أساطير التضخم| هل صندوق النقد عامل انضباط حقًا؟
دعنا نتخيل عالمًا تذهب فيه دولةٌ مأزومةٌ اقتصاديًا لصندوق النقد الدولي لتطلب السماح لها بـ"تعويم" عملتها ويرفض الصندوق، بل ويطالبها بتثبيت سعر الصرف، بعد أن يوفر لها الموارد لسد العجز التجاري.
سيساعد الصندوق هذه الدولة، في هذه الحالة، على تجنب سيناريو انخفاض قيمة العملة المحلية وارتفاع التضخم، الذي قد يؤدي إلى منافسة حادة مع البلدان الأخرى على خفض قيمة عملاتها (حرب عملات) مثل التي حدثت في الثلاثينيات عقب الكساد الكبير.
دعنا نتخيل أنه في العالم نفسه، يذهب بلد آخر لصندوق النقد الدولي ليطالب بتحرير بعض القيود على حركة رأس المال، ويرفض الصندوق لأن هذا من شأنه أن يُحدث اضطرابات في التجارة العالمية وأسعار الصرف.
هذا العالم ليس خياليًا، بل كان هو تحديدًا الهدف الذي تأسس من أجله الصندوق مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها. وظل هذا النموذج هو السائد خلال الحقبة التي تسمى بـ"عصر بريتون وودز"، حين روج الصندوق لأسعار صرف ثابتة، وفرض قيودًا على حركة رأس المال، من أجل تعزيز التجارة الدولية.
من الأمثلة على ذلك ما حدث بين عامي 1964 و1967، عندما دعم الصندوق العجز التجاري الكبير للمملكة المتحدة ليُعينها على تفادي خفض قيمة الجنيه الإسترليني، الذي حدث في النهاية عام 1967 عندما خفضت حكومة العمال في ذلك الوقت قيمة العملة بنسبة 14% أمام الدولار، بعد نفاد كل محاولات الحكومة والصندوق والمؤسسات الدولية بل والولايات المتحدة ذاتها لتفادي هذا السيناريو.
ولكن حتى مع هذا الخفض، ظل سعر الصرف ثابتًا عند المستوى الجديد، وكان التعويم الكلي وتخفيض الجنيه أكثر من ذلك مرفوضًا من قبل صندوق النقد.
ومع فك الولايات المتحدة لقاعدة الذهب (أي القدرة على تحويل الدولار إلى ذهب وفقًا لسعر صرف ثابت)، سيطر نظام النقد الإلزامي/fiat money، غير المرتبط بقيمة أي سلعة أخرى مثل الذهب، ما يترك حرية تحديد قيمة العملة بالكامل للمصارف المركزية.
تبنى صندوق النقد في هذا الوقت نظريات المدرسة النقدية بقيادة ميلتون فريدمان، التي دعمت فك ارتباط النقد بالذهب، بالتوازي مع فرض سيطرة على المعروض النقدي بحيث يزيد بنسبة ثابتة سنويًا تقترب من معدل النمو الاقتصادي للسيطرة على التضخم.
وبالنظر لتجربة صندوق النقد مع مصر خلال العقد الأخير، يمكننا أن نرى كيف كانت النظرية النقدية وسياسات صندوق النقد التي نشأت في السبعينيات، مثل تحرير سعر الصرف ورفع أسعار الفائدة وخفض الدعم السلعي، السبب الرئيسي والمباشر وراء ارتفاع التضخم لمستويات غير مسبوقة، واضطراب الاقتصاد بأكمله، رغم كل ما يدعيه الصندوق من كونه عاملًا للحد من التضخم ودعم الاستقرار.
التعويم: تضخم بلا تصحيح
تؤمن المدرسة النقدية بالتصحيح الذاتي للأسواق التي لا تتدخل فيها الدولة، لذلك دعمت ترك سعر الصرف للتبادل الحر. فمع تحرير سعر الصرف، حتى لو انخفضت قيمة عملة ما، فسريعًا ما ستتعافى لأن انخفاضها سيزيد من الطلب عليها وعلى السلع المقومة بها في التجارة الدولية.
لكن مشكلة هذه النظريات النيوكلاسيكية أنها تضع نصب أعينها دائمًا عوالم "مثالية"، لم تتحقق أبدًا عمليًا وغير قابلة للتحقق نظريًا، فتتحول لشيء أشبه بالإيمان الديني بالغيبيات التي يعتقد بها المؤمنون، دون إمكانية رصدها أو إثباتها تجريبيًا.
تحول أيديولوجية صندوق النقد إلى نمط من الاستشراق الاقتصادي يضع المسؤولية دائمًا على دول الجنوب
الدليل على ذلك ما في التجارة العالمية منذ القرن التاسع عشر من اختلالات هيكلية. وكما سيطرت على التجارة وعلى القيمة الناتجة منها إمبراطوريات سابقة، تسيطر عليها اليوم رؤوس أموال تمويلية واحتكارات تتركز في أيدي فئة قليلة، يحددون الأسعار بعيدًا عن الآليات المثالية للعرض والطلب في سوق دولية حرة ومفتوحة.
