قبل عدة أيام أودع الصندوق السعودي للتنمية خمسة مليارات دولار لدى البنك المركزي التركي، وعلى الفور اتجه المحللون إلى شرح دلالات ونتائج ذلك على العلاقات السياسية والأمنية بين البلدين الكبيرين، وتداعياته على ملفات مثل العلاقات مع إيران والوضع في سوريا.
ولكن بعيدًا عن خصوصية العلاقة بين تركيا والسعودية ومستقبلها، فإن إيداع المملكة مبالغ مالية كبيرة في البنوك المركزية لدول أخرى غير تركيا، على رأسها مصر وباكستان، بات أمرًا متكررًا إلى حد كبير.
في مايو/أيار 2022، حصلت باكستان على ثمانية مليارات دولار من السعودية في صورة مساعدات نقدية ونوعية (نفطية بالأساس)، كان جزء منها تجديدًا لوديعة بقيمة ثلاثة مليارات دولار سبق وأن أودعتها المملكة في المركزي الباكستاني في ديسمبر/كانون الأول 2021. وفي ديسمبر الذي تلاه قررت السعودية تمديد الوديعة نفسها لفترة أطول.
وبالطريقة ذاتها جددت المملكة وديعتها البالغة خمسة مليارات دولار لدى المركزي المصري في نوفمبر/تشرين الأول 2022، كانت أودعتها في مارس/آذار لدعم الاحتياطيات النقدية الأجنبية، وذلك بالتزامن مع الإعلان عن اعتزام السعودية استثمار 30 مليار دولار في الاقتصاد المصري.
ما الذي يجمع بين تلك الحالات الثلاث، غير الاقتراض قصير الأجل -في صورة ودائع لدى البنوك المركزي- من المملكة العربية السعودية لإنقاذهم جميعًا مما يحيق بهم من أزمات في تدبير النقد الأجنبي جراء اتساع العجز في الميزان الجاري وميزان المدفوعات بشكل عام؟
الليرة التركية والروبيه الباكستانية والجنيه المصري كانت في قائمة العملات الأشد فقدًا للقيمة أمام الدولار
يجمع بين الحالات الثلاث الكثير في واقع الحال. فمبدئيًا هناك بُعد ثقافي وجيوسياسي لا يمكن إغفاله كون باكستان (230 مليون نسمة) ومصر (110 مليون نسمة) وتركيا (85 مليون نسمة) ثلاث من أكبر خمس دول ذات أغلبية سنية مسلمة في العالم (بجانب إندونيسيا 275 مليون نسمة، وبنجلادش 170 مليون).
وإذا ما نحينا إندونيسيا وبنجلاديش جانبًا، فإن البلدان الثلاث الباقية؛ مصر وباكستان وتركيا، تتداخل وبشكل مكثف وعميق مع الترتيبات السياسية والأمنية الإقليمية الخاصة بالخليج العربي، وبالأخص إيران.
ولكن بجانب تلك العوامل الثابتة، الديمغرافية والثقافية، فإن الدول الثلاثة طالما عانت من أزمات متكررة في تدبير النقد الأجنبي اللازم للوفاء بالتزاماتها الخارجية، سواء المتعلقة بتمويل الواردات أو سداد المديونيات، وهو ما ساهم في تدهور قيمة عملاتها أمام الدولار، ويصاحب ذلك عادة ارتفاع كبير في معدلات التضخم المحلية.
وبالفعل، فإن الليرة التركية والروبيه الباكستانية والجنيه المصري كانت في قائمة العملات الأشد فقدًا للقيمة أمام الدولار خلال 2022. كما أن الاقتصادات الثلاثة تواجه معدلات تضخم مرتفعة بشدة على وقع تدهور وضعها الخارجي، حيث فاق التضخم السنوي في باكستان ومصر مطلع 2023 مستوى الـ 30% في مقابل 60% في الحالة التركية.
ديون عاجلة وهيمنة خليجية
لا يخفى بالطبع أن التضخم المرتفع ظاهرة شائعة هذه الفترة، تشمل العديد من بلدان الجنوب العالمي، نتيجة لارتفاع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي من ناحية، وارتفاع أسعار المواد الأولية خاصة الغذاء على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا من ناحية أخرى.
لكن اللافت في حالة البلدان الثلاثة، تركيا وباكستان ومصر، هو تعرضها لأذى مالي ونقدي كبير نتيجة لاعتمادها المتزايد على أشكال مختلفة من التمويل قصير الأجل في السنوات القليلة الماضية لتوفير حاجتها من النقد الأجنبي.
