
القطاع الخاص مزودًا للمياه والكهرباء.. تحسين أم تسليع؟
في عام 2015، مرَّر البرلمان قانونًا جديدًا لتنظيم قطاع الكهرباء، ربما لم يلتفت له الكثيرون، إذ كان الجدال حول الطاقة في هذا العام منصبًا على برنامج الرفع التدريجي لتعريفة الكهرباء، الذي لا يزال مستمرًا حتى الآن.
لكن القانون انطوى على مادة تسمح بخصخصة الكهرباء لم نشعر بآثارها إلا قبل أسابيع عندما أعلنت الحكومة عن السماح بأول صفقة تبيع فيها محطات كهرباء غير مملوكة للحكومة الطاقة للجمهور مباشرة، وبالتزامن صدر قانون جديد لتنظيم قطاع مياه الشرب، يحمل نصوصًا لخصخصة القطاع شديدة التشابه مع قانون الكهرباء.
فهل نحن على أعتاب حقبة جديدة من خصخصة سلع أساسية مثل المياه والكهرباء ظلت تُعامل عقودًا طويلة باعتبارها خدمةً غير قابلة للتسليع؟
من يملك القرار؟
بالرغم من أن قانوني تنظيم مرفق الكهرباء والمياه يفتحان المجال لأول مرة لشركات القطاع الخاص للعمل بجوار الدولة في تقديم هذه الخدمات، فإنهما احتفظا لمجلس الوزراء بالحق في إقرار التعريفة، ما يعطي انطباعًا بأن الدولة ستظل لها الكلمة الأخيرة في تحديد أسعار هذه الخدمات الأساسية.
لكن بالاطلاع على نصوص القانونين، نجد أن مواد التعريفة لا تجعل الدولة حرةً بالكامل في تثبيت السعر، إذ إنها مطالبة بتحديد التعريفة على أسس اقتصادية، ما يجعل هذه الخدمات أشبه بقطاعي الأدوية والأسمدة اللذين تملك الدولة قرار تسعيرهما، لكنها تحرك السعر باستمرار بدعوى تشجيع المنتجين من القطاع الخاص.
على الأرجح سنرى سيناريو خصخصة الكهرباء يتكرر مع قطاع المياه في عام 2030
وتنص المادة الرابعة من قانون الكهرباء على أن يحدد جهاز تنظيم المرفق "الأسس الاقتصادية السليمة" لحساب التعريفة، ويمنح مجلس الوزراء حرية الالتزام بالسعر الاقتصادي أو سداد الفارق "الدعم" للشركات المنتجة للكهرباء في حال الرغبة في خفض السعر، ويحمل قانون "المياه" نصًا مشابهًا في المادة 16 من الباب الثاني. وينتقد الخبير الاقتصادي إلهامي الميرغني التوجه نحو خصخصة الخدمات التي من المفترض أن توفرها الدولة بأسعار تناسب الطبقات والشرائح الاجتماعية المتفاوتة، حيث سيرتفعُ سعرُها تدريجيًا إلى أن يتلاشى دور الدولة، و"يُترك المواطن فريسةً لشركات القطاع الخاص الباحثة عن الربح في المقام الأول وليس تحسين الخدمة للمستهلك"، يقول لـ المنصة.
يتفق معه النائب البرلماني فريدي البياضي، نائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، في التحذير من الاتجاه الواضح للدولة مؤخرًا للتخارج من خدمات أساسية، وارتباط دخول القطاع الخاص بارتفاع سعر الخدمة.
"الدولة توسعت في الفترة الأخيرة بتأجير مستشفيات حكومية للمستثمرين وتمت إعادة تسعير الخدمة لتحقيق المكاسب، وهو ما قد يتكرر مستقبلًا في القطاع التعليمي مع قانون التعليم الجديد"، كما يصرح البياضي لـ المنصة.
وخلال العام الماضي صدر قانون يمنح القطاع الخاص امتياز إدارة منشآت طبية عامة، وبعد خصخصة مستشفى "هرمل للأورام" تحت مظلة هذا القانون تصاعدت احتجاجات المرضى بسبب رفع أسعار الخدمات.
فيما يرهن الخبير في قطاع الكهرباء وعضو حزب العيش والحرية أكرم إسماعيل تحديد التعريفة بالتقديرات السياسية للدولة بغض النظر عن طبيعة الجهة المقدمة للخدمة "الحكومة في طريقها للسوق الحر الذي ينادي به وزير الكهرباء، لكنها ما زالت أيضًا تتحمل جزءًا من التكاليف عن الشرائح الدنيا التي تضم محدودي ومتوسطي الدخل لاعتبارات مجتمعية وأمنية".
القطاع الخاص والخدمات الأساسية
كان مفترضًا أن يبدأ القطاع الخاص في الدخول إلى خدمة الكهرباء بعد خمس سنوات من صدور القانون الجديد المنظم للقطاع، لكن في 2021 تم مد المهلة ثلاث سنوات جديدة، ما مهد الطريق أمام أول أربع صفقات تنتج فيها شركات خاصة هذا العام الكهرباء لمنتجين صناعيين، بدون أي وساطة حكومية، وذلك بدعم من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار.
وعلى الأرجح سنرى سيناريو الكهرباء يتكرر في قطاع المياه عام 2030، فقد منح قانون المياه، الصادر هذا العام، الجهات الحكومية المقدمة للخدمة مهلة خمس سنوات من تاريخ العمل باللائحة التنفيذية لتوفيق أوضاعها استعدادًا للدخول في منافسة مع القطاع الخاص، حسب المادة الثانية من القانون.
