في منتصف مارس/آذار الماضي كان من المفترض أن يتمم صندوق النقد الدولي المراجعة الأولى لاتفاق قرضه الأخير مع مصر. ولكن بسبب عدم التزام البلاد بالشروط المتفق عليها تم تأجيل المراجعة، ما ينذر بأزمة غير مسبوقة منذ عقود. في هذا الحوار نناقش مع الصحفي والباحث الاقتصادي، وائل جمال، الأسباب الرئيسية وراء تباطوء تنفيذ الاتفاق، والآثار الاجتماعية لتفاقم أزمة المديونية في البلاد.
"في اتفاقات صندوق النقد هناك شروط أساسية لا يقبل التنازل عنها، وفي حالة الاتفاق الأخير كانت هناك مطالبات واضحة بتبني سعر صرف مرن للجنيه، والخصخصة، وقد تعثر تطبيق الخصخصة"، كما يشرح جمال.
وكان البنك المركزي استجاب لمطالبات صندوق النقد في يناير/كانون الثاني، إذ سمح للجنيه بالانخفاض أمام الدولار بنحو 25%، لكنه تعهد أيضًا بخصخصة حصص من الأصول العامة بقيمة 2 مليار دولار قبل نهاية يونيو/حزيران، ولم يتمم منها إلا جزءًا ضئيلًا.
"حدث تعثر واضح في عملية الخصخصة لأننا لم نتمكن من الاتفاق مع المشترين الأساسيين من الخليج، وبالتالي الموارد المستهدفة من الاتفاق لم تتوفر"، كما يضيف جمال، الذي يدير وحدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
ويشير جمال إلى أن ما زاد الأمر تعقيدًا، هو عدم القدرة على الحفاظ على مرونة سعر الصرف "الآثار الاجتماعية (للتعويم) كانت فادحة، وأصبح هناك تخوف لدى الحكومة من النتائج الاجتماعية والاقتصادية لأي خفض جديد".
في بداية العام كانت هناك توقعات أكثر تفاؤلًا بأن يتعافى الجنيه من جديد بعد تعويم يناير القوي، لكن سرعان ما تحول الأمر للنقيض مع اتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والموازي. ويرى جمال أن السبب في هذا التحول العنيف هو سياسات الصندوق التي تنصح بالسعر المرن دون وجود أي قيود على حركة رؤوس الأموال، "مصر طبقت السياسات العامة المطلوبة (من الصندوق). السياسات نفسها هي المشكلة".
وكان المحافظ السابق للبنك المركزي، طارق عامر، سعى للحد من تدفق العملات الصعبة للخارج عن طريق تقييد الواردات، وهو الإجراء الذي انتقده الصندوق بقوة في الاتفاق الأخير، وقام المحافظ الحالي، حسن عبد الله، بإلغاء هذه القيود في نهاية العام الماضي.
ويرى جمال أن فكرة تقييد الواردات في حد ذاتها لم تكن خاطئة، لكن كان يجب تطبيقها في إطار تصور عام "المشكلة أننا في مصر نطبق كل السياسات لاعتبارات نقدية وحسب، ولا نضع في اعتباراتنا مصالح الاقتصاد الحقيقي واحتياجات الصناعة والآثار الاجتماعية لهذه الإجراءات".
وخضعت إجراءات عامر لانتقادات عنيفة من مجتمع الأعمال، كونها ساهمت في الحد من تدفق مدخلات الإنتاج للصناعة.
ويرى جمال أن المؤشر الأكثر تعبيرًا عن فشل سياسات الصندوق هو الديون الخارجية التي زادت "بشكل مجنون" على حد تعبيره منذ تدخل الصندوق بقوة في السياسات المصرية منذ اتفاقه مع البلاد في 2016، لتصل إلى نحو 163 مليار دولار في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وفي مقابل إجراءات الصندوق، التي تركز دائمًا على النواحي المالية والنقدية، "غاب عن السياسات الحكومية وجود سياسات صناعية متماسكة. الإجراءات التي تصفها الحكومة بالتنموية هي بالأساس تتعلق بالإنفاق على البنية الأساسية والإنشاءات، التي تحولت إلى حوت يبتلع كل شيء، ولا توفر فرص عمل مستدامة" كما يصفها جمال.
