يرى صندوق النقد الدولي أن مشكلة الإدارة الاقتصادية المصرية الأساسية قبل 2022 تمثلت في عدم مرونة سعر صرف الجنيه في مواجهة الدولار، ما "أدى إلى فترات من تراكم الاختلالات، وهو ما أفضى بدوره إلى تراجع الأصول بالنقد الأجنبي لدى البنك المركزي والبنوك التجارية، وترشيد النقد الأجنبي، ودفع البنك المركزي إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري فجأة مقابل العملات الأخرى".
وأدت عمليات تخفيض سعر الصرف تلك إلى ارتفاعات حادة في معدل التضخم، وإضعاف النشاط الاقتصادي، مع فقدان المستهلكين والمستثمرين ثقتهم في سلامة أوضاع الاقتصاد المصري.
ومن هنا، الصندوق يرى أن الحل يكمن في "تحديد قيمة الجنيه المصري على أساس حر أمام العملات الأخرى، أي إرساء نظام سعر صرف مرن، الأمر الذي من شأنه تجنب تراكم اختلالات مزمنة في عرض العملات الأجنبية والطلب عليها في مصر ويحافظ على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي".
ولكن، هل كان الإشكال الأساسي في عدم مرونة سعر صرف الجنيه حقًا؟ وهل تحل مرونة سعر الصرف مشكلة الاختلالات المزمنة في عرض العملات الأجنبية؟
يرى صندوق النقد أن مصر لم تنتقل إلى نظام تعويم كامل للجنيه رغم تعهدها بذلك في نهاية 2016، إذ أن شكلًا ما من التعويم المدار قد استمر، وإن كان بصفة غير رسمية.
ولكن لا يفيدنا الصندوق في تقييمه للأزمة الحالية بأمرين أساسيين لدعم تشخيصه. أولهما: إلى أي مدى كانت قيمة الجنيه مبالغًا فيها في مواجهة الدولار قبل التخفيض الكبير في 2022؟ وهل كان الفارق بين السعر الحقيقي والسعر شبه الرسمي بالضخامة التي تفسر عمق الأزمة اللاحقة؟
وثانيهما: إلى أي مدى استخدم البنك المركزي احتياطياته الدولارية للدفاع عن سعر غير حقيقي للجنيه. لأنه، على ما أذكر، فالأزمة لم تتعمق مع استنفاد البنك المركزي لاحتياطياته في الدفاع عن سعر الصرف، بل عندما خرج ما يربو عن 20 مليار دولار في أقل من ربع واحد في صورة أموال ساخنة، طبقًا لتصريحات رئيس الوزراء عصام مدبولي في مايو/ أيار 2022.
وهو ما قد يشير إلى أن الإشكال كمنَ في نمط استدانة البنك المركزي عوضًا عن استخدام موارده في الدفاع عن سعر الجنيه، لأنه حقًا خفض الجنيه بشكل متتالٍ قبل التوصل لاتفاق مع صندوق النقد، ليرتفع الدولار أمامه من نحو 15.5 جنيهًا في مطلع 2022 إلى حوالي 25 في نهايته، أي بحوالي 61%.
لا يبدو أن الصندوق نفسه كان يرى أن غياب المرونة اللازمة عن سعر صرف الجنيه هو أساس المشكلة في مصر قبل 2022. فبالنظر إلى تقرير الصندوق لأداء الاقتصاد المصري في ضوء اتفاق 2020، يقول في الصفحة الرابعة منه ما يمكن ترجمته إلى "لقد تماشى تطبيق السياسات بشكل عام في ظل اتفاق الاستعداد الائتماني مع أهداف البرنامج، حتى مع بقاء تغير سعر الصرف محدودًا".
تدخل الصندوق اليوم قصير الأجل كالعادة، وقصير النظر كذلك
لماذا إذن تحولت مرونة سعر الصرف إلى جوهر المشكلة بعدها بعدة أشهر في تصور الصندوق؟ أم أن ذلك الأمر مرتبط بكونها النقطة، ربما الوحيدة، التي لم تلتزم بها الحكومة المصرية التزامًا كاملًا مطلقًا في برنامج الصندوق؟
وهو ما يتيح للصندوق، من الزاوية السياسية، التحلل من أوجه العوار الأخرى الكثيرة في صلب برامجه منذ نهاية 2016، مثل ضعف استجابة الصادرات المصرية لانخفاض الجنيه، بإلقاء اللوم على عدم التطبيق الكامل، بما يحيلها إلى الدائرة المفرغة الخاصة بالنظرية السليمة دائمًا أبدًا مقابل التطبيق القاصر والمقصِّر دائمًا أبدًا!
