وفقًا للنظرية النيوليبرالية التي سادت وسيطرت على خيال صناع القرار الاقتصادي منذ سبعينيات القرن الماضي، فإنَّ رفع سعر الفائدة هو الأداة الرئيسية التي تواجه بها البنوكُ المركزيةُ التضخمَ، كجزء مركزي من حزمة سياساتها النقدية، وذلك منذ ما يسمى بصدمة فولكر في بداية ثمانينيات القرن الماضي. ومع أنها أداةٌ فعّالةٌ في بعض السياقات، فإن تأثيرها قد يكون محدودًا في أحيان أخرى، خاصة في بلدان الجنوب العالمي، الأكثر فقرًا.
فالبنوك المركزية ترفع سعر الفائدة لتشجيع المستهلكين على الادخار بدلًا من الإنفاق الاستهلاكي، ما يؤدي إلى تهدئة الطلب على السلع فتنخفض أسعارها أو يتباطأ معدل ارتفاعها. ولكنَّ هذا المنطق يتجاهل أنَّ الإنفاق على السلع الضرورية يستمر بنفس المعدلات أو يزيد، ما يعني أنَّ الفاعلية الحقيقية لرفع أسعار الفائدة تتوقف على نسبة الإنفاق على السلع غير الضرورية في الاقتصاد بشكل عام، أو على مستوى الأسر.
من هنا يظهر أنَّ رفع أسعار الفائدة يصبح أكثر فاعلية في البلدان الأغنى؛ حيث ترتفع نسب الإنفاق على السلع غير الضرورية. في هذه البلدان، تتزايد فرص الادخار عندما يكون معدل الفائدة مرتفعًا.
على سبيل المثال، ينفق سكان أوروبا الغربية في المتوسط حوالي 10% من دخولهم على الغذاء، وتقل هذه النسبة كلما ارتفع الدخل. في نفس الوقت ينفق الأوروبيون حوالي 25% من دخولهم على السكن واحتياجاته. يعني هذا، بقدر من التبسيط، أنَّ سكان أوروبا الغربية ينفقون نحو 35% من دخولهم على أكبر بنود الضروريات، وقد ترتفع هذه النسبة بعض الشيء في أوروبا الشرقية لتصل لنحو 45%.
على الجانب الآخر في مصر، وصل معدل الإنفاق على الغذاء في المتوسط إلى 37% في 2022، وهي نسبة يتوقع أن تكون زادت خلال العام الماضي، بسبب ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية أكثر من غيرها من السلع وهو ما سنتطرق له تفصيلًا في بقية المقال.
أما بالنسبة للسكن واحتياجاته فتصل هذه النسبة إلى نحو 35% من الدخول. يعني هذا أنَّ أكبر بندين للإنفاق الضروري يبتلعان 72% من إجمالي دخول المصريين، وأي ضعف النسبة التي ينفقها من يعيشون في أوروبا الغربية.
قد يدعم رفع الفائدة سعر الجنيه ولكنها سيطرة قصيرة المدى وغير مستدامة
وما قد يزيد من حدة الفجوة في الدخل القابل للادخار، هو أنَّ إنفاق الأوروبيين على التعليم والصحة من الدخل منخفض جدًا إذا ما قُورن بمصر، بسبب أنظمة الرفاه هناك. فنجد أنَّ الإنفاق على التعليم والصحة هناك يمثلان 0.8% و4.5% من إجمالي الدخول على الترتيب. في مصر، تبلغ نسبة ما تنفقه الأسر من إجمالي دخولها على التعليم 5.5%، وعلى الصحة 8.6%، وفقًا لسلة مؤشر أسعار المستهلكين الرسمية.
هذا فيما يتعلق بالتضخم المدفوع بالطلب، أما بالنسبة للتضخم المستورد؛ الناتج عن زيادة أسعار الواردات نتيجة لتضخم خارجي أو صدمات في العرض أو تخفيض لقيمة العملة، فزيادة أسعار الفائدة قد تسيطر عليه بسبب جذب الاقتصاد أموالًا خارجيةً ترغب في الاستفادة من سعر الفائدة الجديد.
في الحالة المصرية، قد يدعم هذا الإجراء سعر الجنيه، ومن ثَمَّ يكبح جماح التضخم المستورد، لكنها سيطرة قصيرة المدى وغير مستدامة، لأنها في الوقت نفسه تضع ضغوطًا مستقبلية على سعر الجنيه عندما تحين مواعيد استحقاق مدفوعات الفائدة، أو عند ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم، وهو ما رأيناه يتكرر مرارًا منذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في 2016.
