"128 جنيه سعر كيلو العنب يا مدام"، صدمة جديدة تلقتها ياسمين وهي تشتري الفاكهة الأسبوعية. تضحك ساخرة وتقول لـ المنصة، "صنف جديد ينضم لقائمة المحرمات".
تعمل ياسمين علي في مجال الصحافة منذ ما يزيد عن 20 عامًا، ولديها طفلان، "أنا وجوزي دخلنا الشهري بيوصل حوالي 30 ألف جنيه، لكنه أصبح لا يكفي".
هنفطر إيه النهارده؟
"كان ممكن قبل تعويم 2016 نمشّي أمور البيت بحوالي 2000 جنيه في الشهر"، تقول ياسمين التي تعيش في السادس من أكتوبر، "النهاردا لا تكفي 10 آلاف جنيه الأكل بس، غير فلوس الكهربا والمياه والغاز والدروس الخصوصية اللي بتاكل نص المرتب".
شهدت مصر على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة موجات متتالية من التضخم، مدفوعة بالارتفاعات المتتالية لسعر صرف الدولار أمام الجنيه، من مستوى 8.88 جنيه للدولار في 2016 إلى 49 جنيهًا حاليًا. وكان لسعر الصرف أثر مباشر في أسعار الغذاء، بالنظر لاعتماد مصر على استيراد نحو 40% من احتياجاتها الغذائية.
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، اتجهت ياسمين لإعادة النظر في كميات وأصناف الطعام التي تستهلكها أسرتها بعد تأثير الحرب على ارتفاع التضخم العالمي في أسعار الغذاء، الذي انعكس على مصر.
اكتشفت إن الفرخة ممكن نطلّع منها أكتر من أكلة ممكن نقطع الفرخة 8 قطع بدل 4 زي زمان
"في بند الفطار والعشاء كنا بنجيب علبة جبنة دومتي ملح خفيف، كيلو بخمسين جنيه، النهارده وصلت 150 جنيه، فاستبدلتها بماركات تانية أرخص، وبعدين استبدلتهم للمرة التالتة بالأنواع السائبة"، تقول ياسمين، التي توقفت بنهاية 2023 عن شراء "الجبنة الشيدر والجودة.. اكتفيت بالجبن الرومي".
أما عن البسطرمة فتقول "بعد ما وصل سعرها حوالي 900 جنيه للكيلو، بقيت أجيب تُمن كيلو، وبحط للأولاد قطع صغيرة مع البيض أو البيتزا".
شهد معدل التضخم قفزات كبيرة خلال العام الماضي، بلغت ذروتها في سبتمبر/أيلول مع تجاوزه 40%، متأثرًا بأزمة شح النقد الأجنبي والزيادات المتسارعة في سعر صرف الدولار في السوق الموازية.
عانت يمنى أحمد، ربة منزل، بصفة خاصة بسبب ارتباط مدارس ابنتيها بالدولار، كونهما تدرسان تحت نظام الثانوية الأمريكية، ما جعلها تتقشف في مكونات الوجبة المدرسية من أجل ضمان استمرار التعليم.
يعمل زوج يمنى مستشارًا في إحدى المصالح الحكومية، "مع إن دخلنا بيوصل 30 ألف في الشهر لكنه لا يكفي، وفيه حاجات بستغنى عنها" كما تقول ربة الأسرة لـ المنصة.
وتقدم يمنى مثالًا "بناتي الاتنين بيحبوا الجبنة البري الفرنسية، سعرها وصل في الأنواع المستوردة إلى 300 جنيه. رُحت لوصفات النت، واشتريت جبنة قريش، أضربها في الخلاط وأحط عليها مُكسبات طعم علشان تبقى شبها".
تشرح ياسمين كذلك كيف وصل بها التقشف إلى لانش بوكس الأطفال "كنت بحط قطعة شوكولاتة وعلبة عصير صغيرة. السنة دى مقدرتش لأن علبة العصير وصلت لـ 10 جنيه، كده بقت ميزانية تانية، وطبعا الشوكولاتة".
راح زمن البط
قبل سنتين كانت أسرة ياسمين تأكل البط والحمام مرة في الشهر، ولكنهما انضما لقائمة المحرمات بسبب القفزات السريعة في أسعارهما "في 2022 كان سعر كيلو الفراخ بين 30 و40 جنيه، النهاردا وصل أكتر من 130 جنيه".
أما عن اللحوم، "ممكن مرة كل أسبوعين، والاعتماد أكثر على اللحوم المفرومة والمجمدة، وممكن أشتري من منافذ القوات المسلحة أو أمان، وأفرمها وأطلع منها برجر أو كفتة أو سجق".
تتابع ياسمين صفحات على فيسبوك لوصفات أكلات رخيصة، وأكل "أورديحي"، للوصول لطرق تساعدها على استخدام أقل كميات ممكنة من البروتين الحيواني مع الحفاظ على المذاق المعتاد للأكل.
