بحسب تقديرات البنك المركزي المصري، فإن قيمة ديوننا الخارجية خلال عام 2012 كانت تقتصر على 34.4 مليار دولار، ولكن بعد أقل من عشرة أعوام على هذا التاريخ كان الدين يقفز بأكثر من 100 مليار جنيه ليصل إلى 137.8 مليار دولار في 2021، ويرى البعض أن هذه المديونية الكبيرة كانت نتيجة لأزمات متلاحقة خلال هذا العقد، مثل ضعف الجنيه قبل 2016 أو وباء كورونا من بعده، بينما يشير آخرون إلى الإسهام الكبير للمشروعات القومية التي تم تنفيذها بوتيرة سريعة بالاعتماد على التمويلات الدولية.
وفيما كانت أوجه الإنفاق الأساسية التي استلزمت الاستدانة متعلقة بمشروعات قومية مثل تطوير السكك الحديدية، فإن هناك مشروعات أخرى تبدو غير ضرورية مثل بناء البرج الأيقوني بالعاصمة الإدارية الجديدة، وما يشغل بالنا حاليًا بشأن الدين الخارجي، ليس فقط قيمته أو زيادة وتيرة ارتفاعه خلال السنوات الماضية، لكن أيضًا تداعيات كلفة سداده وسط عالم مُهرول نحو رفع أسعار الفائدة، وتحديات توفير السيولة، وتأمين الاحتياطي الأجنبي، وانعكاس ذلك على قيمة العملة.
هل المشروعات القومية مسؤولة فعلًا؟
السكك الحديدية واحدة من أبرز القطاعات التي شهدت تحولات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، مع اتجاه الدولة لضخ استثمارات ضخمة بهدف تحديث الأسطول الخاصة بها، وبحسب البيانات الرسمية فإن وتيرة النمو في عدد العربات والجرارات تسارعت بشدة مؤخرًا بالمقارنة بمستوى التطوير الذي شهدته هذه الخدمة في الفترة بين 1952 و2010.
وسيساهم المواطنون في سداد جانب مهم من تكلفة هذا التطوير، عن طريق تحمل الزيادات الأخيرة في أسعار تذاكر السفر الداخلي، لكن تضخم سعر التذكرة ليس كافيًا خاصة وأن جزءًا كبيرًا من المعدات الجديدة للسكة الحديد يأتي من الخارج، ما يحتم التوسع في الاستدانة بالعملة الصعبة.
وتعكس بيانات السكك الحديدية جانبًا من اتفاقيات التمويل الخارجي الذي تم ضخه في البنية الأساسية لهذه المنظومة خلال السنوات الأخيرة، إذ عقدت وزارة النقل وهيئة السكك الحديدية أكثر من اتفاق مع شركات مثل جنرال إليكتريك وبروجريس ريل لوكوموتيف الأمريكيتين وترانسماش هولندج الروسية، لتوريد عربات وجرارات جديدة، وتذهب تقديرات إلى أن 85% من صفقات العربات الجديدة ممولة من جهات خارجية.
وبحسب تصريحات لوزير النقل خلال العام الماضي، رُصدت ميزانية بقيمة 225 مليار جنيه لتطوير قطاع السكك الحديدية، لا تقتصر على شراء العربات الجديدة ولكنها تشمل عملية تحديث للبنية الأساسية لهذه المنظومة بهدف الحد من الحوادث.
ولا تتوفر بيانات إجمالية عن حجم التمويلات الخارجية لهذه التحديثات، لكن الحساب الختامي لهيئة السكك الحديدية يعكس قفزة واضحة في حجم القروض والاستثمارات التي جرت بالهيئة خلال 2020، ما يعطي مؤشرًا على التكلفة المرصودة لخطط التحديث.
هذا النمط من الطموح الاستثماري للدولة تكرر في العديد من القطاعات خلال السنوات الأخيرة، ما جعل للمشروعات القومية دور رئيسي في مفاقمة الديون الخارجية، على سبيل المثال تتولى الهيئة القومية للأنفاق تنفيذ مشروع كبير لتأسيس قطار معلق يربط شرق القاهرة بغربها والمعروف بـ "المونوريل"، تصل تكلفته الإجمالية إلى نحو 3 مليارات دولار، وتم الإعلان في بداية العام الماضي عن اتفاق قرض مع جهات خارجية لتمويل المشروع بقيمة 1.8 مليار يورو.
ولا تتوفر حسابات ختامية مستقلة للهيئة عن حجم القروض الموجهة لها، لكن ما يظهر من بيانات الموازنة أن حجم الاستثمار في هذه الهيئة زاد تقريبًا أربعة أضعاف خلال الفترة من 2014 إلى 2021.