لا تخلو الجعبة من أمثلة على التدخلات خارج السوق للتأثير على العرض والطلب والسعر، وأمثلة سريعة على ذلك قوانين الملكية الفكرية التي تعطي حق الاحتكار وتحديد الأسعار لأصحاب حقوق الملكية، وكارتيلات السلع مثل الأوبك وغيرها من الكارتيلات التي تنسق المعروض والأسعار بينها.
يذكرنا هذا بمقولة الأنثروبولوجي الاقتصادي جيسون هيكل بأن الأسعار تعكس، بين أمور أخرى، انعدام توازن القوى بين الفاعلين في السوق، مثل رأس المال والعمالة، والاقتصادات المركزية والطرفية، والشركات الكبرى ومورديها... إلخ.
تشكك التجربة العملية أيضًا في نظريات التصحيح الذاتي والميل للتوازن. نعود إلى مصر، حيث لم تحقق التخفيضاتُ المتتالية للعملة التوازنَ المنشودَ، بل في بعض الأحيان تسببت التخفيضات المتتالية في المزيد من التراجع لقيمة العملة، لأنها تخلق توقعًا متناميًا بأن هذا سيحدث مجددًا، مما يدفع الناس بشكل دائم للتمسك بالدولار وعدم الاحتفاظ بالجنيه، لتتحول إلى نبوءة ذاتية التحقيق.
رأينا أيضًا أن التخفيضات المتتالية في قيمة الجنيه لم تحسِّن من ميزان مصر التجاري، والواقع أن سجل تخفيضات الصندوق في المنطقة عمومًا مشكوك فيه، إذ تُظهر البيانات أنه في 3 حالات لتخفيض العملة بدفع من صندوق النقد، في مصر عامي 1991 و2016، وفي تونس عام 2016، حدث تراجع في اختلالات ميزاني المدفوعات المصري والتونسي عام 2016 مع تحسن في مصر بعد تخفيض 1991.
الميزان الخارجي للسلع والخدمات (% من الناتج المحلي الإجمالي)
متوسط ثلاث سنوات قبل البرنامج | متوسط ثلاث سنوات بعد البرنامج | الناتج | |
---|---|---|---|
مصر (1991) | -14.87 | -4.1 | تحسن |
تونس (2016) | -9.9 | -11.8 | تراجع |
مصر (2016) | -7.7 | -10.2 | تراجع |
تسبب التحول الأيديولوجي لصندوق النقد الدولي في السبعينيات في تحول تركيزه من السياسات العابرة للحدود الوطنية مثل أسعار الصرف الثابتة والقيود على حركة رأس المال، إلى السياسات الوطنية مثل خفض قيمة العملة وخفض/إلغاء الدعم السلعي. أدى ذلك إلى صعود نمط من الاستشراق الاقتصادي، يتهم دائمًا دول الجنوب باللا مسؤولية وسوء الإدارة.
تميَّزت هذه الحقبة بتجاهل العوامل الخارجية عند صياغة السياسات، ففي أغلب الحالات كان التضخم واختلالات الميزان التجاري ناتجين عن أسباب خارجية لا يمكن معالجتها بالتركيز الحصري على السياسات الوطنية.
في عام 1983، توقع الاقتصادي سيدني ديل أن "إقراض صندوق النقد الدولي [...] قد يقتصر في المستقبل فعليًا على البلدان النامية، وذلك ببساطة لأن البلدان المتقدمة لم تعد بحاجة إليه". وفي الوقت الحالي، تذهب بالفعل كل قروض صندوق النقد الدولي إلى 38 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل. يشير هذا التحول إلى استهداف الصندوق للبلدان الأقل تأثيرًا في العوامل العالمية والأكثر تأثرًا بها. يشير ديل في هذا الصدد إلى أن عبء الإصلاح لا يعكس المسؤولية عن اختلالات التوازن التجاري، وأنه غالبًا ما يتناسب طرديًا مع المسؤولية.
ربما تكون بعض البلدان ارتكبت أخطاء في الإدارة الاقتصادية، ومع ذلك فإن العوامل الأكثر تأثيرًا في اختلال التوازن الخارجي قد تكون تدهور شروط التجارة (القيمة النسبية لواردات وصادرات البلد) وفرض بلدان أخرى قيودًا على الواردات، تؤثر في صادراتها أو موجة تشديد نقدي عالمي.
ويشير ديل إلى أن صندوق النقد الدولي رفض فكرة ضرورة أخذ أصل العجز في الاعتبار عند تحديد درجة الشروط المفروضة. ولا يرى أسبابًا قد تجعل الدولة التي عانت بالفعل من انهيار في الدخل الحقيقي بسبب التدهور الخارجي في شروط التجارة، ملزمة بتخفيض قيمة العملة أو الانكماش المالي والنقدي.
بالنسبة للبلدان المستوردة للنفط، كانت المشاكل في الأغلب خارجيةً ومرتبطةً بشروط التجارة، ومعظمها كان مرتبطًا بزيادات الأسعار، أو التدهور في شروط التجارة غير النفطية، فضلًا عن ارتفاع تكاليف الاقتراض.