وتعبر يمنى أيضًا عن اهتمامها مؤخرًا بمتابعة نفس الوصفات "طريقة إعداد الفراخ اتغيرت تمامًا، بعد ما كنا نسلق الفرخة كاملة لوجبة واحدة، اكتشفت إن الفرخة ممكن نطلّع منها أكتر من أكلة، ممكن نقطع الفرخة 8 قطع بدل 4 زي زمان".
تأخذ يمنى ما تبقى من الدجاجة، الرقبة والأجنحة والهيكل، وتسلقها لتحصل على الشوربة، وتخزنها لتستطيع طبخ الخضار بها لاحقًا دون الحاجة إلى وجود دجاج. "وبعدين بطلّع النساير من اللي سلقته، لأستخدمها في أي أكلة، زي شاورما، أو صينية جلاش، أو أخلطها ببطاطس وأعمل منها بانيه كدّاب".
وتحكي ياسمين عن اتجاهها مؤخرًا للاعتماد بقوة على شراء الكبد والقوانص، "وممكن نطبخها مع المكرونة أو الرز وتبقى أكله فيها بروتين بسعر رخيص".
يتسق ما ترويه ياسمين ويمنى مع سلوك ملايين الأسر في مصر مؤخرًا، حيث تكشف دراسة لجهاز التعبئة العامة والإحصاء عن أن ما بين 90-95% من الأسر خفضت استهلاكها من عناصر البروتين الحيواني بعد حرب روسيا على أوكرانيا.
كان لهذا النمط الجديد أثر سلبي في الصحة، كما لاحظت يمنى، فبسبب التركيز على النشويات من مكرونة وأرز زاد وزن ابنتها الكبرى البالغة 16 عامًا و"بقت تتكسف تروح المدرسة".
كما أثّر ارتفاع تكاليف تربية الحيوانات بقوة على أسعار الألبان والبيض، الذي ترى يمنى أنه يمثل اختبارًا صعبًا بالنسبة لها نظرًا لأهميته في نمو الأبناء "الألبان والزبادي أسعارهم زادت بطريقة فظيعة، لكن لا يمكن الاستغناء عنهم، والبيض اللى كان سعر الكرتونة 50 جنيهًا في 2022، وصل حوالي 165 جنيهًا".
أشياء لا تُشترى؟
تخفيض البروتين وحده لا يكفي لوقف نزيف النقود، في ظل الارتفاعات المتسارعة في أسعار الخضراوات والفاكهة التي تجاوز معدل التضخم فيها 100% خلال سبتمبر الماضي.
"طبعًا أصبح فيه حاجات لا تُشترى" كما تتحدث ياسمين عن أسعار الفواكه وهي تستدعي بوست مشهور على فيسبوك يستخدم سطر الشعر المعروف لأمل دنقل للسخرية من ارتفاع الأسعار.
في قائمة المحرمات تضع ياسمين "التفاح، اللي وصل إلى 90 و100 جنيه للكيلو، المانجو اشتريتها مرة واحدة الموسم الماضي، والخرشوف الواحدة بقت بعشرة جنيه. وكمان الكميات بقت أقل، ممكن كيلو بدل اتنين".
كل ارتفاع واحد في المائة في معدل التضخم يقابله تراجع القوة الشرائية للطبقة الوسطى بنفس النسبة
ماذا حدث للطبقة الوسطى؟
الدكتورة هبة الليثي أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة تشير إلى أن الطبقة الوسطى عانت صدمات متوالية خلال السنوات الأخيرة، بدأت من تداعيات وباء كوفيد إلى حرب أوكرانيا وتراجع الجنيه، وما فاقم من آثارها هو غياب الحماية الاجتماعية عن هذه الطبقة، والتركيز على توفير الحماية للطبقات الدنيا.
تقول الليثي لـ المنصة إن ما زاد من آثار الأزمات الأخيرة هو تدهور ظروف العمل، لأن الطبقة الوسطى لم تستفد من انخفاض معدلات البطالة، فالوظائف الجديدة كانت بدرجة كبيرة غير رسمية، وتقدم أجورًا بالكاد فوق الحد الأدنى للأجور.
"ارتفاع التضخم بقوة أثّر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، فكل ارتفاع واحد في المائة في معدل التضخم يقابله تقريبًا تراجع أو تآكل مباشر في القوة الشرائية لمواطني الطبقة الوسطى بنفس النسبة" كما يقول محلل القطاع الاستهلاكي ببنك الاستثمار النعيم القابضة هشام حمدي لـ المنصة.
تفكر ياسمين كثيرًا في موقعها الطبقي وهي تتجول في السوبر ماركت، وتقول وهي تتذكر فيديو ساخرًا على يوتيوب "كل ما هتروح سوبر ماركت هتلاقي نفسك نزلت درجة في الترتيب الهرمي، أنا بقول دائما لزوجي، إحنا ماشين مع الموجة، بنعيش اليوم بيومه، أهم شيء تعليم الأولاد، ده الاستثمار الأهم يمكن يعرفوا يخرجوا بره البلد".