ولدينا أيضًا استثمارات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في العاصمة الإدارية الجديدة، التي لا تقتصر على أعمال ترفيق الأراضي ولكن تمتد إلى النشاط العقاري المباشر، فالهيئة تستثمر في بناء 20 برجًا في العاصمة من ضمنهم البرج "الأيقوني"، تتولى تشييدها شركة مقاولات صينية.
وساهمت الصين في تدبير تمويلات لهذه الأعمال في صورة قروض مقدمة لمصر. ويظهر التوسع في أعمال الهيئة بشكل واضح في قفزات حجم الاستثمارات التي تقوم بها.
وقبل هذه الحالات كانت لدينا تجربة قطاع الكهرباء، الذي كان من أبرز صفقاته بناء ثلاث محطات عملاقة للكهرباء بالتعاون مع شركة سيمنس الألمانية، بلغت قيمتها الإجمالية ستة مليارات يورو وموَّلتها جهات خارجية.
الاقتراض من أجل التطوير
يرى الباحث الاقتصادي وأستاذ العلوم السياسية، عمرو عادلي، أن الاعتماد القوي على تمويل المشروعات الكبرى من ديون خارجية، يمكن تفسيره إلى حاجة تلك المشروعات لـ"مكون مستورد بنسبة كبيرة وهذا يتضح في مشروعات محطات الكهرباء والقطار السريع والسكك الحديد، فالعقود مع شركات أجنبية ومكونات المشروعات لا تنتج في مصر".
وباعتبار أن بعض المشروعات قد تكون مفيدة للمجتمع على المدى الطويل مثل تطوير السكك الحديدية على عكس مشروع كالبرج الأيقوني، لكن الاعتمادية على الخارج في تمويل التطوير تثير المخاوف بشأن هذه الديون، وفقا لما يشير إليه عادلي، ففي كل الأحوال يتم توجيه مشروعات الخدمات العامة للبيع المحلي ولا توفر إيرادات دولارية بالضرورة تساعدنا على سداد الديون، مثل أنشطة التصدير.
لا ينفي ذلك أن هناك جهودًا من الدولة للحد من الاعتماد على هذه القروض الخارجية، على سبيل المثال جرت تحديثات واسعة في شركة سيماف مؤخرًا بهدف تعزيز قدراتها على إنتاج عربات القطار بدلًا من استيرادها من الخارج، ورصد الصندوق السيادي وهيئة منطقة قناة السويس الاقتصادية وشركات خاصة استثمارات ضخمة لتأسيس مصنع محلي لعربات القطار. لكن لا يوجد تصور شامل أعلنته الدولة حول كيفية تنمية مثل هذه الجهود للحد من عبء الاستدانة الناتج عن مشروعات الدولة.
كما أن ما يثير القلق هو أن ديون المشروعات الخدمية تأتي في وقت ضعفٍ واضحٍ للاستثمار الأجنبي المباشر، رغم كوننا وجهة الجذب الأقوى للاستثمار على مستوى أفريقيا.
على أية حال فإن المشروعات القومية، على ضخامتها، لا تمثل الدافع الوحيد لارتفاع الدين الخارجي، هكذا يقول عادلي، فهو يشير أيضا إلى أهمية الديون الخاصة ببناء احتياطي النقد الأجنبي، حيث يتم الاعتماد على هذا الاحتياطي لتوفير الموارد الدولارية لخدمة الدين، أي سداد فوائد الديون القديمة، وتغطية تكاليف الواردات الاستراتيجية للبلاد.
في سبيل الاحتياطي
بلغت قيمة احتياطات النقد الأجنبي 34 مليار دولار تقريبًا في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2021، وكافح البنك المركزي المصري خلال السنوات الأخيرة للحفاظ على هذا الاحتياطي عند المستوى الآمن، بما يعادل أكثر من 3 أشهر من قيمة الواردات، لذا كلما كانت تأتينا صدمة خارجية تؤثر على إيراداتنا من التصدير أو السياحة كانت الدولة تسد هذه الفجوة بالاستدانة الخارجية.
"الزيادات الأخيرة في الدين الخارجي كانت لتعويض الفجوة التمويلية الناتجة عن الجائحة والتي نتج عنها تراجع كبير في إيرادات السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر" كما يقول للمنصة رئيس قطاع البحوث في المجموعة المالية هيرميس، أحمد شمس.
وقبل كورونا، كنا واجهنا ضغوطًا بشأن جذب الاستثمارات الأجنبية خلال فترة المضاربة القوية على الدولار، وعلى الرغم من تيسير هذه الضغوط نسبيًا بعد تعويم 2016، ظل الاستثمار الوافد أقل من احتياجاتنا الفعلية، "خاصة في ظل احتياج متراكم تلزمه موارد دولارية كبيرة جدًا، في وقت كانت السياحة متضررة" بحسب ما قالته للمنصة محللة الاقتصاد الكلي ببنك استثمار الأهلي فاروس، إسراء أحمد .
