال الفترة بين 2014-2016 على موافقة البرلمان الأوروبي بمنحها تمويلين الأول بقيمة 300 مليون يورو والثاني بـ 500 مليون يورو، رغم أهميتها في نظر الأوروبيين باعتبارها أيقونة الديمقراطية في ثورات الربيع العربي.
لكن يظل هذا السخاء تجاه مصر يعكس رؤية المفوضية فقط
الاستثناء من هذه المبالغ المتواضعة كان أوكرانيا، حيث حصلت على حزمتين من المساعدات في 2022 بقيمة مليار يورو، ثم 5 مليارات يورو. وتلتهما حزمة بقيمة 18 مليار يورو في 2023، وهو ما يمكن تفسيره ليس فقط في سياق أنها دولة في حالة حرب، لكن أيضًا لما تمثله أوكرانيا من أهمية استراتيجية للاتحاد الأوروبي في صراعه طويل الأمد مع روسيا.
لكن يظل هذا السخاء تجاه مصر يعكس رؤية المفوضية فقط، فكلا التشريعين المطلوبين لتمرير حزمة المليارات الخمسة لم يتم التصويت عليه بعد، وعلى الأرجح سيكون تصويت البرلمان على الجزء الأكبر من الحزمة هو التحدي الأكبر.
كيف يرى البرلمان الأوروبي مصر؟
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2022، وهي الفترة التي شهدت تركيزًا عالميًا على مصر لتنظيمها قمة COP27، أصدر البرلمان الأوروبي بيانًا انتقد قائمة طويلة من الممارسات التي اعتبرها انتهاكات لحقوق الإنسان في مصر، وفي المقابل أصدر البرلمان المصري إعلانًا يعبر فيه عن استيائه الشديد من هذه الانتقادات.
لم يكن هذا هو البيان الوحيد للبرلمان الأوروبي، فقد أصدر بيانًا في أكتوبر الماضي، تزامنًا مع معركة انتخابات الرئاسة المصرية، انتقد فيه القبض على السياسي هشام قاسم والتضييقات التي تعرض لها المرشح أحمد الطنطاوي، حسب البيان.
هذا البرلمان سيكون له دور في التصويت على الحزمة الأكبر من القرض، الأربعة مليارات يورو، وإن كان أعضاؤه سيتغيرون بحكم أننا مقبلون على انتخابات جديدة للمجلس في يونيو/حزيران المقبل، لكن نظرة البرلمان لوضع حقوق الإنسان في مصر ستكون ركيزة أساسية لاتخاذ القرار، لأن من الشروط الأساسية للاستفادة من قروض الـ MFA احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وستتابع المفوضية مدى التزام مصر بشروط القرض الإصلاحية خلال فترة صرف القرض، ولديها الصلاحية لوقف الصرف مؤقتًا في حال المخالفة، على أن تقدم للبرلمان والمجلس تقريرًا عن أسباب وقف الصرف.
لكن اللافت أن المفوضية، في مسودة القانون الخاص بهذا القرض، دافعت عن الوضع في مصر. صحيح أنها بدأت حديثها بقول إن تحديات حقوق الإنسان في مصر لا تزال كبيرة، لكنها أشارت إلى اتباع مصر عددًا من الإصلاحات مثل إنهاء حالة الطوارئ باستثناء مناطق في سيناء، وإطلاق أول استراتيجية قومية لحقوق الإنسان، والإفراج عن ألف مسجون سياسي، وإطلاق الحوار الوطني.
وبجانب المسألة الحقوقية، فإن اتباع شروط صندوق النقد الدولي ركيزة أخرى في نظر الاتحاد الأوروبي لنكون مستحقين لتمويلات الـ MFA، كما يظهر من مسودات اتفاقي القرض، وهو تحدٍ ثانٍ، لأننا دخلنا في خلاف بالفعل مع الصندوق العام الماضي ساهم في تعثر الاتفاق لمدة عام.
في النهاية، سيظل المتحكم الرئيسي في القرار الأوروبي بشأن القرض هو المصالح التي يريدها الاتحاد الأوروبي من مصر.
ما المقابل؟
حسب البيان الأوروبي الصادر عن الشراكة المصرية-الأوروبية، الاستراتيجية والشاملة، فإن الاستراتيجية التي سيتم تمويلها عبر الحزمة الأوسع، الـ 7.4 مليار يورو، ستخدم العديد من الأهداف الاقتصادية والتنموية. لكن ربما يكون المحور المتعلق بالهجرة هو الأكثر مساسًا بالمصالح الأوروبية.
هذا القرض يدشن لمرحلة جديدة مع الاتحاد الأوروبي ستكون الأوضاع الاقتصادية والسياسية فيها محل مراقبة أكبر
لم يفصح الاتحاد الأوروبي حتى الآن عمّا يريده من مصر في هذا الشأن، لكنه أشار في البيان لضرورة تعزيز التعاون لضبط الحدود، بجانب معالجة جذور المشكلات التي تتسبب في الهجرة غير القانونية.
وحسب تقرير فاينانشال تايمز، المشار له أعلاه، فإن الاتحاد الأوروبي ينظر بإعجاب لمصر لأنها تمنع وصول المهاجرين غير الرسميين إلى حدود الاتحاد بشكل مباشر. لكن في الوقت نفسه لدى دول الاتحاد قلق بشأن الهجرة غير المباشرة، من مصر إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا. كما أن أوروبا تريد مساعدة مصر في استضافة لاجئي السودان.
إجمالًا، فإن أهمية هذا القرض لا تكمن في قيمته، وإن كانت كبيرة قياسًا بما يتاح تحت هذه الآلية، ولكن لدلالاته السياسية والاقتصادية، فهو يدشن لمرحلة جديدة من العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ستكون الأوضاع الاقتصادية والسياسية فيها محل مراقبة أكبر، وستحمل مراحل القرض المختلفة، من التشريع إلى الصرف، مؤشرات واضحة على قراءة دول الاتحاد للوضع في مصر.