أثر سعر الفائدة في الجنوب
يشعر الكثيرون في مصر بأنَّ تجربتهم المعاشة مع التضخم تتخطى أرقام التضخم الرسمية، وبالتالي يرون أن هذه الأرقام لا تُعبر عن تجربتهم. يرجع هذا لأسباب عدة، تشمل عدم تحديث الأوزان النسبية في سلة مؤشر أسعار المستهلكين منذ عام 2019، التي يمثل الطعام ما يقل عن 33% منها، رغم ارتفاع أسعار الغذاء بمعدل أسرع من باقي فئات السلع، ما يعني أنها أصبحت تحتل حصةً أكبر من متوسط استهلاك المصريين.
السبب الآخر أنَّ هذه الأرقام تعبر عن متوسطات، ولا تشير إلى التفاوت في تجارب فئات الدخل المختلفة مع التضخم. أجادل في الفقرات التالية بأنَّ هذا التفاوت يزيد في ظل أسعار فائدة مرتفعة.
استخدمنا حتى الآن متوسطات وطنية لإثبات أنَّ رفع سعر الفائدة قد يكون محدود التأثير في تخفيض الطلب في البلدان الأقل دخلًا التي يذهب أغلب إنفاق سكانها على السلع الأساسية، لكن على المستوى الداخلي لكل بلد، تختبر الأسر الأقل دخلًا معدلات أكبر من التضخم في فترات ارتفاع الفائدة من نظيراتها الأعلى دخلًا. يعود ذلك إلى أنَّ جزءًا متزايدًا من الدخل يذهب على الضروريات كلما قلَّ دخل الأسرة.
الأسر ذات الدخل المنخفض تعاني من معدلات تضخم أعلى من نظيراتها صاحبة الدخول الأعلى
كما ذكرت أعلاه، فإنَّ السياسة النقدية المتشددة (أي زيادة أسعار الفائدة) تقلل في الغالب من الطلب على السلع غير الضرورية التي يمكن تأجيل استهلاكها إذا أتيحت فرص ادخار ثابتة وجيدة. في الوقت نفسه، لا يتباطأ استهلاك المنتجات الضرورية مثل المواد الغذائية الأساسية والسكن. في الواقع يمكن أن يزداد الإنفاق على هذه البنود.
يعود ذلك إلى أنه خلال فترات التضخم المرتفعة يزداد الطلب على المنتجات الأساسية عمومًا، نظرًا لزيادة عدد المستهلكين الذين يستبدلون بالمنتجات التي اعتادوا عليها أخرى أقل سعرًا، ما يرفع التضخم أكثر للمنتجات الأساسية التي تستهلكها بشكل رئيسي الأسر ذات الدخل المنخفض، ليتوزع عبء التضخم بشكل غير متساوٍ على الأسر حسب مستويات دخلها.
تمتلك مصر أحد أعلى معدلات تضخم الغذاء الحقيقي في العالم. يقيس هذا المؤشر الفارق بين معدلات تضخم المواد الغذائية والتضخم العام. من المنطقي أن نفترض أنه كلما ارتفعت هذه النسبة، كان التضخم أكثر تنازليةً، ما يعني أنَّ الأسر ذات الدخل المنخفض تعاني معدلات تضخم أعلى من نظيراتها صاحبة الدخول الأعلى، لأنها تنفق نسبة أكبر بكثير من دخلها على الطعام.
من بين جميع البلدان، احتلت مصر المرتبة الثانية على مؤشر تضخم الغذاء الحقيقي من سبتمبر/أيلول إلى ديسمبر/كانون الأول 2023 خلف الأرجنتين، وذلك بمعدل 27%، مما يعني أن معدل التضخم للمواد الغذائية كان أعلى بنسبة 27% من التضخم العام. ومن الجدير بالذكر أن جزءًا كبيرًا من معدلات التضخم الإجمالية تتأثر بارتفاع أسعار المواد الغذائية. ولذلك، إذا قارنا التضخم الغذائي مع التضخم غير الغذائي، فإن الفجوة ستكون أكبر.
