يعرف الصحفي المحترف كيف ينتقي مصادره عن أسعار الصرف، فهو إما يعتمد على بيانات البنك المركزي، أو على المؤسسات البحثية الكبرى؛ حتى الأخيرة إذا وضعت تقييمًا مخالفًا للسعر الرسمي عليها أن تعرض منهجيةً علميةً تعزز بها وجهة نظرها. لكن في ظل أزمة العملة الصعبة الراهنة، انقلبت الآية وانتقل الهامش إلى المتن.
حتى بداية الربع الأخير من العام الماضي كان سعر الدولار في السوق الموازية يتحرك فوق نطاق الـ40 جنيهًا، ثم سجّل قفزات متتالية وسريعة حتى تجاوز الـ60 جنيهًا خلال يناير/كانون الثاني الحالي، والمفارقة أن مؤسسات مثل موديز وستاندرد آند بورز سرعان ما عدّلت توقعاتها لتكون أكثر اتساقًا مع هذه السوق.
كيف صارت سوقٌ غير رسمية، تنشط على جروبات واتساب وتتعرض لهجمات أمنية في بعض الأحيان، تتحكم في سعر صرف الدولار لهذه الدرجة؟
هناك ثلاثة أسباب رئيسية منحت هذه السوق المزيد من القوة والسيطرة.
أولًا: ندرة الدولار في البنوك
تمنحنا الدولة الحق في اقتناء الدولار وحرية التصرف فيه، لكن القانون يحدد القنوات الرئيسية التي نستطيع من خلالها تداول النقد الأجنبي، مثل البنوك وشركات الصرافة، وذلك حتى تظل في يد البنك المركزي دائمًا الأدوات الكافية للسيطرة على الأزمات. بالتالي إذا استشعر مثلًا ندرة الدولار في البنوك يمكنه أن يضخ من احتياطاته الأجنبية مبالغ كافية عبر آلية الإنتربنك، كيلا يشعر المتعاملون مع البنوك بوجود أزمة، ومن ثم يتحكم في توقعاتهم وتقديراتهم لسعر الصرف.
أفضل مؤشر لمعرفة نقص الدولار في الجهاز المصرفي هو صافي الأصول الأجنبية
لذا، إذا ما عجزت البنوك عن توفير الدولار للمتعاملين على اختلافاتهم، بدءًا من المواطن العادي الذي يرغب في الشراء أو السفر، إلى المستورد والمنتج المحلي، وإذا عجز المركزي أيضًا عن ضخ الكميات المطلوبة للبنوك، تصبح البيئة خصبةً لانتقال المعاملات في النقد الأجنبي خارج القنوات التي أرادتها الدولة، ومن ثم تكون أسعار الصرف خارج السيطرة.
أفضل مؤشر لمعرفة نقص الدولار في الجهاز المصرفي هو صافي الأصول الأجنبية للبنوك والبنك المركزي، فخلال الفترة بين بداية 2022 حتى نهاية 2023، تحوّل هذا المؤشر من فائض بـ9.6 مليار جنيه (أي أن أصول البنوك المقومة بالنقد الأجنبي كانت تزيد عن الالتزامات الأجنبية القائمة عليها بهذه القيمة) إلى عجز بـ833.9 مليار جنيه (أي زيادة الالتزامات عن الأصول).
وهو ما يُترجم في شكاوى لا حصر لها من عدم قدرة المستوردين والمنتجين المحليين على الحصول على النقد الأجنبي الكافي من القنوات الرسمية.
وكما هو معروف، كان لخروج المستثمرين الأجانب السريع والمفاجئ من أدوات الدين الحكومية دور رئيسي في خلق هذا العجز، فهؤلاء تسببوا في عجز صافي استثمارات المحفظة (أي الأوراق المالية) بـ20.9 مليار دولار، خلال 2021/2022، وهو ما امتص جزءًا كبيرًا من النقد الدولاري المتاح لدى الجهاز المصرفي.