واعترف صندوق النقد الدولي نفسه في تقريره السنوي لعام 1979 بأن الزيادة الكاملة في العجز في ميزان المدفوعات لدى البلدان النامية المستوردة للنفط كانت بسبب عوامل خارجة عن سيطرتها. العامل الخارجي الأول هو تدهور شروط التبادل التجاري نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة. والعامل الثاني هو التكلفة المتزايدة لخدمة الديون الناجمة عن السياسات النقدية المتشددة المصممة لمكافحة التضخم في البلدان "الصناعية".
قبلها بخمس سنوات، اعترف الصندوق أيضًا في تقريره لعام 1974 بأن محاولات القضاء على عجز الحساب الجاري الناجم عن ارتفاع أسعار النفط من خلال سياسات التحكم في التضخم عن طريق خنق الطلب "لن تؤدي إلا إلى تحويل مشكلة المدفوعات من دولة مستوردة للنفط إلى أخرى والإضرار بالتجارة العالمية والنشاط الاقتصادي".
حتى مؤخرًا، قال الصندوق في بيانه الأخير عن مصر "تفاقمت البيئة الخارجية الصعبة الناجمة عن حرب روسيا في أوكرانيا في وقت لاحق بسبب الصراع في غزة وإسرائيل، فضلًا عن التوترات في البحر الأحمر. وزادت هذه التطورات من تعقيد تحديات الاقتصاد الكلي ودعت إلى اتخاذ إجراءات حاسمة على صعيد السياسات المحلية تدعمها حزمة تمويل خارجية أكثر قوة، بما في ذلك من صندوق النقد الدولي".
زعم ديل في عام 1983 أنه إذا كان العجز ناجمًا عن مشاكل هيكلية خارجية وليس مدفوعًا بالطلب المفرط، فإن الانكماش النقدي والمالي الصارم لن يكون مُجديًا. وبناءً على ذلك، ولتكون السياسات فعالةً، فضلًا عن كونها عادلةً، لا بد أن يتوافق توزيع عبء الإصلاح بين البلدان مع المسؤولية عن العوامل التي تستلزم التعديل. ويظل هذا اليوم بعيدًا عن الواقع، لأن البلدان التي تتحمل العبء الأكبر للتكيف هي في أغلب الأحيان البلدان ذات القدرة المحدودة للغاية على التأثير على الشؤون الهيكلية العالمية بسبب صغر حجم اقتصاداتها، ومنها مصر.
تهور الصندوق المالي
لم تؤدِّ نظرية التصحيح الذاتي النقدية فقط إلى تضخم كبير من خلال الخفض المتكرر في قيمة الجنيه بشكل لم يحقق التوازن، لا في سعر الصرف، ولا في العجز التجاري، كما أوضحنا، بل أيضًا ساهم الإيمان بأن مواجهة التضخم مجال حصري للسياسة النقدية، وتحديدًا رفع سعر الفائدة، في أن يدفع الصندوق نحو إجراءات مالية شديدة الأثر التضخمي، مثل إلغاء دعم الطاقة ورفع أسعار المواد الغذائية المحددة إداريًا.
أثبتت التجربة أن مواجهة التضخم الناتج عن خفض سعر الصرف وتخفيض الدعم السلعي عبر السياسة النقدية غير فعالة، حيث لم يؤدِ وصول سعر الفائدة الحقيقي في مصر لأعلى معدل في العالم إلى السيطرة على التضخم، لأن رفع أسعار الفائدة لا يمس الطلب على السلع الأساسية التي تشكل أغلب الاستهلاك في اقتصاديات الدخل المنخفض، ويتجلى ذلك في احتلال مصر المرتبة الثالثة عالميًا على مؤشر تضخم الغذاء الحقيقي، وهو المؤشر الذي يقيس الفجوة بين معدلات زيادة أسعار الغذاء (السلع الأساسية الأهم) وأسعار السلع الأخرى.
تدهور الإنفاق على الدعم الذي يساهم في السيطرة على التضخم في مصر خلال العقد الأخير
الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية (% من الناتج المحلي الإجمالي) | |
---|---|
2014/2015 | 8.2 |
2021/2022 | 4.4 |
2026/2027 (متوقع) | 4.1 |
في سعيه الخطابي لمواجهة التضخم بالتزامن مع تمرير سياسات شديدة التضخمية، يذكِّرنا صندوق النقد الدولي بأسطورة أوديب، الذي في سعيه للهروب من نبوءة قتَل أبيه والزواج من أمَّه. كان هذا الهروب هو تحديدًا ما قرَّبه أكثر من هذا المصير المظلم.
لكن على عكس أوديب، الذي فعل ما فعل دون أن يعرف، لا يمكن إعفاء الصندوق من اللوم، بعد أن جاء مرتديًا زي الخبير الأجنبي العقلاني القادم لتصحيح أخطاء صناع السياسة المحليين، خاصة في ظل استفادة نخب كثيرة من سياسات التضخم المرتفعة وما تبعها من تشديد نقدي، كما تناولت في المقال السابق من سلسلة أساطير التضخم.