حتى ظهر أمس الأول كان المعروف للجميع أن الحكومة تعثرت في تنفيذ برنامج الخصخصة الذي تعهدت به لصندوق النقد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حتى فاجأ رئيس الوزراء الرأي العام، في 11 يوليو الجاري، بأن ثمة صفقات بنحو 1.9 مليار دولار تم إبرامها بالفعل.
ذلك الإعلان الذي تضمن الكشف عن هوية المستثمرين الجدد، انطوى على دلالات متعددة عن طبيعة رؤية الدولة للأزمة الراهنة وطريقة إدارتها، فالجزء الأكبر من الصفقات المحققة لم يأت عن طريق خليجيين، مثلما حدث في صفقات العام الماضي.
التحرر من هيمنة الخليج
كانت الحكومة بدأت في تسريع وتيرة الخصخصة العام الماضي، مع تصاعد أزمة نقص احتياطات النقد الأجنبي على إثر الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير/شباط الماضي، وطبقت موجتين من الخصخصة خلال ذلك العام، كان المشتري في الموجة الأولى هو الصندوق السيادي لأبوظبي وفي الثانية السيادي السعودي.
ومع استمرار الضغوط المالية، لجأت الحكومة لإبرام اتفاق قرض مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر الماضي، وكان البرنامج الاقتصادي المصحوب بالقرض ينطوي على تصورات بدور خليجي كبير لمساعدتنا على الخروج من الأزمة، سواء على صعيد تقديم التمويلات المباشرة للبنك المركزي أو شراء الحصص الحكومية المطروحة للبيع.
حضور المصريين في الخصخصة مرهون بدورهم في الوساطة مع أطراف دولية لشراء الأصول المصرية بالعملات الصعبة
ولكن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أشار في كلمته أمس الأول بشكل صريح إلى رغبة الدولة ألا تظل الصفقات حصرًا على دول الخليج، قائلًا "احنا تعاقدنا مع مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي عشان يبقى استشاري للدولة المصرية في هذا البرنامج، وإن هو مش مجرد استشاري وخلاص، حيساعدنا كمان في التسويق لعدد من هذه الطروحات خارج المنطقة الإقليمية بتاعتنا".
حديث رئيس الوزراء جاء على خلفية تعثر محاولات سابقة لترويج الأصول المصرية مع مستثمرين خليجيين، لأن الطرف الخليجي يضع تقييمًا منخفضًا لتلك الأصول يرتبط برؤيته لقيمة الجنيه، وتم الإفصاح عن ذلك صراحة خلال المفاوضات غير المكتملة لاستحواذ السيادي السعودي على المصرف المتحد.
ذلك الشعور بأن الشريك الإقليمي يطرح تقييمات منخفضة للأصول المصرية، بدا واضحًا في إرجاء صفقات عدة كان مخططًا دخول الخليج فيها، ثم المنافسة الطويلة بين إيجل كيميكالز والأصباغ الإماراتية على حصة باكين، التي أجبرت الطرف الإماراتي على رفع قيمة عرضه للشراء من 34 جنيهًا للسهم في مارس/آذار الماضي إلى 39.8 جنيهًا، وأخيرًا عرض حصة من المصرية للاتصالات لمجموعة متنوعة من المستثمرين.
وفي الموجة الثالثة للخصخصة، التي أعلن عنها مدبولي أمس الأول، اقتصر نصيب الخليج على استحواذ شركة أبوظبي التنموية على حصص تراوحت بين 25 إلى 30%، من شركات "إيلاب"، و"الحفر المصرية"، و"ايثيدكو" بقيمة إجمالية 800 مليون دولار.
دور أكبر للمستثمرين المصريين
أما الاعتماد في توريد الجزء الأكبر من حصيلة الموجة الثالثة على رجال أعمال مصريين، وهي الرسالة الثانية لإعلان مدبولي، التي عبرت عنها وزيرة التخطيط، هالة السعيد، أمس الأول بقولها "الطروحات تنافسية ونختار من يعظم قيمة أصول الدولة، يهمنا أن يكون هناك العديد من الكيانات المصرية التي تستطيع جذب رؤوس أموال من الخارج".
اللافت أن الأسماء المصرية التي تمت الإشارة إليها كانت تحديدًا من فريق الحرس القديم، طلعت مصطفى وأحمد عز، الذي كان يلعب دورًا رائدًا في إدارة الحياة السياسية لمصر قبل ثورة يناير/كانون الأول.
رغم حساسية موقف الحرس القديم بعد الثورة، فإنه لم يعاني الإقصاء، بالعكس استطاع عدد من أفراده الاندماج في عالم الأعمال من جديد، مستندًا إلى ما يملكه من أصول إنتاجية ضخمة، وقدرته على الاندماج في مبادرات الدولة الجديدة، مثل استثمار طلعت مصطفى في العاصمة الجديدة.
المبرر الذي تقدمه الحكومة للاعتماد على مصريين هو أن هدفها الرئيسي من الخصخصة إشراك القطاع الخاص بشكل أكبر في إدارة الاقتصاد، وأن هذا هو التصور المطروح منذ الإعلان عن خصخصة أصول حكومية في 32 شركة.