في مواجهة النقد العنيف، يتبنى الخطاب الحكومي تبريرًا متكررًا لتفاقم الدين الخارجي وضعف العملة، وهو الظروف الخارجية المتعلقة بالتضخم العالمي والسياسات الأمريكية لرفع الفائدة، وهو ما يشبه حالة الكثير من الاقتصادات النامية، مثل الأرجنتين التي تتعرض لأزمات مشابهة لمصر.
"الأرجنتين مثال ظريف" كما يقول جمال ممازحًا، في إشارة إلى أنها أكبر مقترض في العالم من الصندوق، تليها مصر، وبالتالي يرى أن سياسات الصندوق هي التي ساهمت في جعل البلدين أكثر هشاشة أمام الضغوط الدولية الحالية.
في حالة الخصخصة، فإن الإرادة السياسية لبيع الأصول العامة بدت حاضرة من قبل اتفاق الصندوق، مع إعلان الحكومة عن نيتها بيع حصص في أكثر من 30 شركة عامة، فما الذي أدى لتعثر البرنامج؟
"المعضلة أن مسألة التقييم (للأصول العامة) أصبحت محورية مع تقلب سعر الصرف والتوقع المستمر لانخفاض جديد (للعملة).. إذا أقدر أشتري بسعر أقل، فسأنتظر"، كما يضيف جمال.
وما يزيد من صعوبة بيع الأصول العامة هو محدودية عدد المشترين المرشحين، والذين باتوا يتركزون بشكل كبير في الصناديق السيادية الخليجية. وذلك على خلاف سياسات الخصخصة في التسعينيات أو بداية الألفية، التي شهدت تنوعًا كبيرًا من مستثمري الدول المتقدمة إلى مشترين من دول نامية مثل الهند وإندونيسيا.
ويعزو جمال محدودية عدد المشترين المتنافسين على الأصول المصرية إلى التباطؤ الاقتصادي العالمي الراهن من جهة، وتوافر قدر كبير من الوفورات المالية في الخليج بسبب ارتفاع أسعار النفط، بجانب طريقة طرح الأصول نفسها، والتي عادة ما تكون مغلقة على مستثمرين خليجيين بعينهم "أصبحنا نتفاوض من منطقة ضعف، وهذا يجعل شروط البيع دائمًا أسوأ".
وبغض النظر عن مشاكل البيع، ينتقد جمال بقوة تصورات الصندوق عن الخصخصة "الانطلاق من أن حل مشكلة الاقتصاد المصري هي في الخصخصة، وربطه بعوائد العملة الأجنبية أمر كارثي".
ويشرح أن استراتيجية الصندوق لا توفر حلولًا مستدامة للاقتصاد، لأن المشترين "سيأخذون أصولًا ناجحة جدًا عالية الربحية من أجل عوائد تتحقق مرة واحدة، ثم يقوم هؤلاء (المستثمرين) بتحويل أرباحهم للمراكز الخارجية (كل سنة)".
محصلة استمرار ضَعف الجنيه والقفزات المتوالية في الدين الخارجي، هي وضع اجتماعي متأزم، وستزيد فاتورة الضغوط الاجتماعية مع استمرار الأزمة الراهنة لوقت أطول" إذا جمعنا الإنفاق على معاشات تكافل وكرامة والتموين، سنجد أنه انخفض هذا العام 4% بالقيمة النقدية، لو أضفنا التضخم المتوقع لهذا العام يعني أن القيمة الحقيقية ستتراجع بأكثر من 20%".
وكانت آخر تقديرات لأعداد الفقراء في مصر تشير إلى أن نحو ثلث المجتمع تحت خط الفقر، ويتوقع جمال أن تزيد أعداد الفقراء مع الأزمات المتوالية منذ وباء كورونا وحتى موجة التضخم الحالية.
ولا يرى جمال مخرجًا قريبًا من الأزمة الراهنة "الخروج صعب جدًا (...) الانكشاف المالي سيظل مستمرًا للأسف لفترة مقبلة، خاصة مع تفاقم الأوضاع العالمية وتوقعات التباطوء العالمي خلال العام المقبل، وهو ما سيجعل الظروف أصعب".