ويحذِّر الباحث في مجال المياه والبيئة عبد المولى إسماعيل من أن التجارب العالمية المشابهة في هذا المجال أدت إلى تهميش الفئات الأكثر فقرًا وعمقت الفجوة بين من يمكنهم الوصول إلى المياه ومن لا يستطيعون تحمل تكاليفها.
ويضرب إسماعيل مثالًا بنماذج تكرر فيها إسناد إدارة الشبكات المائية لشركات عالمية متخصصة بإيعاز من صندوق النقد الدولي في سبيل الحصول على قروض جديدة، وهو ما حدث مع النموذج البوليفي في منتصف التسعينيات، مع إقدام الحكومة على تأجير قطاع المياه في مدينة كوتشابامبا في مزاد لتحالف متعدد الجنسيات لمدة 40 عامًا.
وبسبب هذا التعاقد زادت قيمة الفاتورة على سكان هذه المدينة بمقدار 20 دولارًا في الشهر، ما يعادل خُمس دخلهم على الأقل[مصدر]. واندلعت احتجاجات متواصلة من السكان ضد ممارسات الشركة حتى اضطرت الحكومة في النهاية إلى إلغاء التعاقد وإعادتها إلى الملكية العامة.
إذا اقتصرت عمليات الخصخصة على أنشطة المصانع ستخف تكلفة الدعم دون المساس بالخدمات المقدمة للمواطنين
لا تقتصر التجارب السيئة على الدول النامية، إذ تشير تجربة فرنسا التي اتبعت نهج الشراكة بين القطاعين العام والخاص في إدارة مرفق المياه منذ عقود طويلة، لكنها مؤخرًا بدأت تعيد بعض هذه الخدمات للإدارة العامة بسبب الفساد وارتفاع تكلفة إدارة الخدمة عندما يتولاها القطاع الخاص.
"هناك دائمًا شكوكٌ في قدرة القطاع الخاص على تقديم الخدمة بالكفاءة ذاتها التي تقدمها الدولة، وهو ما أدى إلى فشل خصخصة هذا المرفق في الكثير من البلدان"، كما يؤكد عبد المولى إسماعيل لـ المنصة.
تنافس من أجل المواطن
لكنَّ فريقًا آخر من الخبراء يرى في دخول القطاع الخاص مزيدًا من المنافسة، ومن ثم رفع مستوى الخدمة، ورفع عبء الإدارة عن الأجهزة الحكومية. فمع التنافس، سيحاول الجميع إرضاء الجمهور بخدمة جيدة وأسعار مناسبة، كما يتوقع خبير الطاقة مؤسس منصة هيدروجين إينتليجنس أسامة فوزي.
وحسب تقرير سابق لـ المنصة، فإن صفقات الكهرباء الأخيرة قد تكون بدايةَ موجةٍ من خصخصة إنتاج الطاقة للصناعات كثيفة الاستهلاك مثل الأسمدة والأسمنت، ما سيقلص الدعم الموجه للكهرباء في الموازنة.
ولا يرى أكرم إسماعيل مانعًا لخصخصة الكهرباء في الخدمة المقدمة للمصانع، فهذا سيساعد على تخفيف تكلفة دعم الغاز المقدم لإنتاج الطاقة للنشاط الإنتاجي دون المساس بالخدمة المقدمة للمواطنين.
ويستحوذ القطاع الصناعي على 27.3% من إجمالي الكهرباء المستهلكة في 2022-2023، بينما يمثل استهلاك المنازل النسبة الأكبر 37%.
وسعت الدولة لتحفيز القطاع الخاص على إنتاج الطاقة المتجددة منذ عام 2014 عندما أصدرت قانونًا بهذا الشأن يحمل الرقم 203 انطوى على فرص للقطاع الخاص لإنتاج الطاقة للدولة قبل أن تُقدم الأخيرة على دمجها في مزيج الطاقة الموجه للمستهلكين، لكن مساهمة الطاقات الجديدة والمتجددة في مزيج إنتاج الكهرباء لا تزال تقتصر على 11.6%، في وقت تطمح فيه الدولة لرفع هذه النسبة إلى 65% في 2040.
ويثق خبير الطاقة أسامة فوزي في قدرة القطاع الخاص على زيادة مكون الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة بمصر، ما يحدُّ من عبء تكلفة استيراد الغاز المتصاعدة على مصر في الوقت الراهن.
يؤكد لـ المنصة على أن "ما طرأ خلال السنوات الماضية بزيادة فاتورة الاستيراد من الغاز الطبيعي المستخدم في إنتاج الكهرباء وتحولنا من مصدِّرين إلى مستوردين بفعل التغيرات الجيوسياسية يجب أن يحفز الحكومة لرفع أياديها عن قطاع الكهرباء ودعم القطاع الخاص للتحول السريع للطاقة المتجددة".
ربما تساهم الخصخصة في حل معضلات مزمنة مثل زيادة انفراد الدولة بعبء تدبير الطاقة للمواطنين والقطاع الإنتاجي، لكن ترك المنافسة دون ضوابط تنظيمية قوية قد يحول خدمات أساسية إلى سلع لا تتاح إلا لمن يملك القدرة المالية.