
الفقر في مصر.. تقديراته وتأثيراته
معدلات الفقر بمصر في ازدياد مستمر خلال الفترة الأخيرة؛ فإن كانتْ أحدث بيانات رسمية أكدت ارتفاع نسبة الفقراء من السكان من 25.2% في نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2010-2011 إلى نحو 30% في 2020، ورغم امتناع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن تحديث بيانات الفقر منذ خمس سنوات، فإن خبيرة من هذا الجهاز قدرت أن الفقر استمر في التصاعد حتى بلغ 35.7% من السكان في عام 2023.
في ظل غياب البيانات، سنحاول تقدير إلى أين وصل الفقر في مصر تحت ضغوط السياسات المحفزة على التضخم خلال السنوات الأخيرة، وما ملامح الفقر في مصر التي تجعله لصيقًا بالفقراء فلا يستطيعون الفكاك من قيوده على المدى الطويل.
تحت خط الفقر
لا نملك القدرة على إجراء استطلاع على مستويات دخل وإنفاق المواطنين مثل الذي يجريه جهاز الإحصاء لمعرفة مستويات الفقر الحالية، لكن نستطيع إعادة حساب خط الفقر بالاعتماد على سعر صرف الدولار، الذي مر بثلاثة تعويمات كبرى منذ ظهور آخر بيانات عن الفقر.
حسب تقديرات جهاز الإحصاء في 2019/2020 فإن من يتدنى دخله الشهري تحت مستوى857 جنيهًا يكون من الفقراء، ومن يقل عن 550 جنيهًا يصنف تحت الفقر المدقع، أي أن أسرةً من أربعة أفراد بدخل شهري آنذاك 3428 جنيهًا هي أسرة فقيرة، والفقر المدقع أقل من 2200 جنيه للأسرة.
في عام 2020 كان سعر صرف الدولار يساوي 15.7 جنيه، وفي 2025 وصل إلى 50.5 جنيه، بالتالي فإن خط الفقر الوطني لو جرى حسابه مقومًا بسعر الدولار في 2025 سيصل إلى 2757 جنيهًا للفرد، وهو ما يعادل 11 ألف جنيه للأسرة. وخط الفقر المدقع 1769 جنيهًا للفرد، أي أكثر من 7000 جنيه للأسرة.
ما الذي تعنيه هذه الحسابات؟ نستطيع تخيُّل الأعداد الضخمة التي تقع تحت مستوى الفقر حاليًا إذا ما لاحظنا أن خط الفقر المدقع للأسرة يتجاوز الحد الأدنى للأجور، أي أن شريحةً كبيرةً من العاملين بأجر، وليس العاطلون والمتسولون، مصنفون ضمن الفئات "شديدة الفقر" التي تعاني بالكاد من أجل تدبير قوت يومها.
ملامح الفقراء في مصر
تعكس بيانات آخر بحثين للدخل والإنفاق، صادرين عن جهاز الإحصاء، ملامح متكررة لحياة الفقراء في مصر، منها مثلًا تركز الفقر جغرافيًا في ريف الوجه القبلي، الذي تصل فيه معدلات الفقر إلى نحو 43%، ما يشير إلى عدم العدالة في توزيع الاستثمارات العامة وسياسات الحماية الاجتماعية جغرافيًا، ليظل الفقر يتجدد في هذه المنطقة طالما استمر غياب التوازن في التوزيع.
من الملامح المتكررة أيضًا انتشار الفقر في أوساط المتعلمين، ليصل إلى 9.4% بين الجامعيين أو أصحاب المؤهلات الأعلى، ما يشير إما للحاجة لإصلاح سياسات التعليم من أجل توفير وظائف بدخل أفضل لهذه الشرائح، أو أن سوق العمل تقدم أجورًا متدنيةً حتى لأصحاب المؤهلات العليا ما يجعلهم من العاملين الفقراء.
ولا شك أن هناك حاجةً لإصلاح التعليم في المجمل، فعلى الرغم من انتشار الفقر بين حملة المؤهلات العليا، فهو أشد افتراسًا للأقل تعليمًا ويصل لأعلى معدلاته بين الأميين عند 35.6%. كما أن هناك حاجةً لإصلاح سياسات العمل في القطاع الخاص، إذ إن نسبة الفقراء العاملين في هذا القطاع تتجاوز 80% من الفقراء المشتغلين.
من الظواهر المتكررة أيضًا ارتفاع معدلات الفقر بين الأسر التي تتولى أمورها النساء، ما يشير إلى الحاجة لسياسات تستهدف حماية المرأة العائلة على وجه الخصوص.
من المفترض أن معاشات تكافل وكرامة النقدية تستهدف بدرجة كبيرة مساعدة النساء، لكنَّ هذه الحماية تفقد معناها في ظل تدني قيمة هذه المعاشات، إذ يقتصر متوسط الدعم الموجه للأسرة على 900 جنيه فهل تكفي هذه القيمة لتوفير حماية اجتماعية للفقراء وفقًا لمستوى الفقر ومعدلات التضخم وارتفاع الأسعار؟
ماذا عن حقوق الأطفال الفقراء؟
التسرب المدرسي ظاهرةٌ ترتبط بالفقر، حيث ينقطع الطالب عن الدراسة، أو لا يكمل المراحل الأولى من تعليمه، مما يؤثر عليه سلبًا ويعوق نمو المجتمع وتطوره وتقدمه في مختلف مجالات الحياة، وتحدث هذه الظاهرة للعديد من الأسباب التي ينبغي تسليط الضوء عليها لمعالجتها، وبالتالي حل هذه المشكلة.
يكشف الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن أرقام صادمة للمتسربين من التعليم بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية وفقًا للنوع على مستوى الجمهورية، إذا بلغ إجمالي المتسربين نحو 150 ألف طالب خلال، منهم 28 ألف طالب بالمرحلة الابتدائية، و121 ألف طالب متسرب خلال المرحلة الإعدادية.
رغم تعدد الأسباب وتشعبها وراء التسرب من التعليم فإن القاسم المشترك بينها هو الفقر، مثل أن يدفع العوز إلى التزويج المبكر للطفلات، أو الاضطرار لإخراج الطفل من التعليم إلى سوق العمل.
يأخذنا هذا للحديث عن مشكلة عمالة الأطفال، فقد نشرت المجلة المصرية للسكان وتنظيم الأسرة في يونيو/حزيران 2023 دراسةً أثبتت أن الطفل الذي ينتمي لأسرة فقيرة أكثر احتمالًا للدخول إلى سوق العمل، وأنه كلما ارتفع عمر الطفل يزيد احتمال دخوله إليه، وأن الطفل المقيم بالمناطق الريفية أكثر عرضةً للدخول إلى سوق العمل مقارنة بالطفل المقيم في المناطق الحضرية. وأن الفقر يزيد من احتمالات عمالة الأطفال.
إجمالًا فإن الفقر يولد المزيد من الفقر، ولا يمكن مواجهته إلا أولًا بالوقوف على بيانات حديثة ومفصلة عن أحوال دخل المصريين، ثم البحث في مسببات الفقر وعلاجه من جذورها.