ليست هذه أول سنة يحدث فيها ذلك، فهذا الاتجاه مستمر منذ عدة سنوات، فعلى سبيل المثال بلغ التضخم العام السنوي بين سبتمبر 2021 وسبتمبر 2022، 15.3%، فيما بلغ تضخم الغذاء 21.5%. أما التضخم التراكمي بين عامي 2015 و2019 للمنتجات الغذائية فبلغ 103%، مقابل 72% للملابس و70% للآثاث و13% للاتصالات.
تكنوقراطية لا ترى المجتمع
سيطرت النظرية النقدية على الساحة السياساتية منذ السبعينيات استجابة لأزمة الركود التضخمي حينها، بعد الصدمات النفطية المتكررة نتيجة حرب أكتوبر ثم الثورة الإيرانية. شكلت هذه الأزمات أدوات جديدة للتحكم في التضخم، من خلال منع البلدان من الإنفاق المالي كوسيلة للسيطرة على الديون المتفاقمة والتضخم في الوقت نفسه.
يحدث ذلك من خلال آليات برامج الإصلاح الاقتصادي المدعومة من صندوق النقد الدولي، التي تشترط للوصول لأموال الصندوق خفض الدعم المالي الهادف للسيطرة على الأسعار، مثل دعم إنتاج السلع الأساسية وخفض ضرائب الاستهلاك، ومن ثَمَّ تحولت محاولات السيطرة على الأسعار من نطاق السياسة المالية والتنظيمية للدولة، إلى السياسة النقدية.
الأسر الأقل دخلًا التي تشكل نسبة أعلى من سكان بلدان الجنوب لا تملك أصلًا فوائض لادخارها
النظرية النقدية هي أيديولوجية تؤكد على دور المعروض النقدي في تحديد التضخم والنمو الاقتصادي. ويعتقد أنصارها أنَّ السيطرة على المتداول من النقود (أي تشديد الظروف النقدية) أمر ضروري لتحقيق استقرار الأسعار والاستقرار الاقتصادي.
يتحدد التضخم المدفوع بالطلب عادة بناء على عاملين؛ كمية النقد المتداول وسرعة دوران هذا النقد. فمع زيادة معدلات الدوران قد يحدث تضخم حتى مع ثبات كمية النقد المتداول، فالجنيه الواحد مع سرعة تداوله قادر على أن يخلق طلبًا على منتجات بقيمة 100 جنيه في اليوم الواحد.
العكس أيضًا صحيح، فزيادة المعروض النقدي قد لا تُحدِث تضخمًا، لو قلَّ معدل دوران النقود. وتجادل النظرية النقدية بأنَّ معدل دوران النقود غالبًا ما يكون مستقرًا، وبالتالي فإنَّ التوسع في المعروض النقدي سيُترجم دائمًا إلى التضخم، ولذلك فإن السيطرة على التضخم تتطلب السيطرة على نمو المعروض النقدي من خلال تشديد السياسة النقدية. ولذلك أصبحت السيطرة على التضخم وظيفة شبه حصرية للسياسات النقدية.
تطلق النظرية النقدية أيضًا يد السياسات التقشفية المالية المحفزة للتضخم، على رأسها تخفيض الدعم الذي بطبيعة الحال يسيطر على أسعار السلع الأساسية، خاصة دعم الطاقة. فوفقًا لتلك الأيديولوجيا؛ أيُّ تخفيض للدعم في ظل التشديد النقدي لن يؤدي إلى زيادات كبيرة في الأسعار، نظرًا لعدم زيادة النقد المتداول جراء رفع أسعار الفائدة.
لكن عادةً ما تتجاهل هذه النظرية أنَّ المواطنين لن يتوقفوا عن الأكل والشرب والسكن للتربح من أسعار فائدة مرتفعة، وأنَّ الأسر الأقل دخلًا، التي تشكل نسبةً أعلى من سكان بلدان الجنوب، لا تملك أصلًا فوائض يمكن ادخارها، لهذا من الممكن المجادلة بأنَّ للتشديد النقدي بعدًا مكانيًا وبعدًا طبقيًا، بحيث يسيطر فقط على التضخم بالنسبة للفئات الأعلى دخلًا التي يتكون أغلب إنفاقها من سلع غير ضرورية، وبالتالي لديها فوائض اقتصادية يمكن ادِّخارها، بحيث تستفيد من أسعار الفائدة المرتفعة تلك، وبطبيعة الحال تعمل أيضًا تلك النظرية بشكل أكثر فاعلية في البلدان التي يكون أغلب سكانها من تلك الفئات.