تكشف بيانات البنك الدولي أن الدين الخارجي قصير الأجل كنسبة من احتياطيات النقد الأجنبي خلال السنوات الخمس الماضية (2017-2022) مثَّل 28.7% في مصر و50.3% في باكستان و122.3% في تركيا.
ويعني هذا بوضوح أن حكومات تلك الدول اعتمدت وبشكل مكثف على الديون قصيرة الأجل لبناء احتياطياتها، ما جعلها عرضة لحركة الأموال الساخنة من جهة، وارتفاع تكلفة تمويل ديونها من جهة أخرى، عندما شرع الفيدرالي الأمريكي في رفع سعر الفائدة في 2022.
الودائع السعودية خاصة في حالتي مصر وباكستان تتزامن مع مفاوضات أو اتفاقات مع صندوق النقد الدولي
مخطئ من يظن أن مشكلات مصر وباكستان وتركيا استثنائية وسط بلدان الجنوب العالمي إذ أن الضغط على قيمة العملات المحلية جراء اتساع العجز في الموازين الجارية ضرب العديد من الدول الأخرى، بل إن الدول الثلاث محل المناقشة في هذا المقال ليست هي الأكثر تضررًا لا من حيث تدهور قيمة عملتها ولا من حيث ارتفاع معدلات التضخم المحلية مقارنة ببلدان مثل زيمبابوي وغانا ونيجيريا وبالطبع سريلانكا ولبنان من قبل.
ولكن في المقابل، فإن البلدان الثلاثة ليست ككل البلدان من الزاوية الجيوسياسية كما سبقت الإشارة، ولا يخفى على أحد أن تركيا استخدمت موقعها المتميز وعضويتها في حلف شمال الأطلنطي وتماسها مع عدد من الأزمات الكبرى، سواء الحرب الروسية أو الأزمة السورية أو تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط إلى أوروبا، لتضمن استمرار قدرتها على تمويل ديونها قصيرة الأجل، التي بلغت نحو 50% من صادراتها السلعية والخدمية ودخلها الأولي في 2021، أي قبل اشتداد وقع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
ويصدق الأمر نفسه مع باكستان، في ضوء كونها واحدة من تسع دول نووية في العالم. ولا يحتاج الأمر الكثير من الشرح في حالة مصر.
بالطبع مما يثير السخرية أن أدوات كالودائع لدى البنوك المركزية هي نفسها ضرب من ضروب التمويل قصير الأجل الذي يزيد الضغط على الاحتياطيات الأجنبية لتلك الدول، وبالتالي لا يوفر حلًا أو مخرجًا حقيقيًا من الأزمات التي تعصف باقتصاداتها، ولذلك فإن الودائع السعودية، خاصة في حالتي مصر وباكستان، تتزامن مع مفاوضات أو اتفاقات مع صندوق النقد الدولي، وبما يهدف بالأساس لانتشال هذه الدول الحليفة والشقيقة من العجز عن تدبير احتياجاتها الأساسية أو التخلف عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية.
حتى الآن، ناقش المقال اللجوء لأدوات الاستدانة السياسية -في صورة ودائع حكومية في بنوك مركزية- من زاوية الدول المّدينة، ولكن ماذا يعني الأمر نفسه بالنسبة لمملكة العربية السعودية ووضعها في العالم؟ وكذا دول الخليج الأخرى صاحبة الفوائض المالية الدولارية الضخمة؟
لقد غدا الخليج العربي وبلدانه المصدرة للنفط من المراكز القليلة للتراكم الرأسمالي الضخم في عالمنا اليوم، بجانب دول مثل الصين واليابان وألمانيا. ولكن خلافًا لتلك الدول فإن أغلب دول الخليج لديها مساحة مالية للتوسع في سياسات تمويل لدول أخرى بحكم قلة السكان، واندماجها في أسواق المال العالمية كدول مصدرة لرأس المال في صورة استثمارات تأتي بصور متعددة.
ويبدو أن تكرار سيناريو اللجوء للودائع في البنوك المركزية صار سمة متكررة بين أكثر من دولة لجأت لدول الخليج، وهو مؤشر على التعويل المتزايد على الخليج لاستخدام فوائضها المالية كحل لإنقاذ أطراف النظام الرأسمالي، حتى الآن.
ولكن ليس بالضرورة أن يقف الأمر عند هذا الحد في ضوء تفاقم أزمات الاقتصاد السياسي العالمي سواء مع استمرار الحرب في شرق أوروبا أو التصعيد المتزايد من جانب الصين، إذ لا يُستبعد أن تخبيء الأقدار لدول الخليج دورًا في إنقاذ بعض دول المركز نفسه من عثرات مستقبلية، ربما بريطانيا أو إيطاليا، من يدري؟