المنصة
تصميم أحمد بلال

هل انخفاض الجنيه ضارة نافعة؟

منشور الأحد 11 سبتمبر 2022

الإجابة السريعة عن السؤال الذي يطرحه العنوان هي نعم، لكنها ليست بالضرورة كذلك.

قد لا يكون صعبًا إقناع القراء أن انخفاضات العملات الوطنية المتكررة فيها ضرر مباشر، لأنها في ضوء الاعتماد على الواردات كغذاء أو وقود أو مستلزمات إنتاج أو سلع نهائية كالسيارات والأجهزة والماكينات، تُترجم إلى ارتفاع في معدلات التضخم.

وهو ما يعني أسعارًا أعلى، وبالتالي تراجع في الدخول الحقيقية للناس وقدرتهم على الاستهلاك، وارتفاعًا في تكلفة الإنتاج يؤدي بدوره إما إلى انكماش أو إلى رفع في الأسعار النهائية، أو إلى كليهما معًا.

ولكن يخبرنا الراسخون في العلم من الاقتصاديين أن انخفاض العملة الوطنية له نفعه كذلك، إذ أنه يخفض من الواردات، لأنها تصبح أعلى تكلفة، ويزيد من تنافسية الصادرات، فالمنتجات الوطنية تصبح أرخص مقارنة بغيرها في الخارج. وبالتالي فإنه إجراء أساسي لعلاج مشكلات العجز في الموازين المختلفة، والتي عادة ما تكون السبب وراء انخفاض قيمة العملة الوطنية في المقام الأول.

هو إذن إجراء تصحيحي، قد يكون مؤلمًا، ولكنه كالدواء المر، وكثيرًا ما يحب أولو العلم من الاقتصاديين استخدام هذا التشبيه، يضر مرحليًا ولكنه نافع في نهاية المطاف.

فلننس أمر النظرية قليلًا، ولننظر إلى مصر، خاصة وأنها تمثل حالة تخفيض كبير في قيمة العملة، الذي جرى مع تبني برنامج صندوق النقد الدولي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016  وتمخض عنه انخفاض بنحو 50% في قيمة الجنيه، فإلى أي مدى انطبقت النظرية الاقتصادية الكلاسيكية في السنوات التالية على هذا التخفيض؟

ترسم بيانات البنك المركزي المصري للسنوات بين 2016 و2020 صورة مفادها أن المكاسب على صعيد الصادرات والواردات كانت في مجملها متواضعة، وبما لا يتوافق مع حجم الانخفاض في قيمة الجنيه. وترجع أهمية تلك السنوات الأربع إلى أنها كانت تالية بشكل مباشر على قرار "التعويم" وسابقة على سنوات الكورونا الاستثنائية بالنسبة للاقتصاد العالمي ككل.

وبصورة عامة يمكن القول إن التأثير الإجمالي على العجز في ميزان التجارة كان إيجابيًا إذ أنه نما بمتوسط 1.3% خلال ذات الفترة

تكشف تقارير البنك المركزي السنوية بين 2016 و2019/ 2020 أن إجمالي الصادرات (بالدولار) نما بمعدل سنوي متوسطه 7% في الفترة 2016 و2020، وكان متوسط معدل نمو الصادرات غير البترولية منها 5.33%. في المقابل، فإن الواردات مقومة بالدولار كذلك (التي تبلغ نحو 2.5 ضعف الصادرات) سجلت متوسط نمو سنوي يقدر بـ3.45%.

وبصورة عامة يمكن القول إن التأثير الإجمالي على العجز في ميزان التجارة، أي الفارق بين ما نستورده وما نصدره من السلع، كان إيجابيًا، لأنه نما بمتوسط 1.3% خلال ذات الفترة، وهو ما كان يعني انخفاضه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إذ نجد أن نسبة الواردات إلى الصادرات قد انخفضت من ثلاثة أضعاف في 2015 إلى نحو 2.3 مرة فحسب. لا يزال الخلل كبيرًا، ولكنه تغيير في الاتجاه السليم ولا شك. 

نخلص مما سبق إلى أن النظرية انطبقت على مصر من حيث المبدأ. ساهم انخفاض قيمة الجنيه بالفعل في زيادة الصادرات وخفض الواردات، ومعها العجز في الميزان التجاري.

ولكن تكمن المشكلة في كم تلك التغيرات، لا من حيث وقوعها من عدمه، وما إذا كان مقدار التغيير يبرر التخفيض الشديد للجنيه، وما صاحبه من تكلفة اقتصادية واجتماعية، وبالتبعية ما إذا كان يبرر المزيد من التخفيضات في الحاضر والمستقبل القريب.

لماذا كانت المكاسب متواضعة إذن؟ تخرج الإجابة هنا عن سياسات سعر الصرف والموازين الخارجية إلى قطاع الصناعة التحويلية في مصر، وإلى معاناته من مشكلات ذات طابع هيكلي تحول دون استجابته بشكل قوي لمحفزات كتخفيض سعر الصرف دون علاجها.

يعترف تقرير للبنك الدولي صدر في 2019 تقديرًا لحال الاقتصاد المصري بعد ثلاث سنوات من تبني برنامج صندوق النقد، بأن استجابة الصادرات المصرية لتخفيض الجنيه كانت ضعيفة (ص29 من التقرير)، وعزا التقرير  ذلك إلى ضعف مرونة الصناعات التصديرية المصرية.