يمكن توضيح أثر خروج الأجانب بطرح مثالٍ لمستثمر أجنبي اشترى إذن خزانة من وزارة المالية أجله 91 يومًا، يمثل هذا المستثمر مكسبًا كبيرًا للاقتصاد لأن الإذن مقوم بالجنيه، لذا فهو يبيع للجهاز المصرفي ثمنه بالدولار، والوضع الطبيعي هو أنه بانتهاء الأجل يشتري المستثمر إذنًا جديدًا لـ91 يومًا جديدة، وهكذا تظل دولاراته داخل جهازنا المصرفي.
لكن في حال أزمة مثل التي شهدناها في 2022، سيطلب المستثمر إما بيع الإذن في السوق الثانوية أو لا يجدد استثماره، وهنا تقع على الجهاز المصرفي مسؤولية توفير النقد الأجنبي الكافي لكي يتمكن هذا المستثمر من تحويل أمواله للخارج. وإذا كانت هناك طلبات كثيرة من المستثمرين بالخروج، فيعني ذلك استنزافًا عنيفًا للأصول الأجنبية للبنوك.
والسبب الرئيسي في هذا الخروج المفاجئ هو اتجاه البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بقوة لزيادة سعر الفائدة، بنحو 5% خلال فترة قصيرة، ولأن الديون الأمريكية من أكثر الاستثمارات أمانًا في العالم، فعندما تقدم فائدة مرتفعة تكون استثمارًا لا يُقاوَم في نظر أصحاب الأموال الساخنة.
ثانيًا: عدم القدرة على الاقتراض من جديد
عندما يتزامن نقص الدولار مع حلول أجال التزامات كبيرة على مصر تجاه العالم الخارجي، يزيد ذلك من ضغوط الأزمة، فخلال العام الحالي فقط يتوقع البنك المركزي أن نسدد نحو 33 مليار دولار أقساطًا وفوائد لديون سابقة، وهو ما يقترب من مجمل قيمة احتياطاتنا من النقد الأجنبي.
لا شك أن قرارات الاستدانة السابقة لها نصيب من المسؤولية عن الأزمة، لكن الأمر يزداد تعقيدًا عندما نكون عاجزين عن الاقتراض من جديد لتغطية التزامات سابقة.
منذ سبتمبر/أيلول 2021 لم نصدر سندات يوروبوند مقومة بالدولار في الأسواق الخارجية بسبب ارتفاع التوقعات للفائدة المفروضة عليها. وعندما حاولنا في فبراير/شباط 2023 أن نصدر شيئًا شبيهًا بهذه السندات؛ الصكوك السيادية المقومة بالدولار، اصطدمنا بسعر فائدة مطلوب من المستثمرين عند 10.8%، الذي يعد مرتفعًا قياسًا بالطروحات السابقة.
لذلك لم نكرر تجربة استدانة الدولار من الأسواق مرة ثانية حتى الآن، وبدلًا من ذلك لجأت وزارة المالية للاستدانة بعملات أخرى مثل اليوان الصيني أو الين الياباني لانخفاض الفائدة عليهما، وتفكر في الاقتراض بالدرهم الإماراتي والروبية الهندية، أو إصدار سندات بالعملات المحلية لدى دول البريكس.
لكن يظل أثر هذه المحاولات محدودًا بالنظر إلى أن الالتزامات الدولارية على مصر هي الأكبر على الإطلاق، وتمثل الديون الدولارية 68.4% من إجمالي الديون الخارجية حتى يونيو/حزيران 2023.
صحيح أن صندوق النقد الدولي لم يتأخر عن مساعدتنا، حيث أعلن في ديسمبر 2022 خطة لتوفير سيولة لمصر تغطي فجوة التمويل الأجنبي. لكننا لم نحصّل كامل أقساط القرض المتفق عليه، بسبب تمسك الصندوق بتبني سعر صرف مرن في وقت رأت فيه الدولة أن ذلك يمثل تهديدًا للأمن القومي.
ومع طول أمد الخلاف مع صندوق النقد الدولي، منذ أن بانت أولى أماراته في مارس/آذار الماضي عندما لم تصدر المؤسسة الدولية مراجعاتها لبرنامجها الإصلاحي مع مصر، وتوقعات السوق الموازية لسعر الصرف في تصاعد مستمر.
