كيف يمكن أن تنخفض مخصصات الأجور والدعم والصحة والتعليم إلى النصف، وفي الوقت نفسه يطل علينا المسؤولون بشكل دوري لتبشيرنا بزيادة الإنفاق على كل هذه البنود؟
الإجابة ببساطة هي التضخم.
على مدار سنوات التضخم المرتفع، من نهاية 2016 حتى الآن، زادت بشدة وتيرة الأخبار التي تزف بُشَرًا سارة بزيادة الإنفاق على بند معين ذي بعد اجتماعي ويحظى باهتمام المواطنين، كالصحة أو التعليم أو الدعم أو الأجور، لكن في كل هذه الحالات تقريبًا كان الإنفاق الفعلي يقل بسبب إصرار المسؤولين على عرض الزيادة بالقيمة الاسمية، وهو ما يعتبر عبثًا في ظل معدلات تضخم تخطت الـ40% سنويًا وكانت حوالي 16% في المتوسط منذ إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي في 2016.
وكما أوضحت في مقال سابق من السلسلة نفسها، تزيد تجربة التضخم المعاشة حتى عن هذه الأرقام الرسمية.
دعنا نأخذ الأجور الحكومية مثالًا. زاد الحد الأدنى للأجور الحكومية مرات عدة خلال الثماني سنوات الأخيرة حتى وصل إلى 6000 جنيه حاليًا، صعودًا من 1200 جنيه في عام 2016. أدت هذه الارتفاعات لزيادة مخصصات الأجور في الموازنة العامة من نحو 200 إلى 600 مليار جنيه خلال الفترة نفسها، وفقًا لبيانات نشرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في تقريرها الأخير بعنوان التقشف لنا والأرباح للدائنين.
استغل المسؤولون والمواقع الصحفية المؤيدة للحكومة هذه الزيادات لأغراض ترويجية. لكن بالنظر لكل أشكال التعبير عن القيمة الحقيقية للأجور نجد أنها انخفضت انخفاضًا حادًا. فإذا نظرنا لها كنسبةٍ من الناتج المحلي الإجمالي نجد أنها انخفضت من حوالي 8% إلى نحو 3%، وكنسبةٍ من الإنفاق العام من نحو 20% إلى نحو 10%، وفقًا لبيانات تقرير المبادرة المصرية (انظر الشكل 1).
أما إذا نظرنا للحد الأدنى كقيمة دولارية نجد أن الـ1200 جنيه كانت تساوي نحو 150 دولارًا في عام 2016، بينما أصبحت الـ6000 جنيه تساوي نحو 120 دولارًا حاليًا، مع الأخذ في الاعتبار أن قيمة الدولار نفسها انخفضت، حيث كانت القيمة الحقيقية لـ150 دولارًا في عام 2016 تساوي حوالي 195 دولارًا حاليًا، ومع الأخذ في الاعتبار أيضًا أن هذه الـ1200 جنيه فرضتها محكمة في عام 2010 حينما كانت قيمتها حوالي 220 دولارًا؛ أي ما يساوي نحو 312 دولارًا في 2024.
ما ينسحب على الأجور ينطبق أيضًا على الدعم. فنجد أنه رغم زيادة الدعم من 250 إلى 650 مليار جنيه فإن نسبته من الناتج المحلي الإجمالي انخفضت إلى النصف؛ من حوالي 8% إلى أقل من 4% (انظر الشكل 2). استغل المسؤولون وبعض المواقع الصحفية هذا مرارًا لإعطاء انطباع زائف بزيادة مخصصات الدعم في الموازنة العامة على مدار السنوات السابقة.
بالإضافة للأجور والدعم، عادة ما تشمل البيانات والتصريحات المالية الرسمية والإعلامية أيضًا أحاديث عن زيادات كبيرة في الإنفاق على الملفات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.
في الشكل 3 و4 نرى مثلًا أنه رغم تفاخر الحكومة المستمر بزيادة الإنفاق على الصحة، فإن الإنفاق انخفض كنسبةٍ إلى الناتج المحلي في سنوات التضخم المرتفعة (شكل 2)، ثم عاد ووصل لنفس معدل عام 2015/16 خلال عام 2020/21، وهو عام جائحة كوفيد-19، الذي من المفترض أن يكون الإنفاق على الصحة زاد فيه زيادة استثنائية.
نرى أيضًا في الشكل 4 أن نسب الإنفاق على الصحة تسير في الأغلب عكس اتجاه معدلات التضخم؛ أي أنه كلما زادت معدلات التضخم كلما قل الإنفاق على الصحة.
يقول تقرير المبادرة المصرية إن الإنفاق اتبع الاتجاه نفسه لكل البنود باستثناء بند واحد، وهو فوائد الديون، الذي زاد من 8% من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 11%، وأصبح يبتلع أكثر من 62% من مجمل الإنفاق الحكومي، ويتوقع أن يشهد المزيد من الزيادة وفقًا لتقرير حديث لصندوق النقد الدولي عن مصر.