يضاف إلى ماسبق عامل حركة أسعار الفائدة العالمية، ففي ظل التوقعات باتجاه الولايات المتحدة لرفع الفائدة خلال الفترة المقبلة، كانت أسواق ناشئة مثل مصر تستدين بشكل متسارع لاستغلال الأسعار المنخفضة حاليًا.
تقول إسراء "إذا تحدثنا عن 2021 بشكل خاص، ربما رغبت الحكومة المصرية في انتهاز فرصة انخفاض الفائدة عالميًا، قبل عودة أسعار الفائدة للارتفاع مرة أخرى وهو ما نحن على أعتابه حاليًا".
ينبهنا تعليق إسراء أحمد إلى أهمية سعر الفائدة عالميًا بالنسبة للدول التي تعتمد بقوة على تمويل نفقاتها من الاستدانة الخارجية، فكلما ارتفعت الفائدة في أسواق مالية متقدمة مثل الولايات المتحدة زاد إقبال الممولين على شراء سنداتها، ما يدفع دولًا نامية مثل مصر لرفع الفائدة لديها، ومن ثم زيادة تكاليف الديون على عاتقها.
وكشف محضر الفيدرالي الأمريكي مطلع العام الجاري، عن توقعات برفع أسعار الفائدة في أمريكا بأسرع من المتوقع لمواجهة التضخم المرتفع، فمن المنتظر أن يشهد العام الجاري ثلاث زيادات للفائدة الأمريكية، وهو ما يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض الدولية، خاصة بعدما أعلن بنك إنجلترا رفع أسعار الفائدة فعليًا نهاية العام الماضي.
وتمثل تكلفة خدمة الدين عبئا على الموازنة العامة للدولة، إضافة إلى ذلك فإن هناك ضغوط محتملة من تراجع الأصول الأجنبية لدى البنوك، حذر منه تقرير مؤسسة فيتش الصادر الشهر الجاري، وحال تراجعت الأصول الأجنبية فهذا سيجعل السيولة من العملات الأجنبية والقدرة على الوفاء بخدمة الدين "مقيدة"، كما قد يدفع التضخم العالمي إلى هروب السيولة الأجنبية من الاستثمار في ديون الأسواق الناشئة منجذبة للفائدة المرتفعة في الولايات المتحدة.
اقتراض أغلى وضغط على الجنيه
عند الحديث عن مخاطر أعباء الديون في وقت الفائدة المرتفعة ينبه شمس إلى أن الديون القائمة بالفعل لا تتأثر بتغير أسعار الفائدة، كما أن نسبة مهمة من هذه الديون أتت من مؤسسات غير تجارية، البنك وصندوق النقد الدوليين، بسعر فائدة غير مرتبط بالسوق. لكنه يضيف أن تغير أسعار الفائدة "سيؤثر سلبًا بالتأكيد على تكلفة الاقتراض الجديد".
وتقول إسراء، إن رفع الفائدة "سيزيد من عبء تكاليف الاقتراض الخارجي وتكلفة خدمة الدين، لأنه يرفع العائد الذي تتكبده حكومات الأسواق الناشئة عند إصدار سندات دولية أو الاتفاق على قروض من مؤسسات دولية".
وفي أوقات ارتفاع الفائدة وتراكم الديون تزيد مخاطر حركة المضاربات، لذا يخشى البعض من أن تتأثر قيمة الجنيه إذا شعر المستثمرون بأن الدولة تواجه ضغوطا قوية لتدبير العملة الصعبة لتغطي احتياجاتها الأساسية.
وترى إسراء أن "تغير سعر الصرف يتوقف على مدى قدرة الحكومة على توفير التمويل الخارجي اللازم، وهو أمر نجحت فيه الحكومة بشكل كبير خلال أزمة كورونا تحديدًا، وأيضا مدى سرعة تعافي الحساب الجاري المصري وميزان الخدمات من تبعات الجائحة".
وتراجع عجز الميزان التجاري إلى 2.39 مليار دولار خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، مقابل 3.08 مليار دولار، خلال نفس الشهر من العام الماضي، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وتضيف"حتى هذه اللحظة يبدو الجنيه المصري متماسكًا، ومساره سيكون أكثر وضوحًا عندما يتحرك الفيدرالي بشكل فعلي، حينها يمكن تقييم أثر ما يحدث خارجيًا على الجنيه المصري ومدى وجود ضغوط قد تؤدي لتحركه".