ثالثًا: الاغتيال المعنوي للجنيه
يرى بعض فلاسفة العلوم السياسية أن الدولة تفرض الضرائب والرسوم على خدماتها لا بهدف جمع الأموال، فهي ليست في حاجة للنقود لأنها هي من تخلق النقود، لكن هدفها الرئيسي هو أن تخلق طلبًا من المقيمين لديها على عملاتها المحلية، ومن ثم تجعل لها قيمة كبيرة في مخيلتهم.
حدث عكس ذلك خلال الأزمة الأخيرة. تحت ضغط الاحتياج القوي للنقد الأجنبي اندفعت العديد من أجهزة الدولة لتسعير خدماتها بالدولار، مثل اتجاه هيئة المجتمعات العمرانية لطرح الأراضي المتميزة لديها للبيع بالعملة الأمريكية أو اشتراط شركة العاصمة الإدارية الجديدة سداد 20% من قيمة الأرض بالدولار.
نستطيع تخيل كيف استطاعت حلقات من المتداولين أن تجد بيئة خصبة تفرض من خلالها تسعيرًا موازيًا للدولار
يختلف ذلك عن مبادرة وزارة المالية لتيسير استيراد السيارات، التي تستهدف المصريين بالخارج في الأساس، لكن الأراضي المشار إليها في الفقرة السابقة كانت تستهدف المقيمين في مصر، وساهم هذا التوجه في تشجيع الكثيرين على اللجوء للسوق الموازية لشراء الدولار والتعامل به مع الدولة، ما منحه شرعية وأرضًا أكبر ليفرض سطوته على الواقع.
وحسب ما كشفه تقرير سابق لـ المنصة، فإن بعض البنوك، تحت ضغط الأزمة أيضًا، باتت تشترط على المستوردين توفير 120% من قيمة الشحنة المستوردة، وبيع الـ20% الزائدة للبنك، كمحاولة من البنك للنفاذ للسيولة الدولارية في السوق الموازية.
على أساس هذه الخلفية، نستطيع تخيل كيف استطاعت حلقات من المتداولين للنقد الأجنبي أن تجد بيئة خصبة تفرض من خلالها تسعيرًا موازيًا للدولار.
وخطورة انتقال هذا الهامش إلى متن حياتنا اليومية أن الاقتصاد بأكمله يصبح رهينةً لتوقعات المضاربين، فعلى أساس سعر الدولار الموازي، الذي بات يتحدد بناء على عمليات الأربتراج التي تتم على سهم البنك التجاري في بورصة لندن أو على سعر جرام الذهب، يحدد المنتجون السعر المعروض على المستهلك النهائي، لذلك لا غرابة في أن نجد سعر الحديد يزيد ثلاث مرات في شهر واحد، أو أن يسجل الطعام معدلات تضخم تتجاوز الـ60%.
الضوء الذي يترقبه الجميع في نهاية النفق، هو أن تنتهي مفاوضات الغرف المغلقة الدائرة حاليًا بين مصر وصندوق النقد الدولي على اتفاق جديد لتوفير تمويلات تنهي حالة ندرة الدولار في الاقتصاد، ومن ثم تجفف منابع السوق الموازية.
ولن يتم هذا الاتفاق، وفق توقعات غالبية المحللين، إلا بتصحيح قوي لسعر الدولار أمام الجنيه، في محاولة للاقتراب من المستويات التي فرضتها السوق الموازية، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمامنا.
السيناريوهان المرجّحان للمواجهة مع هذه السوق كلاهما مر. إما نجاح محاولة الصندوق، التي لن تتم إلا بخفض قوي للجنيه في السوق الرسمية، أو فشل المحاولة لعدم القدرة على جذب تمويلات كافية تنهي حالة ندرة النقد الأجنبي، مثلما حدث بعد تخفيض الجنيه في يناير/كانون الثاني 2023.
وتظل الآمال معلقة في المدى الطويل بالقدرة على استعادة تدفقات منتظمة للنقد الأجنبي، تعيد الجنيه للتعافي في مواجهة العملة الأمريكية.