ومفهوم المرونة هنا يعني مقدار الزيادة في قيمة الصادرات مقومة بالدولار أمام كل انخفاض في قيمة الجنيه مقابل الدولار. واعتبر التقرير أن الصادرات المصرية أظهرت أداءً أضعف من حالات شهدت تخفيضات للعملة هي الأخرى، أكثر وأقل، مثل تركيا والمغرب.

ومن ثم كان انخفاض قيمة الجنيه مصدرًا للتنافسية في الأسواق العالمية، ولكنه لم يكن كافيًا نتيجة عوامل ضعف أخرى في القطاع الصناعي نفسه، ومنها انخفاض القيمة المضافة لأغلب السلع التي يتم تصديرها.

علاوة على الاعتماد المفرط على مدخلات مستوردة، لا فحسب للسلع الرأسمالية ذات المحتوى التكنولوجي المرتفع، كالأجهزة والآلات أو الخامات غير المتوفرة محليًا، كجلود الحيوانات والأخشاب والزيوت التي لا مناص من استيرادها، ولكن للسلع الوسيطة كذلك.

وتشكل السلع الوسيطة نحو 46% من إجمالي فاتورة الواردات، وذلك دون إضافة تكلفة واردات الطاقة التي مثلت وحدها نحو 10.5 مليار دولار في 2021. فإذا بانخفاض الجنيه يؤثر على تكلفة الكثير من المدخلات، ويعطل بعض المصانع والصناعات نتيجة عدم توفر المدخلات.

ويضاف إلى هذا وذاك أن القسم الأكبر من قطاع الصناعات التحويلية في مصر موجه للسوق المحلية، فهو يستورد مدخلات من خامات وسيطة ورأسمالية كي ينتج سلعًا تستهلك في الداخل ولا تصدر للخارج. وكثيرًا ما يحدث هذا في ظل إجراءات حماية جمركية وغير جمركية مستديمة، كحال ما يُسمى بقطاع "صناعة" السيارات. 

ويعود هذا إلى ميراث طويل من السياسات والترتيبات المؤسسية الخاطئة الموروثة من زمن مبارك، والتي ثبت أن تصحيحها أمر صعب، ولكنه ليس مستحيلًا وإن استغرق وقتًا ومجهودًا وتنسيقا على المدى المتوسط إلى البعيد.

وهنا قد تلعب سياسة سعر الصرف دورًا هامًا في إعادة توجيه الصناعات للتصدير، أو على الأقل توفير الحافز لزيادة إنتاجيتها وقدرتها على التنافس محليًا ضد المنتجات المستوردة، خاصة وأن تخفيض سعر الصرف وفر حماية مؤقتة ضد الواردات، وخلق طلبًا على السلع المحلية سواء النهائية أو الوسيطة.

من المذهل أن قطاع الصناعات التحويلية نما بمتوسط سنوي بلغ 3.73% بين 2017 و2019 بالتزامن مع انكماش الواردات بنحو 5.54%. ويعني هذا أن جهودًا لاستبدال مدخلات مستوردة محل أخرى حدثت إما على مستوى الشركات أو على مستوى صناعات بكاملها.

وعلى الرغم من أن معاودة النمو ارتبطت في الغالب بإعادة تشغيل طاقات معطلة نتيجة نقص المدخلات وارتفاع أسعار الفائدة وتقلص الطلب مع ارتفاع التضخم، فإن الطاقات هذه لا يمكن أن تعمل من دون تدبير المدخلات في المقام الأول، والتغلب على عدم توفرها أو ارتفاع تكلفتها بعد التعويم.

من الضروري إذن دراسة هذه الحالات بشكل أكثر منهجية وانتظامًا، والتعرف على الخبرات التي تراكمت، والبناء عليها من أجل سلامة التدخلات المستقبلية من جانب الدولة بسياسات واضحة المعالم ترمي إلى التنسيق مع القطاع الخاص من أجل بناء قدراته التنافسية في قطاعات ذات أولوية.

هذا إلى جانب تطوير البنية الأساسية في مجالات كالنقل والاتصالات مع حل مشكلات النفاذ لرأس المال، خاصة التمويلي، والنفاذ للأراضي المخصصة للإنتاج الصناعي أو الخدمي المرتبط بالتصنيع.

ويتضح هنا أن دعم تنافسية الصناعات التحويلية هو أمر يتصل بتعميق القطاع الصناعي، بمعنى تمكين شركاته ومصانعه من إنتاج سلع ذات قيمة مضافة أعلى، وأن هذا يصب في اتجاه بناء التنافسية سواء من أجل التصدير أو داخل السوق المحلية، وأنه عند هذه المراحل الأولى لا يوجد تعارض حقيقي بين الاتجاهين، بل هناك مساحات للتكامل.

وأما الدرس الثاني فهو أن سعر الصرف وسياساته مكونٌ واحد، بل وصغير، ضمن مكونات السياسة التصنيعية. وبدون حضور باقي المكونات، وهي الأصعب ولا شك، ستظل استجابة القطاعات الإنتاجية لتغييرات سعر الصرف مخيبة للآمال.