لا نهاية في الأفق لهذا السقوط الحر
الهدف من برنامج صندوق النقد الدولي الأخير في مصر هو الوصول إلى فائض أولي بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026/27، أي أن إيرادات الدولة يجب أن تتجاوز نفقاتها، بعد خصم مدفوعات الفائدة، بهذه النسبة.
ولتحقيق هذا الهدف، يطمح البرنامج إلى المزيد من خفض الأجور الحكومية كنسبة من الناتج الإجمالي بحلول 2026/27. وبالمثل، من المقرر أن ينخفض بند الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية من 4.4% إلى 4.1% من الناتج، ومعاشات الضمان الاجتماعي من 1.5% إلى 0.6% من الناتج، خلال الفترة نفسها.
لكن في حال استمرار التضخم المرتفع، غالبًا ما سيخرج علينا المسؤولون والمواقع الصحفية إياها لتبشيرنا بزيادة الإنفاق على هذه البنود.
يسمح التضخم في حالتنا بتوسيع الفجوة بين الفعل والخطاب، بحيث تنعدم أي علاقة بينهما، بل وإن وجدت علاقة فتكون عكسية تمامًا، فرغم حدة التقشف واقتطاعات الموازنة في مصر المنطلقة من معدلات إنفاق منخفضة أصلًا، لم تتحدث أي مؤسسة رسمية أو شبه رسمية عن وجود تقشف أو اقتطاعات في الموازنة، بل دائمًا ما يكون الحديث عن زيادات في الإنفاق، كما أسلفنا الذكر.
في سياقات التقشف الأخرى التي تعلن عن نفسها بوضوح، عادة ما يتم عرض المسألة كدواء مُر لا بد منه لتفادي مشاكل أكبر مثل زيادة المديونية أو التضخم أو الضرائب.. إلخ رغم كون التقشف في أغلب تلك الحالات أقل حدة بكثير من الحالة المصرية، وعادة ما ينطلق من إنفاق اجتماعي، وعلى الأجور أكثر سخاءً من إنفاقنا.
لا يخفي التضخم انكماش جوانب الإنفاق فقط، لكن يمتد هذا الإخفاء ليشمل جانب الإيرادات أيضًا، حيث توجد علاقة عكسية بين كم الضرائب المُحصَّلة ومعدلات التضخم، أي كلما زادت معدلات التضخم كلما قلت معدلات الضرائب الحقيقية؛ يتفاخر مسؤولو الحكومة بزيادة الحصيلة الضريبية الاسمية متجاهلين القيمة الحقيقية لهذه الحصيلة.
وفقًا لعدد أبريل/نيسان من نشرة عدسة للسياسات، الصادرة عن مشروع حلول للسياسات البديلة التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، توجد علاقة عكسية بين معدلات التضخم ومعدلات التحصيل الضريبي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن زيادة معدل التضخم من المرجح أن تعني انخفاضًا في القيمة الحقيقية لإيرادات الضرائب حتى لو شهدت الحصيلة زيادات كبيرة كرقم مطلق.
تقول نشرة "عدسة" إن نسبة الضرائب للإنتاج المحلي الإجمالي كانت 13% قبل 2017، في حين أصبحت 12.6% في 2022/2021 (آخر سنة مالية متاح لها حسابات ختامية). ارتفعت القيمة الاسمية للناتج المحلي منذ عام 2016/2015 حتى عام 2022/2021 بنسبة 289% بينما ارتفعت القيمة الاسمية للضرائب بنسبة 281% فقط.
وفقًا للبيانات نفسها، يقدَّر معامل الارتباط بين معدل التضخم ومعدل التحصيل الضريبي بسالب 85، وهو ما يعني وجود علاقة عكسية قوية بين متغيري التحصيل الضريبي والتضخم. أسباب ذلك قد تكون أن جزءًا كبيرًا من الضرائب المحصلة كانت مستحقة على أرباح تحققت من قبل الموجة التضخمية.
في النهاية، العمل على خفض التضخم لن تكون له فقط الآثار الإيجابية المعروفة مثل استقرار أسعار السلع الاستهلاكية والحفاظ على القدرة الشرائية ومدخرات المواطنين وتحقيق درجة أعلى من الاستقرار في السوق، لكنه سيجعل أيضًا تمرير إجراءات التقشف الحاد مثل خفض الدعم والأجور وخفض الإنفاق على الصحة والتعليم أصعب، فلن يستطيع المسؤولون الترويج للزيادة الظاهرية في الإنفاق بينما يمررون تقشفًا حادًا لكنه مستتر. في المقال المقبل من هذه السلسلة سوف نستكشف كيف يسمح التضخم أيضًا بالتغطية على الركود في السوق العقارية.