يرى الصندوق أن انعدام المرونة الكافية لسعر صرف الجنيه أدى إلى تراكم الاختلالات، وبالتالي وقوع التخفيض الكبير للجنيه في فترة زمنية قصيرة، وما أعقبه من ارتفاع في معدلات التضخم وتباطؤ في الأداء الاقتصادي بحكم ارتفاع تكلفة الإنتاج.
لا يشغل الصندوق نفسه كثيرًا بجذور هذه الاختلالات، ولا ينبغي عليه، لأنه طبقًا للاتفاق المنشئ له ونظامه الأساسي فإن مسؤوليته هي مساعدة الدول الأعضاء التي تطلب العون منه لمواجهة الاختلالات المالية والنقدية في المدى القصير الذي يمتد لنحو ثلاث سنوات أو شيء من هذا القبيل.
وبالتالي، فإن تدخل الصندوق اليوم قصير الأجل كالعادة، وقصير النظر كذلك. لأن ما يضعه نصب عينيه هو تهيئة المناخ للمزيد من الاقتراض. يقول الصندوق إن "أحد الأهداف المهمة للبرنامج الذي يدعمه الصندوق هو تشجيع الشركاء الدوليين والثنائيين، وكذلك المستثمرين من القطاع الخاص، على تقديم الدعم المالي على نطاق أوسع".
في المقابل، تقع مهمة البحث والتقصي عن جذور المشكلة، ومن ثم محاولة إيجاد حلول لها على المدى المتوسط والبعيد، على عاتق الحكومة المصرية لا على الصندوق، لأن مرونة سعر الصرف لن تعني حقيقةً وفرة الدولار مستقبلًا، ولا عدم وقوع صدمات تضخمية نتيجة انخفاض سعر الجنيه في ضوء هيكل الواردات الحالي.
ويمكن الاستدلال هنا بحالات لدول تعتمد نظام سعر صرف مرن في ظل وجود اختلالات خارجية ضخمة، مثل تركيا أو المكسيك، شهدت انخفاضات كبيرة في قيمة عملتها، وارتفاعات كبيرة كذلك في معدلات التضخم.
ففي تركيا ارتفعت قيمة الدولار من 2.3 ليرة في مطلع 2015 إلى 18.7 في نهاية 2022، أي حوالي 800% في سبع سنوات. وواكب ذلك انفلات التضخم من عقاله من نحو 10% سنويًا في 2014 إلى قرابة 70% في 2022.
وتُظهر المكسيك اتجاهًا شبيهًا، فرغم مرونة سعر الصرف طيلة العقود الماضية، في أعقاب أزمة 1994 التي استهلك فيها المركزي المكسيكي احتياطياته الدولارية في سبيل الدفاع عن سعر البيسو، ارتفعت قيمة الدولار في مقابل العملة الوطنية من نحو 9 وحدات في عام 2000 إلى نحو 25 في منتصف 2020 قبل أن تنخفض مرة أخرى عند 19 في نهاية 2022.
الخلاصة هي أن صندوق النقد ليس هنا لعلاج مصدر الاختلالات الخارجية، التي تجد لنفسها تعبيرًا في انخفاض سعر العملة وما يترجم إليه من تضخم محلي، ومن ثم انخفاض في القيمة الحقيقية للدخول على المدى المتوسط والبعيد. فهذه ليست مهمته، لا بصفة رسمية ولا من الناحية الفعلية.
إنما يتطلب العلاج تدخلات حكومية تبعًا لاستراتيجيات في مجالات التجارة والتصنيع والاستثمار لا السياسة النقدية ولا تنظيم الجهاز المصرفي. وما لم يحدث هذا، وكان ينبغي له أن يحدث ولو جزئيًا منذ 2016 وحتى اليوم، فإن مرونة سعر الصرف من عدمها ستخبرنا بوتيرة الانخفاض وشكله، لا بقدره وتأثيره النهائي. واستمرار عون صندوق النقد يعني بالأساس وجود فترات انتقالية بين أزمة نقد أجنبي وأخرى.