لكن الواقع أن هدف جمع 2 مليار دولار من الخصخصة تم وضعه في برنامج الصندوق لأسباب تمويلية بالأساس، فقد قدَّر الصندوق أن أمام مصر فجوة تمويلية حتى نهاية يونيو/حزيران بقيمة 6.1 مليار دولار، عليها أن تسدها عن طريق تمويلات من مؤسسات مالية دولية بالإضافة لحصيلة الخصخصة.
لذا، كان حضور المصريين في الخصخصة مرهونًا بدورهم في وساطة مع أطراف دولية لشراء الأصول المصرية بالعملات الصعبة، وقال مدبولي إن حصيلة الـ 1.9 مليار دولار منها 1.6 مليارًا تلقتها الدولة بالدولار والباقي بالعملة المحلية.
وبينما أشارت متابعات تصريحات مدبولي إلى أن صفقة مجموعة طلعت مصطفى مع الحكومة كانت بشراكة مع مستثمر أجنبي لم يسمّه، فإن إفصاح المجموعة للبورصة أمس الأول لا ينطوي على أي اسم أجنبي.
وقالت طلعت مصطفى إنها تقدمت بـعروض للاستحواذ على حصص في فنادق حكومية في القاهرة والإسكندرية والأقصر وأسوان، من خلال ذراعها الفندقي "أيكون"، لكنها أشارت أيضًا إلى أن المزيد من التفاصيل سيتم الإعلان عنها عند إتمام الاتفاق.
أثار اسم المستثمر الأجنبي شريك طلعت مصطفى شهية الصحفيين، ليس فقط لأنه خليجي، ما يعيدنا ثانية للمربع الإقليمي، ولكن لأن قطر كانت مرشحة بقوة لصفقة الفنادق، بينما رجحت مصادر لصحيفة البورصة أنه تم استبعادها لاحقًا لصالح شريك إماراتي لطلعت مصطفى.
أما صفقة استحواذ حديد عز على حصة الدولة في الشركة التابعة "العز -الدخيلة للصلب الإسكندرية" فقد بلغت قيمتها 241 مليون دولار، تم سداد 60% منها بالعملة الصعبة والباقي بالجنيه.
وبحسب مصادر لصحيفة البورصة، اضطرت الشركة لتمويل جزء من الصفقة عن طريق قرض من بنوك إماراتية بقيمة 125 مليون دولار، ما يعني أن عز اعتمدت على قدراتها على جمع التمويلات الخارجية لمساندة برنامج الخصخصة، فالمجموعة معروفة بالحافظة الضخمة التي تتمتع بها دائما من القروض والتسهيلات الإئتمانية، التي بلغت بحسب آخر إفصاح عن نتائج أعمال الربع الأول من العام الجاري ما يساوي 39.1 مليار جنيه.
العودة للاقتصاد الحقيقي
الرسالة الثالثة التي أراد مدبولي توصيلها هي اهتمامه بإصلاح الاقتصاد الحقيقي، وليس فقط التركيز على الديون والخصخصة، من خلال مساندة الصناعة وتحفيز الصادرات والتعديلات التي اقترحتها الحكومة على قانون الاستثمار ووصفتها بـ "الثورية".
لكن هذه الإجراءات ربما لن تستطيع إخراجنا من من دائرة الأزمة
واللافت تزامن مؤتمر مدبولي أمس الأول مع موافقة مجلس النواب نهائيًا على قانون لإلغاء الإعفاءات الضريبية التي كانت تتمتع بها الكيانات الحكومية، وهي واحدة من مطالبات صندوق النقد بالنظر إلى قلقه من الموقع المتميز للشركات التابعة للمؤسسة العسكرية في مجال الاقتصاد.
وتحاول الحكومة تحسين صورة مناخ الأعمال، مع حاجتها الماسة للتدفقات الدولارية من مجالات مثل السياحة والصادرات والاستثمار المباشر، في ظل تضخم الديون الخارجية بأكثر من 50 مليار دولار خلال الفترة بين 2020 و2022، على أثر أزمة كوفيد ثم الحرب الروسية والتشديد النقدي للولايات المتحدة.
باختصار، عكفت الحكومة خلال الأيام الأخيرة على إجراءات لاهثة لاحتواء وضع مأزوم، مع تأخر صدور أول مراجعة لقرض الصندوق، كان المفترض الانتهاء منها في مارس الماضي، وتعثر مفاوضات بيع الأصول للخليجيين، واستمرار الفجوة في سعر صرف الدولار بين القطاع الرسمي وغير الرسمي.
وانطوت إصلاحات"اللحظات الأخيرة" على تغييرات عدة لرؤية الدولة، فيما يتعلق بدرجة اعتمادها على الشركاء الخليجيين أو على استعدادها للحد من القلق بشأن دور شركات المؤسسة العسكرية في الاقتصاد.
لكن كل هذه الإجراءات لم تخرجنا بعد من دائرة الأزمة، التي تتجلى بشكل واضح في عجز صافي الأصول الأجنبية للقطاع المصرفي، الذي ارتفع بأكثر من 700 مليار جنيه منذ فبراير 2022، والذي يفاقم من مصاعب حصول الأجانب على تمويلات دولارية من البنوك ويحد من الثقة في مناخ الأعمال بمصر.